قوة إقليمية كبرى ولدت من رحم الانتخابات:
الديموقراطية العراقية: أنقذت مشروع بوش وبددت الأوهام...ودشنت العراق الجديد
ممدوح الشيخ
"العراق أكبر من أن تحكمه دولة أخرى" هذا التصريح لإياد علاوي هي مفتاح فهم ثمار الانتخابات الأخيرة في العراق.
فصندوق الانتخابات أثبت أنه "أصدق أنباء" من أوهام الواهمين ممن راهنوا على إلحاق العراق بإيران ومن أسكرتهم فكرة إعادة عجلة الزمن إلى الوراء في انتظار "صدام جديد"، ومن جلسوا بانتظار انطلاق رصاص الحرب الأهلية ومن رحمها ميلاد كيانات طائفية تنشر الخراب شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
التداول طوى للأبد صفحة العنف والاستئثار وحقبة الزعيم الفرد والحزب الواحد
أول ثمار الانتخابات العراقية ميلاد "التداول على السلطة" قويا يافعا، لا شكلا إجرائيا فرضه المحتل بل كخيار ترتضيه النخبة السياسية العراقية بأطيافها كافة، وضمن ذلك من ظلوا حتى وقت قريب يرفضون "مبدئيا" إجراء الانتخابات تحت الاحتلال. وقد ولد التداول بريئا من تهمة التدخل الأميركي ولم يقل أي من المتنافسين إن تدخلا أميركيا حدث في الانتخابات بأي صورة، ما يعني أن علاقة ثقة في أن الوجود العسكري الأميركي هو وجود لحفظ الأمن لا لإملاء الخيارات السياسية، وإلا فإن التأثير الإيراني الكبير حاضر بقوة ولم تحاول أميركا منازلته سياسيا على الساحة العراقية، محتفظة بخصومتها الحادة مع طهران – إلى حد كبير – خارج أجندتها السياسية في العراق.
ومن يتأمل الخطاب السياسي السائد في العراق يجد أن المنطق الذي يحكمه تحول – إلى حد كبير – من تبرير كل طرف حقه في الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين، إلى تقديم مبررات أحقيته في السلطة بأمل أن يترجم الناخبون هذه الأولوية عبر صندوق الانتخابات وهو تحول تاريخي.
وقد نجح الرهان على دفع أشد خصوم أميركا تشددا لقبول خيار "التداول على السلطة" وهذا بحد ذاته نجاح كبير لمشروع جورج بوش تحقق بعد أن غادر البيت وقد دفع ثمنا كبيرا لخياره تاركا الثمار للديموقراطيين. بوصفه خيار
معدل التصويت أكد تصاعد حضور السنة وتراجع تماسك الشيعة ونهاية خيار المقاطعة
شكلت نسبة المشاركة في الانتخابات العرقية الأخيرة ميلاد حقيقة أخرى هي أن الانتخابات كآلية أصبحت تحظى بثقة أكبر من المواطن العراقي العادي وأن ما يقرب من أربعة عقود من الحكم الاستبدادي وعدة سنوات من العنف الوحشي والتحريض الطائفي والتنبؤات المتشائمة والسيناريوهات الكئيبة لم توصل العراقيين لليأس، لا من المستقبل ولا من جدوى الانتخابات كوسيلة لبناء عراق جديد.
وقد جاءت نسبة المشاركة لتؤكد أن الشارع العراقي كان أكثر تفاؤلا من النخبة العراقية، فكانت نسبة 62 %، هي من أعلى النسب في العالم ولا تتحقق في كثير من الديموقرطيات العريقة ولا في المجتمعات الأعلى تعليما.
ومن السمات الفارقة في التصويت أيضا أن التصويت السني فاق الشيعي، ومع هذا التحول فإن من المقبول القول بأن السنة وصلوا إلى حالة من الفاعلية السياسية ترشحهم لأخذ نصيب عادل من النفوذ السياسي، فيما الشيعة الذين حقق لهم حرصهم المبكر على المشاركة القوية في الانتخابات وتماسك كتلتهم التصويتية سابقا على الحصول على الجزء الأكبر من الكعكة السياسية سيتحول تأثيرهم إلى حجمه الطبيعي، مع تضاؤل الاندفاع ذي الدوافع المذهبية، وهو ما تعكسه اتجاهات تصويت من شاركوا بالفعل من السنة والشيعة معا.
