مواضيع اليوم

الديمقراطية, مؤسسات وتكوين إنسان

د.هايل نصر

2009-02-26 19:59:26

0

 العلاقة بين المؤسسات والإنسان في المفهوم الديمقراطي علاقة جدلية دينامكية وتكاملية. فهل يمكن تصور ديمقراطية دون مؤسسات؟ أو ديمقراطية دون ديمقراطيين؟. بناء المؤسسات وحده, وبأي شكل كان, لا يكفي للادعاء بوجود الديمقراطية, فكثيرا ما نرى في دول ديمقراطية مؤسسات عريقة وراسخة تؤسس طبقا للقانون وتعمل وفقا له, وباليات تكاد تقترب من الإتقان الكامل, ولكن لا نرى دائما الإنسان الديمقراطي الذي يشغلها مشبع بروح ديمقراطية  تصل في علوها إلى ما وصلت إليه المؤسسات التي ساهم في إنشائها ويشارك في عملها ومراقبته.  فبناء المؤسسة أسهل, بما لا يقاس من بناء الإنسان ـ المواطن ـ الديمقراطي.

منذ عصور ما قبل التاريخ  préhistoire وبداية التاريخ والى اليوم يكافح الإنسان ضد " قانون الأقوى". فقد خضع له وما زال يخضع في ظل أنظمة نذكر منها :

ــ التيوقراطية théocratie    وهو النظام الذي كان يدعي انه يستمد مشروعيته من الآلهة فالحاكم ابن الإله أو مبعوثه أو ممثله على الأرض. والسلطة السياسية و الدينية متحدتان في شخصه.  وغير قابلتين للفصل. والقوانين التي يمليها قوانين منحدرة مباشرة من نصوص  تعتبر مقدسة. ونموذجه في العصور القديمة الفرعونية.

ــ الطغيان  la tyrannie  ومنه لقب الطاغية, يوناني الأصل, الذي يعنى به الشخص الذي يستولي بالقوة على السلطة, بمساعدة ثلة تابعة له. وأصبح المقصود به النظام غير الشرعي وغير القانوني, القائم على تعسف الحاكم وفساده وجبروته وطغيانه في استعمال سلطات غير محدودة.

ــ الدكتاتورية  la dictature  نشأت الدكتاتورية في الأصل في روما القديمة عن تكليف استثناء يمنح لحاكم لمدة 6 أشهر عندما يهدد خطر محدق كيان المجتمع ومؤسساته. يمارس فيها سلطات مطلقة دون قيود. و أصبح, لاحقا, يوصف كل حاكم قام باغتصاب السلطة بالقوة وتفرد بممارستها, مدعوما ببطانة ضيقة حوله, بالديكتاتور.

الملكية  monarchie . نظام يمارس من قبل فرد. ولكنه يختلف عن بقية الأنظمة السابق ذكرها من حيث شروط التعيين, والتوارث, والإقامة على العرش. وهذا النظام  سليل تقاليد عريقة في القدم. وأصبح يلقى موافقة ضمنية من بعض المجموعات الاجتماعية . وبعد أن كانت الملكية مطلقة إلى حد بعيد اخذ بعضها يقيد نفسه ويعتمد مبادئ واضحة, كشروط توارث السلطة , وطرق ممارستها, وأحقية الابن البكر بها, المنحدر من العائلة المالكة التي استطاعت في الأصل أن تفرض نفسها بالقوة على منافسيها . ومع ذلك فالملكية أنواع في انظمتها وتسمياتها وممارساتها, ملكيات مطلقة, وأخرى مقيدة ,وملكيات ديمقراطية الملك فيها يملك ولا يحكم , كالنظام البريطاني .

ــ الإمبراطورية  l’empire . جمع الحاكم في هذا النظام بين صفتين , صفة الملك وصفة الإمبراطور ولعل أول من ابتكر هذا النظام هو اوكتاف اوكست Octave-Auguste في نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وسند الإمبراطور سلطة عسكرية تأخذ قوتها من انتصار في حرب مدنية أو حروب فتوحات خارجية. يحاول بعدها  تحويلها إلى ملكية واخذ المشروعية مع الزمن, وتشكيل أسرة حاكمة  كارستقراطية جديدة. فقد قامت عبر التاريخ  إمبراطوريات عديدة, منها على سبيل المثال الإمبراطوريات الرومانية, واليابانية, وإمبراطورية نابليون الأول في فرنسا " حكومة الجمهورية الفرنسية ممنوحة  لإمبراطور يأخذ اسم إمبراطور الفرنسيين" .

