مواضيع اليوم

الديمقراطية ذلك المجهول

د.هايل نصر

2011-08-25 08:24:02

0

الإنسان عدو ما يجهل. الديمقراطية  في عالمنا العربي من "المجاهيل" , إن لم تكن المجهول الأول شكلا ومضمونا. لم يكن لها في منطقة حساسة مثل المنطقة العربية أي حضور فعلي طوال التاريخ. نُودي بها هنا وهناك في كتابات ومواقف بعض المثقفين, وان لم تكن عندهم مسالة ذات أولوية, ومع ذلك متى كان يُؤخذ المثقفون في حسابات مغتصبي السلطة, ومتى كان للمثقفين سلطة؟.
لا غرابة  في أن تتجذر الأنظمة السياسية الشمولية في الغياب المطلق لأي نوع من أنواع الديمقراطية, وان  يفرز كل منها زعيما أوحدا, بالوحدانية الشرقية. ولا غرابة أن يحيط  هذا الأوحد نفسه بشبيحة بدرجة وزراء, أو أمناء وزارات,  أو نواب في مجالس نيابية ليس من مهامهم تمثيل الشعب, يترشحون كمشاريع شبيحة, وينتهون شبحية كاملي العضوية, بين آخرين من شبيحة أمنية محترفة وشبيحة حول أمنية احتياطية وجاهزة للنفير, في خدمة الزعيم. لا غرابة أن يصبح التشبيح مهنة  وظيفة أساسية  في خدمة الطغيان, وإفراز طبيعي من افرازاته.
فترات تطبيق الديمقراطية عبر التاريخ ــ خارج منطقتنا المحصنة ضدها ــ كانت قصيرة في احتساب عمر الأنظمة السياسية التي سادت. عرفت تحديات في عالم  كان غالبا مضطربا. لم تكن بعد قد اغتنت نظريا ولا أنضجتها التجارب العملية القصيرة. وعليها تقوم الدولة الأمنية الشمولية.
شاب تطبيقات الديمقراطية أخطاء وعيوب.لا يمكنها, والى اليوم, أن تتجنب الأخطاء أو تتخلص من كافة العيوب, لأنها ليست بطبيعتها علما كاملا كالعلوم الدقيقة والرياضيات .. فهي نظريات ورؤى سياسية وفلسفية واجتماعية, تطمح للتطبيق وتغتني به وبالتجربة. ميدانها مجتمعات حية متحركة غير آسنة. لا تقيد هذه المجتمعات بإيديولوجية جامدة,  وإلا لأصبحت عائقا للتطور ولطبيعة الأشياء. ابتعدت عن مصادرها التي عرفتها الحقبة الإغريقية والرومانية,  ولم تبق كما أراد لها منظرو عصر التنوير. وهذا طبيعي ليس فقط لتعدد المجتمعات وخصوصيات كل منها, وإنما كذلك للتطور الطبيعي لهذه المجتمعات. وهكذا بقيت و تبقى مشروع ديمقراطية غير ناجز وكامل, رغم طموحها للكمال.  مشروع دائم التجدد. ليست هي معتقدات دينية متزمتة تزمتا لم ينزل الله به من سلطان. لا تعاقب  مخالفيها بالتكفير وسوء المصير. تحترم الإنسان وعقل الإنسان وحريته وكرامته, الإنسان المساوي لأخيه الإنسان من كل معتقد وفي أي مكان.
الإنسان بطبيعته وتكوينه خلاّق ومبدع.  خلق الحضارات قديمها وحديثها. اكتشف بوسائل من إبداعه أسرار الطبيعة, وحولها لخدمة الإنسان والإنسانية. نظم علاقات إنسانية بوسائل ومفاهيم وقدرات بحت إنسانية. نجح هنا وأخطأ هناك, وبقي هنا وهناك الإنسان الذي يبحث عن مزيد من النجاح وعن إصلاح للأخطاء قدر الإمكان. لا ينسب نجاحه أو فشله للأقدار, وإنما لاجتهادات إنسانية. هذا الخلاق, في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي, أنشأ الديمقراطية (على اختلاف أشكالها).