وقد شهدت هذه الانتخابات تصويتا من السنة لصالح قائمة المالكي الذي كان رهانه الأكبر على أصوات الشيعة، كما شهدت تصويتا من الشيعة لقائمة إياد علاوي الذي كان رهانه الأكبر على أصوات السنة. وبالتالي فإن الكتل التصويتية الكبرى بدأت تنقسم وفقا لرؤى ومواقف سياسية وحسابات وطنية وهو شرط موضوعي لنجاح أية تجربة ديموقراطية، وليس من المبالغة القول بأن هذا التحول نضج بأسرع مما توقع المتفائلون، وبالضد مما روج المتشائمون.
ويمكن القول بأن الإجماع العراقي الجديد هو "التغيير بالتصويت لا بالتفجير"، ولعله الإجماع الوحيد الذي تحقق منذ زوال النظام البعثي، وباستقراره فإن الفرقاء سيبدوأن بالانصراف إلى البحث عن برامج انتخابية رؤى إصلاحية وتصورات للمستقبل بعد أن ضيع كثير منهم سنوات في صياغة خطاب يبرر المقاطعة والانعزال وبناء كهوف الأوهام تجسيد الأشباح.
نعم لثقافة المفاوضة والمواءمة والحلول الوسط وقبول إمكانية الهزيمة دون مرارة
وفي الانتخابات الأخيرة قال العراقيون "نعم" لثقافة المفاوضة والمواءمة والحلول الوسط وقبول إمكانية الهزيمة دون شعور بالمرارة والأمل بالانتصار في جولة تالية دون تفكير في الانتقام، فالتداول يعني التعدد، والتعدد يعني التعايش، والتعايش يفرض القبول بإمكانية الانتقال من قلب المشهد إلى هامشه والعكس.
ومن يتأمل نتائج الانتخابات يدرك أن النسب التي عكستها النتائج النهائية للانتخابات هي بحد ذاتها فرصة لتدريب الفرقاء على التلاقي مع المخالفين والخصوم لأجل تحقيق النصاب الدستوري لتشكيل الحكومة، وربما لو فازت قائمة واحدة بالأغلبية المطلقة التي تمكنها من تشكيل حكومة دون حاجة للائتلاف مع غيرها لكان المردود على الثقافة الديموقراطية الوليدة أقل. وفي التجربة اليابانية مثلا احتفظ الحزب الليبرالي بالسلطة لأكثر من خمسة عقود دون انقطاع تقريبا.
وعندما تترسخ هذه الثقافة، المفاوضة والمواءمة والحلول الوسط، فإن السياسية العراقية سيكون لديها منظور لمفاهيم الخلاف السياسي والاختلاف (المذهبي والإثني والعرقي) والمنافسة، وستكون هناك فرصة لتبلور تقاليد سياسية لا ترى التنازل عن بند أو بنود من الأجندة لأجل التوصل للتوافق السياسي شيئا مؤلما أو ماسا بالكرامة.
من الأحلام الجامحة إلى الواقعية ومن تمني تمزيق العراق إلى الطموح لبنائه ومن الخوف من الجوار إلى مصافحته
كان العراق منذ زوال النظام البعثي ساحة أوهام مخيفة غذاها ماضٍ ملطخ بالدم وحاضر ترسم ملامحه القنابل ومستقبل غارق في الكآبة، كان كل طرف يتهم الآخر صراحة أو ضمنا بإخفاء مخطط لتمزيق العراق، فالشيعة متهمون بالسعي لسلخ الجنوب لإلحاقه بإيران لتحقيق حلم/ كابوس إنشاء إمبراطورية شيعية، والأكراد متهمون بالسعي لسلخ إقليم كردستان لإنشاء "كردستان الكبرى"، وهكذا. من المؤكد أن بين كل طائفة أقلية أكثر تشددا كان يراودها مثل هذا الحلم / الكابوس.