الشمولية totalitarisme . وهي صيغة حكم يمسك فيها الحاكم بيد من حديد كامل السلطات في الدولة وبشكل مطلق. ويفرض على رعاياه رقابة شاملة تطال كل نواحي حياتهم العامة والخاصة. وتخضع الدولة ومؤسساتها لرقابة صارمة لأجهزة الأمن المتعددة الأشكال وذات الهدف الواحد, حماية الحاكم وسلطته. فلا حريات عامة أو خاصة ولا أحزاب سياسية, غير الحزب أو التنظيم الحاكم, ولا جمعيات مجتمع مدني, ولا تداول للسلطة.

حول تصنيف الأنظمة السياسية نكتفي بالإشارة لبعض المراجع ومنها (  Francis Doré, les régimes politiques en Asie PUF. André et Francine Demichel, les dictatures européennes, PUF.  Maurice Flory et Robert Mantran, les Régimes politiques des pays arabes, PUF.   إضافة لكتب القانون الدستوري والمؤسسات السياسية التي لا يحصى عددها جورج بيردو و موريس ديفرجيه ..).

أما اليوم وبعد التغيرات الدولية التي تلت انهيار المعسكر الاشتراكي, ومع بقاء عدد الدول الديمقراطية في العالم محدود جدا, نشهد شبه إجماع في الخطاب السياسي على استخدام كلمة الديمقراطية والمؤسسات.

  قلما نرى من لا يدعيها. وحتى أولئك الذين يخشونها يتحدثون عنها, مع إضافة عبارة ولكن, أي نقبل الديمقراطية ولكن. هذه ال "لكن" في جوهرها, عند بعضهم, ليست تصحيحية, أو تعديليه, أو تطويرية, وإنما تحريفية , تشويهية, وحتى الغائية و انقلابية ,( على الطريقة العزيزة على قلوب العسكر وأنصار العسكرة ). وعند البعض الآخر منهم, باطنية, تقية, و تغليف أصولية.  فباسم الديمقراطية يجري الدفاع عن الشيء وضده. وتُكتب كتب خضراء وصفراء, وخضراء ـ صفراء, وتدار حوارات, وندوات, ومنتديات لا تنتهي, و مع ذلك لا يضيق صدرها. إنها الديمقراطية.

وأما الدول التي ترفضها علنا لكونها غير مناسبة لمجتمعاتها, ولان هذه المجتمعات ليست مهيأة بعد لاستقبالها, أو لأنها لا تملك مقدرة إدارة نظام ديمقراطي. ولان الديمقراطية, بشكل خاص, كما تدعي, خارج ثقافة شعوبها. ولكنها مع ذلك لا تستطيع الإجابة عما إذا كان هناك ثقافة, حضارية خاصة بها, يمكنها أن تبرر الظلم وعدم المساواة, والفساد, والقمع, والطغيان؟.

الديمقراطية عند أنصارها ليست دينا, أو عقيدة جامدة, أو نموذجا بعينه يصلح لكل زمان ومكان, فهي تتصف بمقدرة على الحركة, والتحول, والتكيف مع المتغيرات والمعطيات. بكونها آلية بحث ناجعة وعمل جماعي مستمر, ومشروع بناء لا يتوقف. لا تجد عيبا في نقد ذاتها وإصلاح أخطائها, وإنما من الأخطاء ونقدها تأخذ الدروس والعبر في مسيرتها. وهي لم تدع الكمال, منذ عصور الإغريق والى يومنا هذا, ولا تستطيع أن تدعيه, حتى ولو أرادت, فتعاملها مع واقع متطور متغير لا تريد التخلف عنه تحت أية صفة أو ادعاء. الكمال وحده عند ادعيائها الذين  يتعاملون مع الواقع بالقفز من فوقه, أو بالتعامي عن حقائقه, أو حتى التوهم بخلقه على الصورة التي يريدون, بصياغة نظريات, واستدعاء الغيبيات, وحتى بالشعارات الساذجة, وكأن إرادتهم هي التي تقرر مجراه ومنتهاه. فهم والحال هذا, ليسوا فقط خارج هذا الواقع, وإنما كذلك عبء ثقيل من أعبائه, وعقبة للإزالة.

في أصل الديمقراطية قيم وتربية

" كل الناس تقريبا عبيد

بسبب عدم معرفتهم قول لا ..

ـ أنا كل شيء, والآخر لا شيء.

