الديمقراطية التوافقية (رؤية في المفهوم والنشأة)
المدرس المساعدعلي فارس حميد
تعد الديمقراطية التوافقية أو كما يطلق عليها البعض بالديمقراطية التكاملية أحد وأبرز نماذج الديمقراطية الحديثة والتي ظهرت كنموذج لمعالجة بعض المشكلات والأزمات التي تعاني من الديمقراطيات الحرة في العالم.وتعود فكرة الديمقراطية التوافقية الى المفكر الهولندي (آرنت ليبهارت) والذي يعد من أوائل المنظرين لها واعتبارها نظرية للحكم الديمقراطي في مجتمع متعدد.
ويشير ليبهارت الى ان الديمقراطية التوافقية تعبر عن ستراتيجية في ادارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب بدلاً من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية.وهي تقوم على أربعة مرتكزات أساسية يمكن اجمالها:
1- حكومة ائتلافية أو تحالف واسع يشمل حزب الأغلبية وسواه.
2- الاعتماد على مبدأ التمثيل النسبي في الوزارات والمؤسسات والادارات والانتخابات.
3- حق الفيتو المتبادل للاكثريات والأقليات على حد سواء من أجل منع احتكار السلطة.
4- الادارة الذاتية للشؤون الخاصة بكل جماعة.
تطور الديمقراطية التوافقية:
نشأت الديمقراطية التوافقية وتطورت في الدول الأوروبية ،وفقاً لما يشير اليه ليبهارت فان من أبرز النماذج التي نشأت فيها الديمقراطية التوافقية هي (بلجيكيا،هولندا،سويسرا،النمسا) ولم تكن احتياجات هذه الدول في اقامة ديمقراطية توافقية قائمة على أساس نظري انما كان حاجة هذه الدول لهذا النموذج يمثل ضرورة ستراتيجية من أجل معالجة المشكلات الخطيرة التي يتعرض اليها النظام الديمقراطي.
نشأت الديمقراطية التوافقية بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية حيث يمكن ملاحظة نماذج نماذجها في الأمثلة السابقة.ففي سويسرا فان الاتحاد الفدرالي يتألف من سبعة أعضاء وهم يمثلون الأحزاب الرئيسة في سويسرا وعلى النحو (2عضو من الراديكاليين ،2 عضو من الاشتراكيين،2 عضو من الكاثوليك،وعضو من حزب الفلاحين)كما انه يمثل مختلف اللغات والمقاطعات منذ عام1959 .
وهكذا هو الحال بالنسبة الى النمسا حيث ان المقاربة الائتلافية التي حكمت البلاد حتى عام 1966 كانت تضم أعضاء متوازنين من الكاثوليك والاشتراكيين ولم يكن سوى الاتجاه الليبرالي غير ممثل في هذا الجانب.
اذن ان الديمقراطية التوافقية التي تبناها البعض كرؤية ستراتيجية لحسم النزاعات الداخلية قد تطورت في دول ذات تقاليد ديمقراطية عريقة وكان ذلك من أجل الحفاظ على تماسك الدولة وتمثيل جميع الفئات الاجتماعية في العملية الديمقراطية وعملية صنع القرار السياسي.
النظم الديمقراطية والديمقراطية التوافقية:
قد لاتتحقق الديمقراطية التوافقية في مجتمعات ذات قوميات ولغات متعددة فقط انما من الممكن أن تقوم الديمقراطية التوافقية في مجتمعات لاتعاني من هذه المشكلات بصورة مباشرة ومؤثرة في جوانب ممارسة السلطة.ولعل كندا وايطاليا وايرلندا الشمالية تعد من أبرز هذه النماذج كما تشير الدراسات.
تتمثل مشكلة كندا في كيوبيك الناطقة باللغة الفرنسية والتي تقوم بدور خاص في السياسة الكندية ،وتطور هذا الخلاف لدرجة التفاوض بين الولاية والحكومة الفدرالية ،ولكون كندا لا تتعامل مع الحكومات الائتلافية فهناك جملة من المؤسسات التي يمكن اعتبارها ائتلافية وتنحصر عضويتها على ممثلي الولايات في المجالس الفدرالية ومجلس وزراء التربية .وكذلك هو الحال بالنسبة الى ايطاليا حيث تشكل المبادرات الائتلافية بين الأحزاب السياسية نوعاً مهماً من انواع الحكومة الائتلافية.
ان مشكلة الديمقراطية في حالة التجانس الثقافي الذي يعد أحد المتطلبات الضرورية لقيام نظم الديمقراطية بشكل مستقر.وبالتالي فلايمكن وجود مثل هذه الحالة بشكل شبه مطلق .اذ ان أغلب دول العالم تقوم على أساس شبه متوازن في الثقافات والأطياف المكونة للشعب الموحد وبالتالي تبقى كيفية الادارة المتداخلة لهذه المكونات في اطار ستراتيجي للتعامل المستقبلي وبالشكل الذي يضمن تحقيق القبول لدى جميع الأطراف.
مشكلات الديمقراطية التوافقية:
أوجد الباحثين والمهتمين بالنظم الديمقراطية ان النظام الديمقراطي التوافقي يعد من أبرز الحلول الناجحة للدول التي تعاني من عدم وجود حالة من الوعي لتعدد الثقافات ،فالممارسة الديمقراطية قد تجعل بعض الأطراف تسعى الى عرقلة ادارة الدولة مما يعمل على حدوث نزاعات داخلية وبالتالي كانت الديمقراطية التوافقية تمثل حالة من ادارة النزاعات الداخلية بين هذه الثقافات.
ومن خلال ما تمت الاشارة اليه حول الديمقراطية التوافقية فلعل المشكلات تبدو واضحة وفي مقدمتها حق النقض الذي قد يعارض أهم مبادئ الديمقراطية وهو مبدأ الاغلبية في اتخاذ القرارات خصوصاً اذا ما كانت هذه القرارات ذات ضرورة ستراتيجية وقومية للدولة.حيث ان القرارات الصادرة أو التشريعات لايمكن أن تمرر دون موافقة قادة هذه الفئات كما يشير بذلك روبرت دال وهي من جانب آخر تجعل المشكلة الائتلافية قائمة لأن أي طرف ينبغي أن يحقق قبول لدى الطرف الآخر.
وبالرغم من ذلك فان دال يجد ان هذا النوع من النظم الديمقراطية قد استطاع أن يحقق نماذج ناجحة وهي النماذج الأ ربعة التي تم الاشارة اليها في بداية الحديث عن الديمقراطية التوافقية.غير ان هذه النظم لابد أن يكون متكامل وتتوفر فيه شروط التكافل من أجل حسم النزاعات لا الدخول في أزمات ونزاعات جديدة .
ولعل مشكلة ايجاد حالة التوازن والتكافل في القرارات السياسية قد يكون أمر في غاية الصعوبة خصوصاً ما اذا كانت القرارات تتعلق بفئة معينة حيث ان خطورة المواقف تتعلق بالقرارات المتخذة بشأنها وهذا ما لابد أن يأخذ بنظر الاعتبار في محاولة دراسة وتحليل مثل هذا النوع من النظم.اذ قد تكون ادارة عملية الحكم ذات صعوبة في مجال التفاوض خصوصاً اذا ما تعلق الأمر بالمصالح وهذا ما يشكل في أدبيات الاستراتيجية أحد المعطيات المهمة في نشوء الأزمة والذي قد يؤدي الى مشكلات خطيرة لا يمكن معالجتها في ضوء التهديدات المتبادلة ووما يزيد الأمر تعقيداً دخول أطراف خارجية أقليمية ودولية تعمل على تأجيج الأزمة الداخلية مؤدية بذلك الى حرب أهلية .
التعليقات (0)