وقد كانت الانتخابات الأخيرة بشكل أو آخر استفتاء على طي صفحة هذه الأحلام الكابوسية، فلم تقاطع فئة من ألوان الطيف السياسي العراقي الانتخابات بأمل نزع الشرعية عن "العراق الموحد" كخطوة سابقة على تأسيس مشروعية العراق "المتشظي" بل ذهبت الأغلبية من التيارات السياسية لتؤكد أن الحفاظ على وحدة العراق ثروة وليست قيد.
وقد كانت الرغبة في كف يد تدخل الجوار السوري والإيراني في الانتخابات أكبر من أي انتخابات سابقة، صحيح أن هذا التدخل ما زال قائما لكن الوعي به يزداد بين المرشحين والناخبين اقتناعا بما قاله إياد علاوي عندما أكد أن: "العراق أكبر من أن تحكمه دولة أخرى".
ميلاد قوة إقليمية كبرى..وفاعل ثقافي حضاري مهم..ونموذج قادر على التأثير..بل ربما كان قابلا للتصدير
والعراق الذي لا يمكن أن تحكمه دولة أخرى استكمل بالانتخابات الماضية القسم الأكبر من شخصيته الجديدة، فهذا البلد ليس مجرد لاعب سياسي مهم بل هو فاعل ثقافي حضاري كبير، فالدور الثقافي للعراق والتأثيرات التي يتوقع أن يحدثها إقليميا كبيرة جدا.
بشعب يتمتع بمستوى تعليم عالٍ نسبيا، وثروة نفطية كبيرة، وموقع يؤهل البلد لأن تكون "يابان الشرق"، ولدى العراقيين ما يستطيعون البناء عليه من رصيد الماضي القريب والبعيد. فإذا وصلت العراق لنقطة توازن سياسية تترجم نفسها في استقرار أمني، من المحتمل أن تشهد عودة قسم لا يستهان به من المغتربين العراقيين، حاملين معهم من الخبرات والثروات الكثير مما يمكن أن يفتتح صفحة جديدة من التأثير المتعدد الأوجه إقليميا.
وهذا الدور الإقليمي الذي لا ينقصه سوى تحقق الاستقرار السياسي، هو بعينه ما يخيف الأنظمة المستبدة المجاورة للعراق، ليس فقط لجهة تغيير الأوزان النسبية لهذه الدول، (تقليص دور دمشق لحساب بغداد – تراجع قم وتقدم النجف – .. ..) بل لجهة طرؤ تغير نوعي يتمثل بنضوج نموذج ديموقراطي في حوض جغرافي يحكمه الاستبداد، ما سيعني غياب التناغم في منطقة مضطربة وسقوط المبررات التي يرددها النظامان الإيراني والسوري لتبرير الواقع الخانق المفروض على الشعبين السوري والإيراني. وبالتالي فإن النظام العراقي ليس فقط مرشحا للتأثير، بل ربما يكون – وهذا هو الأخطر بنظر دول الجوار – قابلا للتصدير!.
نهاية الصعود الديني العارض والعودة للاعتدال و"العلمانية المؤمنة"....والتوازن بين الديني والسياسي
شكل الوعي الذي عكسته اتجاهات التصويت في الانتخابات العراقية نهاية الصعود الكبير للتيارات الدينية ووصول المجتمع – عبر التصويت – إلى مواءمة بين حضور الدين في ساحة السياسة، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على الفضاء السياسي "مدنيا"، ولم هذا تراجعا عن الانحياز للدين كمكون رئيس للهوية في العراق، بل كان نوعا من إعادة النظر لحدود دور الدين في العملية السياسية.
فالأحزاب الدينية لم تتحول إلى العلمانية بمعناها الغربي الكلاسيكي بل أنضجت خطابا سياسيا أكثر مدنية وأقل طائفية، وفازت رغم ذلك بنصيب لا يستهان به من الكعكة. أما العلمانيون فطرحوا أنفسهم كبديل عن الطائفية لا عن حضور الدين في ساحة الشأن العام وهذا فارق دقيق لكنه شديد الأهمية. وقد حاول البعض صياغة مصطلح يعبر عن الصيغة العراقية الجديدة فوصفها بـ "العلمانية المؤمنة". والعلمانية المؤمنة، هي إنهاء للتوجه الإقصائي أو الإلحادي للعلمانية.
وقد أثبت سلوك المرجع الديني الشيعي أية الله علي السيستاني قدرا كبيرا من الحنكة السياسية مرات في مواقف فارقة، فرغم تأثيره الطاغي اختار الحياد غير المراوغ واضع مكانته الدينية فوق التجاذبات السياسية، وعندما افتقر العراق إلى سياسي يتحدث باسمه بعد سقوط النظام وقف السيستاني موقفه الشهير أمام مبعوث الأمم المتحدة سيرجيو دي ميلو مصرا على بدء مسار ديموقراطي بخلاف ما كان يتم الترتيب له. وعندما كان قانون الانتخابات النافذ حاليا قيد الإعداد حسم بكلمته الجدل مصرا على قانون انتخابات غير طائفي، وخلال عدة تجارب انتخابية نأى بنفسه بشكل صارم عن أن يكون منحازا لأيٍ من المتنافسين.
وبهذا الحياد أرسى السيستاني تقاليد علاقة غير صراعية بين الدين والسياسة، وهي من ملامح النموذج الجديد الذي تخشاه دول الجوار وبخاصة إيران التي كانت تتخيل أن عراق ما بعد صدام حسين سيكون ساحة لتجربة ولاية الفقيه.
شيعة العراق يصوتون لعروبته و"البوابة الشرقية" تتحول إلى جسر للتلاقي الحضاري والثقافي
من السمات الملفتة في اتجاهات التصويت في الانتخابات العراقية الأخيرة ميلاد تصور جديد لدور العراق في محيطه الإقليمي بعد عقود من الصراع العبثي مع الداخل والخارج، بسبب الخلل الكبير في التصور الذي كان سائدا لدور العراق في عهد الحكم البعثي. فمقولة "البوابة الشرقية" التي اختصرت دور العراق في أن يكون مصدا بوجه خطر "فارسي" حتمي انتهت إلى غير رجعة. صحيح أن ثمة من يفكر في إنشاء إمبراطورية فارسية تبتلع جنوب العراق، لكن هؤلاء يظلون أقلية، فضلا عن أن التمني وحده ليس مبررا لأن يجيش العراق كل موارده لعقود لحماية "البوابة الشرقية"، ومن المؤكد أنه ليس من الحكمة أن تحدد أمة خياراتها الرئيسة اعتمادا على أوهام الأكثر تطرفا من أبناء أمة أخرى!
والتحول في موقف الأطياف السياسية العراقية المختلفة من العالم لي مقصورا على العلاقة مع الجار الشرقي، فبعد سنوات من التلميح والتصريح بأن حلم كردستان الكبرى يقترب تؤكد ممارسات النخبة السياسية الكردية أنها تثمن غاليا ما حققته في إقليم كردستان ويرتد جادة أن تكون عامل استقرار بل جسرا بحق بين أنقرة وبغداد، ما يعني أنها نجحت في تحويل "العبء" إلى "حافز". وسيكون العراق قادرا على التحول من حاجز إلى جسر، وإذا أحسن استغلال ما يربطه بإيران من روابط مذهبية سيكون مرشحا بنجاح لدور الجسر في العلاقات العربية الإيرانية، وإذا نجح الأكراد في استثمار الملف الكردي ليكونوا جسرا بين تركيا والعالم العربي، فسيكون العراق الجديد قد ولد كبيرا..تعدديا..مبشرا..ومؤهلا عن جدارة لدور إقليمي كبير.
التعليقات (0)