هذه هي الارستقراطية, و الطغيان وأنصاره.

ـ أنا الآخر, والآخر هو أنا.

هذا هو النظام الشعبي وأنصاره,

وعليك بعد هذا أن تقرر وتختار"

شامفور Chamfort  (1741 ـ 1794).

 

 المواطن الديمقراطي, الذي يعلم كيف يقول لا, متى وأين وكيف, يخرج من دائرة العبودية أو التبعية.  

 

فالديمقراطية المؤسسة على السيادة الشعبية لا تستطيع تثبيت ركائزها إلا بفضل اليقظة النقدية من قبل المواطنين, أصحاب هذه السيادة, لآي مصادرة لسيادتهم أو لسلطتهم. ومعرفة قول نعم, وقول لا بالشكل الصحيح وبالإرادة الحرة, يقوم على الثقافة والتربية على الثقافة والتربية على القيم الديمقراطية, بحيث لا يتضمن القبول خضوعا, ولا الرفض تمردا, وعليه يبنى سلوك المواطن الديمقراطي تلقائيا. ولكن الحال يختلف, عندما تُغتصب سيادة الشعب وسلطته, ولعل ما جاء في المادة 35 من حقوق الإنسان والمواطن الصادر بفرنسا في 24/6/1793 . يبين, ومنذ القديم, مشروعية مقاومة ذلك: " عندما تغتصب الحكومة حقوق الشعب يصبح العصيان بالنسبة للشعب, ولأي جزء منه, أكثر قدسية من الحقوق وأكثر ضرورة من الواجبات".

 

تطور التربية على قيم الديمقراطية وتعميمها يتبعه بالضرورة تطوير المؤسسات والمجتمع. وتعميق المواطنبة  وتأصيلها.ومما لاشك فيه انه بدون تربية قادرة على توضيح الخيارات أمام المواطنين والتمكين من الاختيار الحر تبقى الديمقراطية شكلية. فلا بد من تشجيع المواطن , وليس الفرض عليه, على المعرفة الحقيقية  للديمقراطية, وما يمكن أن تكون عليه , بتسليط الضوء على أصول نشأتها, وتطورها, وصيغها الحالية في كل الديمقراطيات, والمبادئ التي تقوم عليها والمخاطر التي تهددها.

 

ومن هنا يبدو الدور الكبير الذي تلعبه المدرسة في هذا المجال حين لا يقتصر دورها على تكوين المواطن القادر على فهم العالم وحسب, ولكن أيضا على خلق المقدرة عنده على الحوار والتداول بالأساليب الحضارية للخروج من دائرة الارتباطات الضيقة, والانتماءات الفئوية, أو الطائفية, أو القبلية والعشائرية, وحتى الحزبية المتحجرة, للوصول إلى الشعور بأنه عضو في مجموعة المواطنين التي يتكون منهم الوطن, وان الانتماء الحقيقي هو لهذا الوطن. وعندها تصبح المدرسة مدرسة تكوين المواطنية الكاملة.

 

التربية على قيم المواطنية يتضمن تعليم الديمقراطية, والتعاون, والتآزر, واحترام حقوق الإنسان, كما يقود إلى تعويد السلوك, تلقائيا,على البناء الاجتماعي. فهناك ترابط لا ينفصم بين المواطنية والديمقراطية .

 

  فالمدرسة  في النظام الديمقراطي تجعل من بين مهامها الأساسية تنشئة الأجيال على قيم المواطنية والديمقراطية في:

 

ــ تعويد التلاميذ على الاستقلالية في إدارة أنفسهم وصفوفهم بعيدا عن الإملاءات, وأساليب الوعظ المتعالية,  والأحكام المسبقة. وفي نفس الوقت تعويدهم على احترام القرارات المتخذة, والاحتجاج عليها, إذا تطلب الأمر, بالطرق المشروعة. فحرمان التلاميذ من العمل والتصرف الديمقراطي يجعلهم يلمسون التناقض بين القيم التي يدعو لها معلموهم وبين السلوك غير الديمقراطي الذي يتعاملون معهم به. ( كتب ألبير كامو Albert Camus عام 1957 اثر منحه جائزة نوبل إلى معلمه في المرحلة الابتدائية: " دونك, دون اليد العطوفة التي ممدتها لطفل فقير الذي كنته, دون تعليمك وكونك النموذج, كان لا يمكن أن أصل إلى هنا".  Le Premier Homme, Gallimard, 1994, p. 327 ).

