العلاقة بين علماء الدين والسياسة علاقة الليل والنهار من جهة والبيضة والدجاجة من جهة أخرى. ولا يمكن تحديد من هي الطائفة الناشئة عن الأخرى أو الأكثر تأثيرا من الأخرى علي الشعب والأمة. وأكثر من ذلك لا نستطيع القول بأن السياسيين هم الذين يستخدمون علماء الدين أو أن علماء الدين هم الذين يستخدمون السياسيين لتحقيق أغراضهم, ولكن نؤكد القول أنهما طائفتان تعتمد كل منهما علي الأخرى, دون تقدير لخطورتهما معا علي المجتمع, ولاسيما المجتمع الفاقد للحكمة, قليل الثقافة المتخلف المفكك, المفتقد إلي قائد حازم حكيم يضبط إيقاعه, وعالم مستنير يؤلف بين الناس ولا يؤجج فيهم مشاعر الحقد والكره. إن تاريخ الأمة الإسلامية قد شهد أزمات طاحنة بسبب التعصب والتفرق المذهبي الديني, كما شهد أزمات أكبر بسبب الاختلاف السياسي وتعارض المصالح, واختلاف التحالفات مع الشرق والغرب. ويتناسى أو يهمل الحكام والعلماء غالبا أن هناك وسطيين بين السياسيين وعلماء الدين وعامة الناس لا يقرون بهذه القطبية ويرون في اختلاف الأهواء والتوجهات والانتماءات سنة كونية, فليس من المعقول أن يخلق الله الناس علي تطابق وتماثل. وهذه الطائفة الوسط هي التي تقر بأحقية الناس في الاختلاف, شرط ألا يؤدي ها الاختلاف إلي تناحر وصراع يضر كل أطرافه. إن مسؤولية ضبط المجتمع ووضعه علي طريق السلامة والازدهار يقع في حقيقة الأمر علي عاتق الوسطيين لأن طرفي المعادلة يحتاجان إلي علامة التساوي وإلا صارت متباينة تميل لجانب دون آخر ومن هنا تبدأ الكوارث. ولكن من أهم عوامل بعد هذه الطائفة الوسطية عن مراكز الحكم فقدانها لأسباب القوة حيث أنها تميل إلي العدالة والتوفيق بين أطراف المجتمع ولا تستخدم الوسائل المعروفة للوصول إلي مراكز القرار ومن هنا فإن قوتها تقل دائما عن القوة الفاعلة للمتطرفين سياسيا ودينيا فضلا عن عزوفها عن استخدام الوسائل المفتقدة للأخلاق في تحقيق أي من أهدافها المثالية وبالطبع فإن ذلك ينافي الطبيعة الإنسانية الغالبة ويجافي إمكانية الوصول إلي الحكم والسلطة. وحتى لا نفقد الأمل أو نبث روح اليأس نشير إلي أن المخرج من هذه الحلقة الجهنمية المقفلة ممكن وبسهولة ويسر بجهود العلماء والسياسيين والمثقفين الوسطيين وهم قادرون بالتأكيد علي تعديل مسار السياسة والخطاب الديني معا حتى يكون في صالح المجتمع سامحا باختلاف العقيدة داعيا للوحدة والتماسك ومقوما للمسار السياسي بما يريح الناس ويرفع شأن الدولة. وأثناء هذه العملية التي قد تمتد إلي عقد من الزمن أو أكثر لا بد من قطع الطريق علي المتطرفين من علماء الدين الذين يبثون أفكارا تدعو إلي الفرقة والتجاذب, والسياسيين الذين يتبنون طريقة إقصاء المعارضين, وتجريم الأحزاب المعارضة. إن السبيل إلي الإصلاح لا بد أن يستخدم كل الوسائل من أول منابر المساجد إلي كل الوسائل التثقيفية والإعلامية والكتب والسينما وحتى الأغنية. ونذكر القارئ بما كان عليه الشعب العربي في فترات الشعور العالي بالقومية والوطنية حتى بلغ الذروة في حرب 73 وأثناءها وكيف ساعد الإعلام والخطاب الديني الداعي إلي فكرة الجهاد والتضحية في تحقيق النصر. إن تكوين المشاعر الصادقة التي تبني ولا تهدم, سواء في مجال الأخلاق أو الانتماء, سهل علي من يربي الشعب منذ طفولة أبنائه, وعنفوان شبابه وحكمة رجولته, إذا كان المشروع الوطني حاضرا ظاهرا محترما رافعا لمستوي معيشة الفرد, محققا لآمال الشباب, واضعا الدولة في مكانة عالية بين الأمم, متمشيا مع ثوابت الدين والخلق ومصلحة المجتمع دون تمييز بين طبقاته, هو الضمانة للتغيير السلمي المفيد. وإذا فإنه من الواجب العمل علي تثبيت منهج الوسطية باستخدام لغة جامعة بعيدة عن التجريح والسب والهجوم بين السياسيين المحليين والدوليين ولاسيما في الدول الصديقة أو المجاورة أو المشتركة معنا في إقليم واحد يتأثر كله بما يصيب بعضه. وكذلك فإن منهج الوسطية, واحترام أتباع مذهب ديني لنظرائهم في مذهب آخر, أو أتباع أديان يعيشون معا في مجتمع واحد, هو أول شروط السلم الأهلي, الذي يؤدي بدوره إلي سلامة المجتمع وصموده أمام العدو الخارجي, بما يعود علي المواطن البسيط بالأمن والعيش اليسير. وزبدة القول فإن اللسان العفيف هو البداية, ويعقبه السماحة في الاختصام, والسهولة في المعاملة والعدالة في القضاء, وتواضع الكبار والرحمة للضعفاء, وتقديم مصلحة الشعب المكافح علي مصالح المحتكرين بقدر ما تسمح به الظروف, وإحكام القبضة علي الأمن في ظل حكومة عادلة يقيمها حاكم قوي حازم مختار منتخب محبوب معترف به من أغلب الفرقاء وليتذكر الجميع أن السفينة إذا خرقت فلن ينجو أحد. إن الفكر التوفيقي والتسامح لن يكونا منهجا مختارا بين الناس قبل أن يكون منهجا للحكومة, ولن يتحقق بالإرادة الشعبية قبل أن تجبر الحكومة شعبها علي التوسط, ولن يتوسط الشعب حتي يحكمه رواد إصلاح, ولن يحكم الدولة رجال إصلاح حتى تكون الثقافة العامة وأخلاق الناس منضبطة تحت سقف التعايش بين طبقات المجتمع وطوائفه, وهكذا نصل إلي أن البداية هي التربية المنوطة بالطبقة الوسطية من المثقفين والكتاب والمعلمين ورجال الدين وأصحاب الرأي والمفكرين الوطنيين غير أولي الإربة, إن ثقافة المجتمع هي تجميع لثقافة أبنائه, وحضارته تجميع لمعارفهم وعلومهم وأخلاقهم وتعاملاتهم, وينتظم ذلك كله تحت قضاء عادل, وقانون يخضع له الناس سواسية. نحن لا ندعو إلي المدينة الفاضلة فليس لها في الكون وجود وإنما ندعو إلي مجتمع يقترب بقدر الإمكان من الهدوء ويبعد عن الظلم والاستئثار وإن ما ندعو إليه أن يشارك الوسطيون بأقلامهم وخطاباتهم في إذابة الجليد بين المذاهب والأحزاب وأن يقربوا بين الأطراف المتعارضة ويحثونهم علي حصر الخلاف فيما لا يضر. إن الكلمة هي مقدمة معاهدة السلام الاجتماعي, وهي أيضا قرار الحرب والصراع, وهي وقود الفتنة المذهبية, وهي التي ترفع في أعلي الجنة, وهي التي تلقي في قعر جهنم. إن الخروج من حلقة التردي الجهنمية بفرعيها وهما رجال الدين والسياسة الذين يتعاونون علي النفع المتبادل ويحكمون القبضة علي الأمة يكون في يد الوسطيين المعتدلين والذين يعملون علي التجميع والتوفيق لا علي التفريق والتمزيق ورغم أن هؤلاء الوسطيون يفتقرون إلي القوة والسلطة بطبيعة صفاتهم وأخلاقهم التي تمنعهم من سلوك طرق السياسة الملتوية أو لي النصوص الدينية لتتوافق مع الحكم السائد قادرون علي تغيير الواقع بالبدء بالإعلام وتربية النشء لتعذر إصلاح من تعدي مرحلة الشباب. إن التطرف السياسي بإقصاء المعارضين والتطرف الديني بإقصاء المخالف في المذهب وتجريمه وتكفيره باطل بطرفيه, وليس لحزب أن يحظر الآخر فليس لأي من طرفي العلاقة تفوق علي خصمه ولأن الحاكم في بلادنا لم ينتخب وكذلك المسؤول في كل موقع خدمي أو إنتاجي فلن يكون للوسطيين مكان والخلاصة في عجالة ليس من الممكن في ظل هذه الحال إلا التغيير البطيء أو الثورة تحت قيادة رائدة من الوسطيين لها تاريخ وطني تقبع في زوايا الحكومة أو خارجها يساعدها تأييد الشعب في فترة لا تزيد عن فترة رئاسة واحدة حتي يتحرك الدم الساكن في عروق الأمة
التعليقات (0)