عالم نحو اللاقطبيّة
الدين والعلمانية .. إعادة التقييم في مفهوم الدولة «1-2»
يبدو أن فلسفة الجدل الدائر بين ثنائية الدين والدولة لها امتيازها الخاص في تشكيل الوعي العربي وواقع الفعل معًا، فهي إن لم تكن أصيلة بالنسبة لنمط التفكير الإنساني باعتباره العام، فهي بالضرورة تكون محل اشتغال بالنسبة للوجدان العربي الممتد زمانيًّا ومكانيًّا، خاصة والمجتمعات الإسلاميّة والعربية تتحين التغيير إلى ما يستعيد مكانتها التاريخيّة والحضارية؛ استعدادًا للدخول في نسق الفعل الديمقراطي ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. يأتي مثل هذا القول وتمظهرات الانكماش اللافت والسريع للهيمنة الأمريكية وبروز قوى استراتيجية واقتصادية أخرى، فالقلق يسود الدوائر الرسميّة والشعبيّة في أمريكا وغيرها منذ نشر تقرير للاستخبارات الأمريكية يحذر من أن أمريكا في طريقها إلى أن تفقد هيمنتها بحلول العام 2025 وصعود بلدان أخرى كالصين والهند وروسيا، إلا أن المثير للجدل ما أشار إليه التقرير بأن العالم سيدخل في موجة صراعات حادة على الماء والغذاء والطاقة، بل ويتعاظم خطر الإرهابيين فيما إن تمكنوا من الحصول على أسلحة نووية! وما زالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومن خلالها تقاريرها تشير إلى استمرار الأزمة الكارثيّة الماليّة إلى ليس بالقصير حتى يستعيد النظام المالي العالمي توازنه من جديد هذا إذا ما توافرت خطة متكاملة لذلك.
بالتالي على العالم العربي والإسلامي أن ينتهز هذه الفرصة لإعادة الحسابات من جديد؛ من أجل أن يحسم صراعه مع التخلف، فإن كانت الأمور وفي وقت من الأوقات تسير في خط واحد مع المواربة للسياسات الاستبدادية والشمولية التي أغرقت مجتمعاتها في مستنقعات التراجع والاستهلاك، فإن ما يحدث اليوم من تغييرات استراتيجية في موازين القوى الكونيّة، فإن ولا شك سيساهم في تعميق الأزمة بشكل أكبر إذا لم تبادر أنظمة العالم العربي والإسلامي في مصالحة شعوبها عبر وثاق الفعل الديمقراطي بمتطلباته كافة، أي بناء الدولة ومقوماتها الحضارية؛ لأنها الضمانة للتكاتف والتوحد أمام طوفان التغيير القادم، ليعبر عن إرادة ديمقراطيّة عربية قوية؛ ولأن يكون التغيير بيدي لا بيد عمر!. فليس ثمة أفضل من هذا الوقت بالنسبة للعالم العربي والإسلامي لكي تتوافق قواه الداخلية والخارجية في اتساق مشترك يمنحها القدرة للدخول في عالم جديد، بحيث يكون هذا العالم قادرًا للانضواء مع صانعي الفعل الحضاري بكل شرف.
ومما لا يدع مجالا للشك وبالعودة إلى جدل الثنائية وتجاذبها، فإنها تبقى محل اشتباك مستديم لدى الذاكرة المعرفيّة المعاصرة، بمعنى ومن خلال هذا السياق جاءت محاولات فكريّة عديدة للمقاربة الموضوعيّة ما بين الدين والدولة وقياس مواطن الاشتغال ما بينهما، بمعنى أن معظم هذه المحاولات وإن لم تخرج من أطرها النظرية، فهي بشكل أو بآخر تُعد أشبه ما يكون بمحطات جدلية تسهم في إعادة إنتاج الواقع بشكل مكثف ومستمر، إذ لا يقتصر الأمر على ما تفرضه طبيعة العلاقة بصفتها العامة، بقدر ما نخلص من معالجات محاكيّة لطبيعة الواقع العربي وتشكيلاته المتداخلة، إلى الحد الذي يؤسس إلى حياة جديدة للإنسان العربي المعاصر، تأتي انعكاسًا عن منظومة متماسكة للدولة الحديثة بكل أبعادها السياسيّة، خاصةً وجذوة اللهاث تُجاه الديمقراطيّة صارت الهاجس لمثل هذه المجتمعات، والتي باتت تواقة لنظام سياسي حديث، يكفل لها وجودها الحضاري والتاريخي، في ظل متغيرات كونيّة عظيمة، لا سيّما والنظام الرأسمالي ما يفتأ يترنح أثر الأزمة الاقتصادية الشديدة، والتي لا يُعتقد أن تسترد معظم الدول الدائرة حول فلكها عافيتها على المدى القصير، مما يؤشر إلى دخول العالم كله في مخاض اللاستقرار، ولعلّ ذلك يطول حتى تتضح معالم الرؤية الجديدة لنظام متعدد الأقطاب - ولا تُستثنى أمريكا من جملة هذا التعدد - بعد موجة شهدت من خلالها تراجع لنظام الليبراليّة الغربية. وكل ذلك ما من شأنه أن يُدخل العالم العربي في دهاليز أخرى تكون أشد إرباكًا وتعقيدًا. ولأن التغيير يُعد من السنن الظاهراتيّة، فبقاء الحال من المُححال، إلا أن إيماننا بالتغيير وقناعتنا به هو أكثر أهميّة من التغيير نفسه، بمعنى أن الوعي ينبغي أن يُرسخ لدينا قناعة الفعل الثقافي الدؤوب الذي لا يصمد إلا بتفاعل الشريحة المتوسطة على نحو موازٍ مع الحراك الذي يأخذ طابعًا نخبويًّا على المستويين الثقافي والسياسي.
جدليّة الدِّين والسياسة
لا شك أن الفكر الإسلامي مر بمراحل عديدة إزاء موقفه من الغرب، بدأ بما اصطلح تسميته بالفكر الإصلاحي بعد عملية اتصال وثيقة ما بين الشرق والغرب، حيث كان أبرز رواده الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، شهدت هذه المرحلة حالات من النقد والمراجعة للذات، وتواصلت حتى انتهى بها المطاف إلى آخرين كـ سيد قطب ومصطفى السباعي اللذين ساهما بشكل جلي في دفع مسيرة الإصلاح، فقد كتب سيد قطب في العدالة الاجتماعيّة، وخاض السباعي مناقشات عديدة عندما طرح اشتراكيّة الإسلام، وكل ذلك كان في مرحلة ما قبل الاستقلال والتي يُعد حراكها المعرفي بمثابة ترهص إلى مرحلة جديدة؛ أي نشوء الدولة الوطنيّة تأسيسًا لفكرة أن الإسلام دين ودولة وكان ذلك في منتصف الستينات من القرن الماضي، حيث طرأ على مستوى الفكر الإسلامي مفاهيم جديدة كمفهوم الحاكميّة أو الصحوة أو الإسلام والحل حتى أطلق نعت الأسلمة على الأدب والمسرح والإعلام وغيرها. ومفهوم الحاكميّة في الفكر الإسلامي الحركي المعاصر يعود إلى الداعية أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، وقد استلهم سيد قطب مؤسس الإخوان المسلمين، وتتلخص الحاكميّة في الدولة الثيوقراطيّة والقائمة على عقد الصلة بين مفهومي القانون الإسلامي والدستور، وبالرغم من تغاير الفهم تجاه مفهوم الحاكميّة، إلا أن معظم الحركات الإسلاميّة وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين وبعد أن تلقفتها كمفهوم جعلها تنزح إلى مواقع متقدمة من المواجهة مع النظم السياسية المعاصرة. بعد أن أكسبتهم نزعتهم للحاكميّة قداسة التحرك في مجاهدة الحكومات باعتبارها سلطات مفقودة الشرعيّة، باعتبار أن الشرع والحاكميّة حقان خالصان لله عزّ وجلّ، بالتالي تصبح الديمقراطيّة بوصفها الوظيفي انقلابًا على الشرعيّة المقدسة ومرسخةً للعلمانيّة، حيث فصل الدين عن السياسة.
وبالعودة للتاريخ وفي بداية العصرين الأموي والعباسي نلحظ الغياب الواضح لمفهوم الدولة بشكلها التكاملي، والذي ساهم بشكل كبير في إطلاق التأويلات المتعددة تُجاه مفهوم الدولة، فيما يتعلق بالاتجاهين السياسي والديني، فكما تميل بعض النخب المعرفيّة إلى أن الإسلام: دين ودولة، مصحف وسيف، حكم وقضاء. أي الإسلام السياسي وهذا ما ذهب إليه الشيخ حسن البنا، فأيضًا هناك من كان على نحو مختلف مع هذه الرؤية، مشترطًا نهوض العالم الإسلامي بفصل الدين عن الدولة، وجعله أمرًا خاصًا بين العبد وربه، منطلقين من رؤية ليبراليّة تعزى تخلف العالم العربي إلى الاستبداد. ومن هنا بدأت المحاولات ولا تزال لفك الاشتباك الدائر، والتأسيس لرؤية حديثة تنسجم ومعطيات الدولة المعاصرة والحديثة. فذهبت هذه المحاولات للبحث عمّا يؤانس ويوافق ما بين الدين والدولة على ادعاء أن هذه الأخيرة بالإمكان توظيف الأداء لديها ينصب في رعاية الدِّين وحمايته، فلا ندري مثل هذا القول هل يستمد طاقته من بحث تفصيلي للتأريخ السياسي أم هو مجرد تسليم للأمر الواقع فلا سبيل للمعالجة إلا بالتوافق والتساكن فيما بينهما! يبدو أن العالم العربي والإسلامي محكوم عليه بالعزلة والانكفاء، فإذا ما أراد أن يتعاطى رهانات الحاضر عليه أن يعود إلى دفاتر الماضي للبحث عن تجربة تكون بالنسبة إليه كطوق نجاة من غرق محتم، إلا أنه ما أن يفكر بالعودة، فهو يضل طريق العودة للحاضر من جديد؛ نتيجة ارتطامه بالعديد من المستغلقات سواء كانت من نتاج الماضي أو من خلال مكتسبات صيرورة الحاضر. فلا تثريب للاندفاع تجاه الدولة الحديثة وبكل المقاسات والمعايير، لكن الهوة واسعة الاتساع ما بين المثال والواقع، وما بين فكرة الحلم، فكرة الدولة الإسلاميّة المثاليّة وواقع الأزمات والتحديات المحدقة بالإنسان العربي، فالدولة الإسلاميّة التي تناسل نمطها وفق الدولة العربية القديمة - الأموية والعباسيّة - على الرغم من احتضانها للوجود الإسلامي على امتداد القرون الثلاثة الماضية، إلا أنها لم تتمكن من رسم تصور للمشروع الحقيقي للدولة حسب المواصفات الحضارية، حيث الحرية والعدالة والمساواة، وفضاءات الحوار والتسامح والعيش المشترك.
وفي المقابل النظرة المختلفة المعززة لفكرة الفصل بين الدِّين والسياسة، باعتبار أن هذه الأخيرة ما هي إلا جهدٌ بشريٌ لا تحمل أي طابع من القداسة، كما أن الدِّين وفق هذه النظرة يكون دينًا خاصًا بين العبد وربه، وهذا على العكس من فكرة أن الدِّين الإسلامي دينٌ للأمة بشكل عام. وفي هذا السياق تبدو العلمانيّة أحد مفاتيح الحل لأزمة عميقة تعيشها مجتمعاتنا العربية، على اعتبار أن الوضع العربي الراهن بات بأمس الحاجة لترسيخ مفاهيم الحرية والمواطنة والحداثة تجسيدًا للرؤية العصرية والتي ليس شغلها الشاغل هو عزل الدِّين عن السياسة كنسخة كربونية من التجربة العلمانيّة التي سادت أوربا منذ ثلاثة قرون وأكثر، إنما المسألة منوطة بتكريس السلوك المُحفز للبحث عن إشكاليات التغاير والتباين لتشخيصها ومحاولة الانفتاح على كل مفاصلها الدقيقة، إذ لا وجه للتعارض ما بين الدين وما يتوسله الإنسان العربي المعاصرة من معطيات تمنحه كل الفرصة للتزود بمكتسبات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ومدى انسجامها مع فضاءات العالم الحديث، وأعتقد أن الإسلام بوصفه دينا متحركا في الفهم خاصة فيما يتعلق بالأمور التطبيقيّة، فإن الأمر لا يعدو مختلفًا بالنسبة للعلمانيّة أو الديمقراطيّة أو الحداثة بكل تفاصيلها، مع الفارق النسبي لهذه الأيديولوجيات ذات الأثر البشري. فليس بمستغرب أن تتماهى ثقافة سلوكية ما بين الجهتين: الدين الإسلامي والحداثة ومكوناتها المعاصرة. لتصبح مثل هذه الثقافة إطارًا فكريًا ملائمًا للفعل الديمقراطي. وأعتقد بأن التجاذب هذا يكشف عن نظرتين اثنتين: الحاكميّة والعلمانيّة إزاء مفهوم الدولة. بين الدولة المستبدة والدولة العلمانية. ومحاولة قياس كل تجربة بصورة موضوعيّة، كذلك ما تعكسه من آثار على الفعل الإنساني. وفي هذا الصدد ليس من المقبول أن يكون الدين الأممي ألعوبة حسب الهوى السياسي، في الوقت الذي يشدد ابن خلدون مثلا على أن وظيفة الدولة تكمن في حفظ الدين وسياسة الدنيا، وليس من المقبول أيضًا التقيّد بصورة نمطيّة تختزل مفهوم الدولة في الانعزال والانكفاء بمبرر المحافظة على الدِّين، وفق المنطق الراديكالي، أن هذا الإنسان مرتهنٌ للفهم البشري الواحد للدين، أي التعامل معه باعتباره آلة صماء تعيش الحاضر بعقليّة الماضي!
ولو عدنا لجدليّة العلاقة بين الشأن السياسي والديني انطلاقًا من الأزل اللاهوتي وربط ذلك بتاريخيّة الفعل الاجتماعي وما يشهد هذا الفضاء من تنافس حاد بين السياسي من جهة والديني من جهة أخرى، أي السلطة السياسية والدينية، فلا وجه للغرابة إن أسفرت النتائج وحسب السيرورة التاريخية أن السياسي كان متألقًا حين خرجه عن إطار الدين، ففي أوروبا مثلا وفي القرون الوسطى بالتحديد، أي في الفترة التي لم تتشكل الدولة بعد حسب المفهوم العلماني، والتي شهدت ترهصًا كبيرًا نتيجة لتداخل حقائب العمل ما بين الدِّيني والسياسي حينها، وقد كان للتو يطور هذا الأخير قاعدته المعرفيّة إزاء استقلاله عن الكنيسة، خاصة وأنه قبل أن يتجه للسياسة كان متدينًا، والزمان ساهم بشكل كبير في إثبات عجزه لإدارة الشؤون السياسية بعقلية رجل الدين والكنيسة، مما جعل من رجال الدين أنفسهم اللجوء إجبارًا على إعادة النظر بمواقعهم تجاه الحكم السياسي باعتباره غير مستقر ويتطلب المتابعة والبت الآني في شؤون الناس. حتى جاءت العلمانيّة كحل اعتباري لفض هذا الاشتباك الذي لم يكن على صعيد المعرفة فحسب، بل بلغ إلى حد إراقة الدماء وكثرة التضحيات. وقد تشكلت على إثر ذلك الحدود ما بين السلطة الزمنية (=السياسية) والسلطة الروحية (=الدينية). وما كان ذلك ليحدث لولا حالة الارتخاء إزاء التشكل التدريجي ما بين الطرفين خاصة الديني منه، يتجلى الأمر عندما أظهرت البابوية من جانبها خصوصية دورها تجاه الإمبراطورية بإعلانها للمصدر الشعبي بصلاحيات الأمير وفق شرعة الكنيسة والأصل الإلهي. بمعنى أن النتيجة التي توصل إليها الغرب تجاه فكرة العلمنة بأن السلطة السياسية تتولد من رحم التفاعل الاجتماعي، بينما الكنيسة، فهي مجموعة مكونة من رجال دين يتسمون بالروحانية، بل ودورهم لا يتعدى ذلك، فالعلمانيّة على هذا الأساس تمييز بين إرادة الله وإرادة الإنسان.
فالعلمانيّة باعتبارها الأيديولوجي لا يمكن أن تكون في مقابل النص الديني إنما هي فكرة تولدت من رحم التجربة البشرية في أوروبا وقد تبلورت بصورة تدريجية، فهي على هذا الاعتبار أعطت الدولة حصتها في شؤونها التدبيرية في إدارة المجتمع بكل تشكلاته الاثنيّة والمذهبية والفكرية، وذلك بالقضاء على كل ما يشي بالتناقضات والنزاعات والصراعات، والتي هي إفراز طبيعي لما يحدث اليوم في الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي، وهذا ما يتأكد أيضا في تاريخ الدولة السياسية عند العرب بالذات، فكما يقول المفكر المغربي عبدالله العروي إن الدولة العربية على طول مسارها التاريخي كانت حريصة جدًّا كلَّ الحرص على تكريس الصفة الإسلاميّة بحيث تنتفي الصفات الأخرى كافة كالمذهبيّة والقبليّة والجنسيّة، كما أنه - أي العروي - يرى أن مقولة الإسلام دين ودولة تقوم على واو الربط الدال على التساكن بين الدين والدولة وليس على أساس الاندماج والانصهار. وهذا ما تترجمه معظم الدول الغربية التي بذلت مساعيها الحثيثة للربط ما بين التقدم العلمي وبين الأخلاقيات كالعدالة وسيادة روح القانون. وبموازاة ذلك يذهب المفكر عبدالوهاب المسيري لإعمال الفكر للبحث عن نقاط التقاء ما بين الدِّين الإسلامي والعلمانية فيما يتعلق بمفهوم الدولة، فهو على هذا الأساس لا يُعد العلمانيّة كلها شرٌ مطلقٌ، خاصة وهو يميّز ما بين العلمانية الجزئية وما يسمى العلمانية الشاملة، فهذه الأخيرة تطلق اليد للدولة على الدِّين. بينما العلمانيّة الجزئية وهذا ما كان يدفع إليه المسيري نفسه بأنها تتموضع في المجالين الاقتصادي والسياسي في الوقت الذي تترك الفرصة لتحرك القيم الدينية بكل حرية. وأعتقد أن المشهد المعاصر لبريطانيا مثلا خير مثال على ذلك، فهو على اعتبار بأنها دولة علمانيّة، لكنها تتيح مبدأ الحرية للممارسات الدينية، كارتداء الحجاب بالنسبة للمرأة المسلمة وغيرها. بينما على العكس ما يحدث اليوم في تركيا الدولة العلمانيّة بامتياز، والتي أخرجت بعض الممارسات الدينية - كارتداء الحجاب - من طابعها الخاص إلى العام! فالعلمانيّة إذن، معنية أساسًا بدور الدين في الحياة، وهي تقوم على الفصل بين الدِّين والمجال العام، وتلك هي العلمانية المعتدلة أو الجزئية، والتي تجعل الدين شأنًا خاصًّا وشخصيًّا وفرديًّا.
إنّ حسم الجدل الدائر لأكثر من قرنين حول مفهوم الدولة - باعتبارها وحسب أرسطو هي إحدى التنظيمات البشرية التي تستهدف تحقيق المصلحة والخير الخاص بالبشر - بات اليوم مطلبًا مُلحًا ليس من قبل النخبة فحسب، بل أصبح في متناول الوعي الشعبي والمدني بصورة لافتة، ولأن الدولة - حسب أرسطو - بنتاجها العام هي إحدى التنظيمات البشرية التي تستهدف تحقيق المصلحة والخير الخاص بالبشر، ويعزز ذلك ما يعكس الإعلام العربي في الآونة الأخيرة عبر العديد من البرامج الحوارية فضلا عن المؤتمرات والندوات، إضافة إلى المكونات المدنيّة والتي وعلى الرغم من أنها في طور البناء، إلا أنها بالإمكان أن تؤسس إلى حراك إيجابي قادم لا محال، ولا أبالغ إن قلت إن مثل هذه المرحلة التي يمر بها العالم العربي أشبه ما يكون بعنق الزجاجة، حيث التغيير الذي يفرض اشتراطاته. وإنه لمن المستحيل التقدم نحو الحرية والديمقراطية من دون الخروج من التناقضات الاجتماعية العميقة والقفز فوق مسألة التمييز الديني أو المذهبي أو القومي، على مستويات الحياة العامة والخاصة كافة. وحتى النخبة الذين يتحرزون من النطق بالعلمانيّة خشية التصنيف أو التهميش والإقصاء، هم وعن طريق آخر يتداولون الفكرة عن طريق آخر، وبعناوين أخرى موجبة لإحلال الديمقراطيّة والدولة المدنيّة والتي تحمل في مضامينها كل الاستقلال ما بين السلطة الدينية من جهة والسياسية من جهة أخرى. وإلا ألم يكن مشروع النهضة العربية في فترة من الفترات، بمجمله، قائمًا على مسألة العلمانية والحرية والديمقراطية، مع ما يستتبع ذلك بالطبع من احترام التعدديات الثقافية والسياسية وحماية حقوق الإنسان؟
خلاصة القول
في نهاية المطاف أعتقد أن الوقت قد آن لبلورة خطاب نقدي للعلمانيّة على مستوى العالم العربي المضي بدراسة فعليّة تعتمد الجدة والموضوعيّة تجاه هذه التجربة البشريّة، فمن دون الوصول للنضج لأهمية الدور الذي بالإمكان أن تقوم عليه وبه في عملية التغيير والتجديد لن نصل إلى نتيجة، خاصة والعلمانيّة باعتبارها الأيديولوجي تُعد نظامًا عقلانيًّا يقبل المرونة والتطويع دون أن تفقد محتواها وما تتركه من أثر في الفضاء الاجتماعي في تنظيم العلاقات ما بين الأفراد والجماعات والمؤسسات المدنية، وما بينك كل ذلك والدولة، كل ذلك على أساس القانون الذي يستمد طاقته من الواقع الاجتماعي، لتستوي أطياف المجتمع كافة بمختلف فئاته بصرف النظر عن عنصر الانتماء للمذهب أو القبيلة أو العرق.
للحديث تتمة،،
-----
صحيفة الوقت البحرينية. العدد 1056 الأحد 14 محرم 1430 هـ - 11 يناير 2009م
التعليقات (0)