 

ــ تطوير العادات المتلائمة مع الديمقراطية التمثيلية: الاستماع للآخرين. والتحدث لممثليهم. ومنح الثقة لمن ينتدبونهم, ولكن مع مراقبة أعمالهم, والتعود على التحليل والنقد. والتحدث باسمائهم دون استعارة, أو الاستشهاد بالغير للاحتماء خلفهم و رفع المسؤولية عن المتحدث. وتكوين آراء عبر الحوار والنقاش مع الآخرين تطال كل مسائل الحياة والوطن.

  

وليست المدرسة وحدها, وخاصة بعد سن معينة, المسؤولة عن تعليم القيم الديمقراطية والتربية عليها, ونشرها وتغذية الأفكار بمفاهيم المواطنية. ومن المفيد أن نذكر هنا دور جمعيات المجتمع المدني les associations.

 

 تقوم جمعيات المجتمع المدني بدور صلة الوصل بين الفرد والمجتمع.هذا الدور المهم, والقابل دائما للتطور كما وكيفا, يعمق الممارسات  الديمقراطية والتربية على قيمها. ويبين التفاني في العمل التطوعي فيها مدى طموح المواطنين ورغبتهم في تنظيم نشاطهم ليشمل المجتمع بأكمله.

 

ففي دولة كفرنسا ذكر إحصاء نشرته مؤسسة الدراسات الإحصائية Insee, أن 21 مليون مواطن ممن تتجاوز أعمارهم ال 15 عاما, أعضاء في جمعيات المجتمع المدني. (في حين أن عدد أعضاء الأحزاب السياسية بكافة توجهاتها لا يصل الى 10 % من هذا الرقم ).

 

 فالجمعيات, بشمولها كل المجلات في حياة المجتمع,  بتنظيمها العلاقات بين أفرادها بعضهم ببعض, وبينهم وبين أعضاء الجمعيات الأخرى, وبين هؤلاء ومجموع المواطنين, لا تسهل فقط التواصل وتحقيق المصالح الخاصة وجعلها منسجمة مع المصلحة العامة, وإنما كذلك تصبح نوعا من المدارس الديمقراطية تُمارس فيها أساليبها, و تتعزز وسائلها بخضوعها للقوانين وأنظمتها الخاصة, لتصل إلى حصر كل التجاوزات, ومراقبة كل أنواع الفساد والتصدي له. كما أنها تكسر احتكار الإدارات وروتينها  لكل مسائل الحياة وتخفف عنها كثيرا من أعبائها. فهي فتح اجتماعي وتفعيل لكل قوى المجتمع.

 

ــ فهل ستسير منطقتنا العربية في اتجاه تكوين الإنسان الديمقراطي, بعد ادعائها امتلاك المؤسسات الديمقراطية ؟

 

ــ وهل ستقوم المدرسة بإضافة التربية على قيم المواطنية والديمقراطية لمهامها العلمية الموكولة إليها, لخلق الإنسان العربي المعاصر؟.

 

ــ وهل سيكف  المسؤولون عن تسييس المدرسة  و تربية الأجيال على ثقافة الإذعان, والتفكير باتجاه واحد, و ترديد الشعارات, وتقديس الحاكم ؟

 

ــ وهل سيرفع القمع عن النشء القادم ــ بعد أن تم التضحية بأجيال كاملة ــ من المدرسة ومن كل مرافق الحياة؟

ــ وهل سيُعترف لمجتمعاتنا بعودة الخصوبة إليها وبالمقدرة على تكرار إنجاب أمثال من أنجبتهم في لحظة تاريخية فريدة, ليحلوا محلهم بالتداول الديمقراطي؟

 

ــ وهل سيصل لهذا النشء أن تعاليم الدين تقود إلى التسامح والعيش المشترك الكريم في الوطن الواحد بين جميع أبنائه (الدين لله والوطن للجميع), وان الله لا يلاحق ولا يكلف أحدا بالملاحقة. ولا يقمع ولا يكلف أحدا بذلك؟. وان الديمقراطية لا تنفي الدين, وإنما الدين السمح يزدهر في ظلها؟  

 

ــ  وهل ستشهد مجتمعاتنا إنشاء جمعيات المجتمع المدني بمختلف أنواعها وألوانها؟

 

أليس من الإجابة " بالإيجاب" على هذا تبدأ الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل في طريق الديمقراطية و تكوين الإنسان الديمقراطي ؟.

 د. هايل نصر. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات