الديك يؤكد أن الدجاج.. يبيض الآن بدون مزاج
من مقامات مجنون العرب
نتيجة لإخلاصه وتفانيه.. في القيام بالعمل الذي يؤديه.. ونتيجة حرصه على
جمع البيض الغالي لديه.. خرَّ الديك فجأة مغشيا عليه.. بعد أن كاد يسقط من
أعلى سطح.. عندما كان يهم بالتبشير الروتيني بميلاد الصبح.. وقد مارس
الدجاج عمله المعتاد.. منذ أن فقد القدرة على التمييز بين المصائب والأعياد..
أما الدجاج المقرَّب من الديك.. فإنه رفض أي محاولات للتشكيك.. في قدرة
الديك على صيانة البيض.. وهذا بالطبع غيض من فيض.. وصاحت دجاجة بضة سمينة..
بعد أن نتفتْ إحدى ريشاتها الثمينة.. بالروح والدم نفديك.. يا حارس الدجاج
بغير منازع أو شريك.. أما الدجاجة التي اختلط ريشها الأبيض بالسواد.. فقد
صاحت إن ما جرى هو من كيد الحساد.. بينما شوهدت دجاجة حاقدة متهورة.. وهي
لا تكف عن الثرثرة.. مبدية تعاطفها مع ديوك مقهورة.. كُممت مناقيرها بعد
أن أصبحت صيحاتها محظورة.
تعاطف المجنون - من ناحيته - مع الديك الذي سقط.. لأنه لا يحب أن يرى
العقد قد انفرط.. ولأنه - من جهة ثانية - كان يتصور.. أن الديك الذي تعثَّر
دون أن يتكسر.. هو الديك الذي أحبه أمير الشعراء.. ورأى أنه أذكى
الأذكياء.. خصوصا بعد أن استطاع أن يخدع الثعلب.. وجعله يدور حول ذيله وهو يتشقلب..
وقد انتصر هذا الديك وقتها وتغلَّب.. على ألف مكيدة وألف مقلب.. وظل يصيح
بأعلى صوت.. وهو يواجه الحقد والمقت:
إن عزمي لن يلينا
رغم بطش الظالمينا
ليس للثعلب عهدٌ
منذ أن كان جنينا
إنه أُرْضِعَ مكراً
في كهوف الماكرينا
فادَّعى الحب ولكنْ
حبُّه كان كمينا
عندما جاء إلينا
«في شعار الواعظينا»
ممسكاً باقةَ ورد
«وهو يرجو أن ألينا»
وأنا أطلقت صوتي
لن أحيي الكاذبينا
«مخطىء من ظن يوماً
أن للثعلب دينا»
ضحك المجنون فجأة.. عندما أخبرته امرأة.. كانت تمشي في الطريق بلا
مبالاة.. أن ديك أمير الشعراء قد تاه.. ثم باحت المرأة بأعجب سر.. بينما كانت
عيناها تنطقان بالزهو وبالفخر.. ومن خلال حديثها عرف المجنون.. أن ديك أحمد
شوقي يحيا في مكان مأمون.. ولم يحدث له مكروه ولم يسقط في كمين.. بل إنه
يخرج كثيرا كي ينبه الآخرين.. إلى ما يكتشفه من كمائن.. ينصبها الثعلب في
عدة أماكن.. وهنا أهدى المجنون للمرأة قطعة من اللبان.. حتى لا يتوقف لها
أبدا لسان.
بالمصادفة وحدها وجد المجنون النعامة.. واقفة تتباهى بساقيها أمامه.. حيث
أخبرته بأن الديك الذي كان قد سقط.. هو من نوع «حبيبك يبلع لك الزلط..
وعدوك يتمنى لك الغلط».. ولهذا فإنه لا يحاسب الدجاج المقرَّب.. عندما لا
يحضن البيض كما يتوجب.. أما الدجاج الذي يتمرد.. لأنه لا يطيق أبدا أن
يتجمد.. فإنه - عادة - يجعله في وضع مقيد.. وهذا هو السر في كثرة البيض الفاسد..
وبإمكانك أن تتأكد من كلامي إذا سألت صديقك المارد.. فهو يعرف أكثر مني أن
الوضع الآن راكد.
حاول المجنون ألا يتدخل في أي شأن.. حتى لا يتعرض من جانب أحد لسوء الظن..
ولكن بعد أن طغى عليه الحزن.. قال: كيف أسكت ولا أتكلم.. إذا كان الكل من
حولي يتألم؟.. قال المجنون ما قال.. لأنه لا يحب أن يهرب من مواجهة سوء
الأحوال.. وإنما يحب أن يخوض في الزحام.. ويصغي دائما بكل اهتمام.. لكل ما
يتردد حوله من كلام.
في مقهى قديم يوشك أن يتهدم.. قال أحد الجالسين وهو يتلعثم.. إن أبناءه
يحسون أن مستقبلهم قد أظلم.. حتى من قبل أن يأتي المستقبل.. وذلك لأن
المستقبل من الحاضر يتشكل.. وقال رجل آخر بصوت ساخر: أين هو هذا الحاضر؟.. إني
أنصح من يستطيع الهجرة أن يهاجر.. حتى إذا كان سيطبل للعواهر.. ورد عليه
ثالث وهو ينفث الدخان.. وأين هو الأمان؟.. إن الصراع الآن بلا حدّ.. لأن باب
الرزق قد ضاق ويوشك أن ينسدّ.. وأنا شخصيا جئت الآن من الأسواق.. دون أن
أحصل على ما أشتاق.. بل إن الشوق نفسه قد همد.. تماماً كالبيض إذا فسد.
دخل إلى المقهى رجل غريب.. وأخذ ينظر للكل بشكل مريب.. ثم قال بمنتهى
الثقة.. عدة عبارات مرتبة ومنمقة.. حيث أشار إلى اننا نجتاز عنق الزجاجة..
وبعدها سيلتهم كل واحد أكثر من دجاجة.. ولكن علينا ان نتحمل الآن.. مادام
العالم كله في حالة غليان.. وأكد الرجل الغريب.. انه قد يخطىء أو يصيب.. لكنه
يعرف تمام المعرفة.. ودون حاجة لحذلقة أو فلسفة.. أن الديك الآن حزين..
وأنه ربما يفصح أو يبين.. بعد أن يلم ما تناثر من شظايا الزجاج.. وقال الرجل
الغريب إن العولمة غول رجراج.. وإن الثور لا يمكن أن ينطحها حتى لو هاج..
ثم قال إن الديك أكد له أن الدجاج.. أصبح يبيض الآن بدون مزاج !
التعليقات (0)