لماذا يعترف القدريون والغيبيون والمتطرفون دينيا للإنسان بصنع المعجزات في مجال العلم والصناعة والتكنولوجيا وغزو الفضاء... ولا يعترفون له بأية مقدرة في مجال الفكر والفلسفة والعلوم الاجتماعية, والتنظيم المجتمعي, ليهاجمه في هذا المجال بعض الشيوخ "العلماء" ويرفضون "هرطقاته"  الداخلة في أبواب الكفر والضلال والإلحاد ؟.فكيف يصورونه هناك مبدع بهداية الله, وهنا ملحد علماني كافر بالله !!!. وهو في الحالين  الإنسان , نفس الإنسان!!!.
لا تعاقب الديمقراطية, التي لا تدعي امتلاك كل الحقيقة واحتكارها, على اختلاف الأفكار والمعتقدات بالقتل أو السجن المؤبد أو النفي وغير ذلك. فهي تقبل أن يقف الإنسان في ظلها  معارضا, بالوسائل الديمقراطية, لما لا يراه سليما, بصفته فرد أو عضو في حزب سياسي أو في جمعية مدنية, ويطالب بحقه وحقوق غيره في مواطنيه كاملة , ويعود مع ذلك  إلى بيته  آمنا دون أن يتلتفت حوله يمنة ويسرى, أو ينتظر زيارة من شبيح رسمي  منتم للزعيم ونظامه وسلطانه, مكلف  بالتشبيح, او شبيح متدخل مبادر دون تكليف . أو من شبيح ديني متطرف نُصّب أو نصب نفسه جندي لله دون تكليف من الله.
الأحزاب الدينية المتزمتة تُكفّر الديمقراطية. فهي وضعية وضد إلهية (وكان الإله لم يهب الإنسان عقلا ليضع ما يراه ملائما لإدارة شؤونه وشؤون مجتمعه ودولته ومنها النظام الديمقراطي, وكأنه إن اعمل عقله في هذا تحدى خالق هذا العقل). تُكفّر هذه الأحزاب الديمقراطيين في الدنيا, وتلاحقهم إن كانت حاكمة وتملك السلطة, و تتوعدهم إن وصلت يوما إلى الحكم والسلطة. وتحرض الله عليهم وتتوسل إليه بالدعاء حينا, وتأمره أحيانا, من باب مكانتها المميزة عنده, و"بالمونة" عليه,  بان لا يدخلهم جنته. لانه  لا تجوز مجاورة  الديمقراطيين للمؤمنين  في الدار الآخرة. فقد يفسدونها بمطالباتهم الديمقراطية والعلمانية, ويجتهدون في تعديل أنظمتها.
هل الدين, وهو لله الخالق, اقل تسامحا وقبولا للآخر من الديمقراطية, وهي من وضع الإنسان المخلوق؟. هل الديمقراطية أكثر إنسانية و قبولا للآخر؟. الديمقراطية تأسست, بموجب ما قد يسمى بعقد اجتماعي, على قبول الآخر والتواصل معه, والحياة معه, وليس مجرد التعايش,  في مجتمع تسوده المساواة في الحقوق والواجبات بين كل أفراده, ديمقراطيين وغير ديمقراطيين, مؤمنين أو اقل إيمانا أو غير مؤمنين, حزبيين أو مستقلين, والتساوي معه بالحقوق والواجبات. هل من المعقول أن توسع الديمقراطية على الإنسان و تضيق أديان الله عليه.؟. هل الديمقراطية التي تتسع لكل الأديان والطوائف ارحم من الدين الواحد الذي لا يتسع إلا لنفسه, بطائفته, ويضيق بغيره إلى حد معاداته وعدم القبول به؟. أليس مثل هذه الأسئلة والأجوبة الهادئة عليها تحتاج إلى رجال دين متنورين يقبلون الحوار بديمقراطية "وضعية", لا يرون, مسبقا, في عقل الإنسان تعارض مع الإيمان في بنائه للدولة والمجتمع والإنسان, وان يحترموا أفكاره  في المجالات الإنسانية, بنفس الدرجة التي يعترفوا له بابتكاراته العلمية التي لا يرون غضاضة بالتمتع بها كاملة في الحياة الدنيا, في مرحلة انتقالية, في انتظار المتعة الكبرى الدائمة الموعدة في الحياة الآخرة ودار النعيم؟.
الأحزاب السياسية العربية, التي تُحسب على أنها علمانية, تجهل الديمقراطية وتُجهّل بها في برامجها ودعايتها وثقافتها, وتحاربها حربا لا هوادة فيها.
تكفينا هنا الإشارة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي, (الأكراد خارجا) الذي عمّر في السلطة نصف قرن دون أن يسأم, وكان, وما زال بعض أعضائه الكلاسيكيين يدعون إلى وحدة عربية من المحيط إلى الخليج, (الأكراد والبربر وغير العرب خارجا), يكونون فيها قادة الدولة والمجتمع. وبعضهم الآخر ممن تحولوا عما كانت تسمى في أدبيات الحزب "المنطلقات النظرية", يدعون لقدسية وعصمة الزعيم أو القائد (ولمن يريد معرفة الفارق بين الزعيم والقائد لا بد له من العودة إلى فكر القذافي فهو أكثر وضوحا وصراحة  وتبسيطا).
  هذا الحزب (الذي لم تصل دولته, حسب شعاراته الطوباوية , لتمتد من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر, لم تصل إلى مياه الخليج, ولم تبحر إلى المحيط), أوصل بفكره وسياساته الاستبدادية, ورفضه لكل نوع من أنواع الديمقراطية, العراق, الذي استورد بعثا أصيلا أصيل بانقلابات عسكرية دموية , إلى ما نراه اليوم من صراع وحساسيات طائفية ودينية ــ مكتومة تحت استبداده ومتفجرة عند اجتثاثه, وفي الحالتين من صنعه ومن تراكم مخلفاته ــ تهدد سلامة العراق كدولة واحدة, وهو من كان يّدعي انه يبني العراق ,دولة الحزب, كنواة للدولة العربية الواحدة المنشودة ونموذج لها !!! يا لروعة النموذج.
إلى أين أوصلت ممارسات الحزب القمعية والتسلطية سوريا, بلد المنشأ ؟. ألغى فيها, فيما ألغى, من قاموسه  كلمات مثل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والمساواة,  والعدالة, والحقوق, وحقوق الإنسان السوري طيلة نصف قرن, و بنى نظاما أركانه قائمة على الاستبداد والفساد والطغيان (كلمة حرية "هزتلو أركانو" كما غنى سميح شقير في مرثيته الثورية ). قد يُقال البعث كحزب من كل هذا براء, هناك بعثيون وليس هناك بعث. لسنا هنا بصدد المقولات إن كان البعث كحزب وفكر غير أعضائه وأنصاره ومؤيديه,  أن كان يحكم بنفسه أو يُحكم عنه وباسمه, فهو من يوم النشأة والى النهاية, أو اقترابها, لم يُضمّن مصادره وجذوره وفروعه شيئا اسمه الديمقراطية. بقى حربا عليها, رفع في "ثالوثه المقدس" الحرية إلى جانب الوحدة والاشتراكية, فنالت على يديه أسوأ بكثير مما نالته الوحدة والاشتراكية, خاصة وان الحرية تتعلق بالحياة اليومية للإنسان, تُرى بالعين المجرد ة, ولا يمكن الادعاء بوجودها مع وجود هذه الفروع من المخابرات وامن النظام, وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية, ومحاكم الاستثناء, والسجون التي دخلها مئات آلاف على طول نصف قرن البعث الثقيل الثقيل, وآلاف القتلى والمشردين والملاحقين بجرائم المطالبة بالحرية أو التلفظ باسمها.
صراعه مع غيره من الأحزاب الأخرى كان صراعا دمويا تصفويا واستقصائيا. وحتى في داخله لم يعرف يوما علاقات شبه ديمقراطية, فالعلاقات بين أعضائه تقوم على الخضوع والخنوع والتبعية. تحول عبر "نضاله" من داعية مدع بالوحدة العربية, إلى صانع طغاة. إلى مدرسة في الاستبداد والفساد. نقل ولائه من الوطن إلى الزعيم. فكان نظريا  و "حكوجيا" في حروبه الممانعة والمقاومة , ودمويا عنيفا في حربه على أبناء شعبه من المطالبين بالحرية والديمقراطية.
لم يتجرأ البعث, وكيف له, في اجتماعاته و"نضاله" من موقعه, بصفته قائد للدولة والمجتمع, على سؤال احد من أصحاب القرار, بروح ديمقراطية أو حتى رياضية, عما يدور في سوريا من قتل وقمع واعتقالات وإخفاء وتشريد الآلاف على يد رجال الأمن والجيش العقائدي, والشبيحة , لم يتساءل, ولو سرا, لماذا كل هذا؟. هل ما يسمعه من مبررات تبرر بعض الجريمة؟. هل هذا ضرورة يقتضيها نشر الرسالة الخالدة, و التثقيف بثقافة الممانعة والمقاومة, وإضافة بعثية على الحضارة الإنسانية.؟. 
بعد نصف قرن في بناء الأنظمة على الطريقة البعثية وبالأدوات البحت بعثية , بنى دولة بحت أمنية. تحدث أمين عام القيادتين, القطرية والقومية, لحزب البعث وزعيم وقائد الدولة والمجتمع أمام الإعلام الخارجي عن الأسباب والمبررات ــ الداخلي لا حاجة له لسماع أسباب ومبررات ــ فقال بان المواطن السوري غير ناضج بعد للديمقراطية, وان ما يناسبه هي الدولة الأمنية. وكأنّ من المسلمات أن ما يحتاجه مواطننا دولة أمنية قامت قبل نصف قرن, وبقيت أمنية خلال نصف قرن, ويراد لها أن تبقى أمنية لنصف قرن قادم يقرر بعده إن كان قد نضج ديمقراطيا, وأصبح يستحق أن تقام له دولة ديمقراطية!!!.
أليس في أس عدم نضوج المواطن السوري نضجا ديمقراطيا, أن صح ذلك, هي سياسة الحزب النصف قرنية هذه, ونظامه الشمولي المفارق للعصر شكلا وجوهرا؟. أليس في نشرالجهل والتجهيل بالديمقراطية؟. أليس في تدميره للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, ( وغرس ثقافة فريدة من نوعها, ذهبت ما لم تذهبه أية ثقافة عبر التاريخ, وهي ثقافة الركوع لصور الزعيم وإطالة السجود لها وعليها) وقتل وسجن وتشريد كل من ينادي بحرية وإصلاح ديمقراطي عميق للنظام وفي فكر الحزب ــ أن كان للحزب فكر أو فيه عمق ــ وكل من يطالب بإخراج الدولة الأمنية النصف قرنية إلى الدولة الديمقراطية. هل يمكن لمثل هذا النظام, بسياساته وعقليته وتكوينه, أن يساعد المواطن المشكوك بنضوجه الديمقراطي للوصول إلى النضج الديمقراطي !!!؟.
يعتبر النظام  المطالبات بالخروج من الدولة الأمنية إلى الدولة الديمقراطية, مؤامرة خارجية محكمة ضد سوريا ــ وسوريا هنا ليست إلا النظام الممانع المقاوم ــ , وان كل احتجاجات الشرفاء من شعوب العالم بقاراته الخمس ــ ولا نقول حكوماتها ــ على سفك دماء ثوار سوريا هي جزء من المؤامرة على سوريا المقاومة الممانعة. هل يمكن أن يقنع هذا أحدا, إذا ما استثنينا روسيا والصين وإيران؟, قلاع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومع ذلك, لم تكن الديمقراطية مجهولة عند كل الحكام العرب, ولم يمتنع الكل عن شرحها أو ترجمتها, فقد ترجمها عميدهم القذافي, وهو في قمة سلطته وعطائه الفكري, ترجمة أخجلت تواضع فلاسفة الإغريق, وحقوقي الرومان, ومفكري عصر الأنوار, على أن " أصلها في كلمة ديمكراسي أي جلوس الشعب على الكراسي". ألا يُقدّر لثوار ليبيا فيما يُقدّر لهم, تخليص عالم السياسة والفكر من "هرطقاته" و "خربطاته" وتجلياته, وتطاولاته.
كم من الدماء ستسفك ليصبح ذلك المجهول ـ الديمقراطية ـ معلوما في عالمنا العربي, وواقعا معاشا وملموسا؟
الجواب كل الجواب في تحديات وعطاءات الثوار من الشباب.
د.هايل نصر.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات