لا أعتقد أن جمهور المشكِّكين في قدرة الفكرِ الإسلامي على تحقيق آمالِ الشعوب، في بناء نهضةٍ حضارية نوعية، ورفعِ سقف الطُّموح الإسلاميِّ إلى درجةٍ تليق بحضارة الأمَّة وتاريخها وتكويناتها المختلفة - ينطلق من وعيٍ ثاقب ورؤية واضحة؛ بل إن في هذا التهريجِ الدِّعائي من فساد الفكر، ونِفاق السياسة، ما يُثبت أن وراء هذا الطَّنين طابورًا خامسًا يُنفِّذ أجنداتٍ صِيغت مراسمُها في الغُرف السوداء الداكنة.
ولا أعتقد أن فقهاءَ القانون يستطيعون وضعَ تعريف دقيقٍ لمفهوم "الدولة المدنية"، باعتبارِها معادِلاً موضوعيًّا للدولة الدِّينية، ومناقضًا أيدلوجيًّا للتصوُّرِ الإسلامي (في الحُكم والسياسة).
وليس صحيحًا أن أصحابَ النظرة الإسلامية - في الحُكم والسياسة - ينطلقون من ذلك التصوُّر الخاطئ الذي أسقطه العَلمانيون على ألسنةِ أصحاب الفكر الإسلاميِّ الحديث، زاعمين أنَّ الإسلاميين ينطلقون في تصوُّرِهم المنهجيِّ للدولة من منطلقٍ عقديٍّ يصوِّر الدولة كـ"مملكةٍ للرب"، لا دخلَ للإنسان في تطويرِها، وتشريع أحكامها، أو تغييرِها؛ فهي - أي الدولة؛ وَفْق هذا التصوُّر العَلمانيِّ المُسقَطِ على ألسنة الإسلاميِّين - ثابتٌ جامدٌ، لا يخضعُ للاجتهاد، وهنا بداية الخلط والتخريف.
بدايةً تخريفٌ لم يثبتْ عن نبيٍّ ولا عن خليفة، ولا عن عالِم أو مفكِّر إسلاميٍّ عبر تاريخ الحركة الفكرية الإسلامية منذ محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى اللحظة، بل إنَّ الشواهدَ النصية والتاريخية تؤكِّد بطلانَ هذا الزعم، وخَطَلَ قائلِه، وتزييفَه للحقائق، وسنعرض لهذا كلِّه في السطور القادمة إن شاء الله.
وإذا كان هذا التصورُ الخاطئ قد استُدعيَ استدراكًا حثيثًا في هذه المقدمة الضروريةِ، فإنَّ الإسراع في نزعِ الفتيل، ووضعِ النِّقاط على الحروف، يُعَدُّ لازمةً من لوازم الإبانة والتوضيح لدَلالة مصطلحٍ أُريدَ أن يكونَ مَعْبرًا من معابر الرَّفض والتشكيك للفكر الإسلاميِّ.
ومن هنا، جاز لنا أن نستبقَ التفصيل - بقول موجَزٍ مركَّزٍ - بفضِّ الاشتباك الوهميِّ المستحدَثِ في جماجم المشكِّكين بأن الدولة المدنيَّةَ شأنها شأن كافة المصطلحاتِ العصرية (الفكرية والسياسية ...) التي تعاني من دَلالةٍ قطعية، وتخضع في جملتِها لمنطق التفسير العُرفي؛ أي: إنها تخضع لقاعدةِ الأخذ والرد باعتبارها متغيِّرًا دلاليًّا يُحكَم عليه بعد تفسير دلالاته، دون الاتكاءِ على المشاكلة اللفظية المفترضَة في عبارة المصطلحِ نفسِه.
بل ربما بدأت الإشعاعاتُ الدلاليةُ لهذا المصطلحِ فارضةً نفسَها من خلال الأصل اللُّغوي لعبارة "الدولة المدنية"، وتفصيلاتها الممكِنة من خلال التوليدات اللغوية المتعدِّدة للعبارة، بمعنى أن بعضَ القِيم الدلالية اللغوية ستتجه اتجاهًا ( سيو - اجتماعيًّا) في مقابل الدولة العسكرية؛ فالمدنيُّ هو من ليس عسكريًّا، وقد تأخذ هذه الدلالةُ منحًى آخر في العُرف التاريخي حينما تصبح دلالة المدني مرادفةً للحديث أو الحدَاثي، بينما نجدها في الواقع الجغرافي تعني مَن سكن المدينةَ، وجانَبَ الأريافَ والبواديَ، هذا التجريد اللُّغوي قد يكون مطلوبًا لتقريب المفهومِ الأبسط للدولة المدنية؛ تلك الدولة التي تتكئُ على جملةٍ من القوانين العرفية الموافَقِ عليها دستوريًّا؛ بل يمكن أن نطلق عليها الدولةَ القانونية؛ لأن المهمَّ في هذه الدولة نظامُها الأساسيُّ، وواقعها التنفيذي، فهي مدنيَّةٌ من خلال جهازها العام، وهذا التصور لا يقع أبدًا تحت المفهوم الأيدلوجي، بل يتَّكئ على حقائق فنيةٍ وإدارية تخضع لسؤال الكيفيةِ لا الماهية؛ أي: كيف تدير أجهزةُ الدولة شؤونَ الناس، وتحقِّق لهم مقاصدَ العيش في الحياة الدنيا من خلال نظامٍ سياسي شامل، وهيكلية إدارية متكاملةٍ تسمَّى: مؤسَّسات الدولة؟
هذا التصور المبدئيُّ لا يفصل الإسلام عن هيكلية هذه الدولةِ من خلال المنطق العَلمانيِّ: (دعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، لكنه لن يتعاملَ مع التصور الإسلاميِّ باعتباره سلطةَ هيمنةٍ مجمَّدة ومطلقة؛ فالقِيم الفنية الإدارية تقع ضمنَ دائرة الصلاح والفسادِ، والإمكانية والمستحيل، قبل أن تقعَ في دائرة الحلال والحرام، ولنا مثَلٌ في قوانين التعليم والسَّير والزراعة والصناعة وغير ذلك، التي يقبلُها الإسلام دون أن تكونَ من تشريعاته، ووقوعُها في دائرة الحلال والحرام يخضع لتصوُّرٍ مبدئيٍّ مخالفٍ لنصٍّ؛ أي: في جزئية أو مجموعةٍ من الجزئيات، لا في التصوُّر الإداري "الدولة بمجملها"، فالإسلامُ لا يرفض مصطلحَ "الدولة" رفضًا مبدئيًّا، ولا يعتبرُها أصلاً من أصول الاعتقادِ؛ كما نص على ذلك الفقهاء بوضوحٍ.
وفي سياق الاستدلال نشيرُ إلى أربعةِ محاور تدحض حججَ المشكِّكين، وتثبتُ عبقرية التصوُّر الإسلامي في الأداءِ السياسي الفنيِّ:
دولة الإسلام مدنيَّة لا دينية فقهًا:
الإمامة والسياسة ليستا ركنينِ من أركانِ الدين، بمعنى أنهما تُعتبران جزءًا من فروع الفقهِ التي تخضع للخطأ والصوابِ في معظمِها، ولا تخضع للإيمان والكفرِ عند جمهورِ علماء الأمَّة؛ فعلى سبيل المثال يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "إن نظريةَ الإمام ليست من المهمَّات، وليست من فنِّ المعقولات فيها، بل من الفقهيَّات"[1]، ويقول الإمام ابن تيمية (661 - 728 هـ/ 1263 - 1328 م): إنَّ الإمامةَ ليست من الأركان الخمسة، ولا من أركان الإيمان الستَّة، ولا هي من أركان الإحسان [2] بمعنى أن طبيعةَ الدولة وأحكامَها تخضع للفرعيات والاجتهادِ، وليس للعقائد الثابتة، كما هو الحالُ عند النصارى والدولة البابَويَّة.
دستور المدينة المنورة دستور مدني لا "ثيوقراطي":
ذلك أنَّ الأطرافَ الموقِّعة للوثيقة تشترك في المكان والموقِع، وهو المدينة المنورة، وتختلف في المرجعيَّة الدينية والثقافية والعِرقية؛ فهم المسلمون من قريشٍ، والمشركون من أهل المدينة من الأوس والخزرج، واليهود بمختلف قبائلهم؛ حيث ورد فيها: "هذا كتابٌ من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريشٍ ويثربَ ومَن تبِعهم فلحِق بهم وجاهد معهم، أنهم أمَّةٌ واحدةٌ من دون الناس"، ونص على اليهود في بندٍ آخر فقال: "يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين، لليهود دينُهم، وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسُهم"، وهذا يُعَدُّ عقدًا اجتماعيًّا سياسيًّا، أقرب ما يكون إلى حقوق المواطَنة، مع ملاحظة أن اليهودَ لم يكونوا ذمِّيين؛ لأن آيةَ الجزية وعقدَ الذِّمة جاءا متأخِّرينِ عن الوثيقةِ بسنوات.
أ. الوثيقة تضمنُ الحرِّياتِ الأساسية، ومنها: العدالةُ، وحريةُ الاعتقاد، والمشاركة، وسيادة القانون، بدلاً من التحكُّم والغَلبة التي لا تعترف بوجودِ الاختلافات داخل المجتمع؛ "لليهود دينُهم، وللمسلمين دينُهم"، ومن ذلك الأحكامُ الخاصة باليهود، وذكرُهم بطوائفهم، وأسماء قبائلهم، وتقرير الحقوق لهم في أنفسِهم ومواليهم، "وإن يهودَ بني عوف أمَّة مع المؤمنين، لليهود دينُهم، وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسُهم إلا من ظلم وأثِم؛ فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسَه وأهلَ بيته"، وحين الخلاف يكون المرجعُ لله ولرسولِه، باعتباره حاكمًا لا رسولاً نبيًّا؛ حيث كان الرسولُ - صلى لله عليه وسلم - يَحكم بين يهودَ أحيانًا بالتوراة، وأحيانًا بأحكام القرآنِ، مما يدلُّ على مراعاة الخصوصية الفكرية والعقائديَّة لليهود[3].
ب. الوثيقة فيها حفظٌ للأمن القومي في المدينة؛ وذلك بتأمين الجبهة الداخلية الإسلاميَّةِ عن طريق ذلك العَقد الاجتماعيِّ السياسيِّ الجديد، ثم توحيدِ جهود الأطراف المختلفة في المدينة لمواجهةِ الاعتداءاتِ من خارجها.
جواز العمل ضمن دولة لا تحكم وَفق منهج الحاكمية ضمانًا لتوفير العدل والحق قدر المستطاع:
في قصة يوسف - عليه السلام - ما يؤيِّد حلَّ تولِّي الوزارة، أو المناصب في دولةٍ كافرة لا تحكم بشرعِ الله؛ حيث يرى ابنُ تيمية - رحمه الله -: (أنَّ هذا المجتمعَ الكافر لا بدَّ أن يكون لهم عادةً وسنة في قبض الأموال وصرفِها على حاشيةِ الملِك وأهل بيتِه وجنده ورعيَّته، ولا تكون جاريةً على سنَّة الأنبياء وعدلِهم، ولم يكنْ يوسفُ يمكِنه أن يفعلَ كلَّ ما يريد، وهو ما يراه من دين الله؛ فإنَّ القومَ لم يستجيبوا له، لكنه فعل الممكِنَ من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيتِه ما لم يكن يمكنُ أن ينالَه بدون ذلك - وهذا كله داخل في قوله - تعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]) [4].
لقد اعترض المانعون على المُجيزين في استدلالهم بقَبول يوسف - عليه السلام - للوزارةِ، وقالوا: إن شرعَنا لا يجيز تولِّيَ الوزارة في ظل حاكمٍ غير مسلم، وأما تولي يوسفَ للوزارة فهو شرعٌ لمن قبلنا، وشرعُ من قَبلنا ليس بشرعٍ لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضُه.
وردّ المجيزون على هذا الاعتراض بوجوه:
الوجه الأول: أن شرعنا وشرعَ يوسفَ - عليه السلام - بل شرائع الأنبياء جميعًا، متفقةٌ على تقرير حاكميَّة الله تبارك وتعالى.
فيوسف - عليه السلام - يقرِّر في مخاطبته للفتيَيْنِ اللذين دخلا معه السجن أن الحُكمَ لله وحده؛ ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [يوسف: 40].
ويشرح الأستاذ سيد - رحمه الله - كلمةَ يوسف هذه بقوله: إن الحُكم لا يكون إلا لله، فهو مقصورٌ عليه - سبحانه - بحُكم ألوهيَّته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهيَّةِ، من ادعى الحقَّ فيها فقد نازع اللهَ - سبحانه - أُولى خصائصِ الألوهيَّة[5].
ويوسف - عليه السلام - الذي يعلم هذا الحكمَ المقرَّرَ في جميع الأديان هو الذي يتولَّى منصبَ عزيز مصر، ويقول للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ ﴾ [يوسف:55].
لقد تحدَّث المفسِّرون عن جواز تولِّي الصالح منصبًا لدى إمام جائرٍ، أو حتى كافر، قياسًا على قصة يوسفَ، ولم يعتبروها خاصةً به.
نقل القرطبيُّ - رحمه الله - عن بعض أهل العلم: (في هذه الآية ما يُبيح للرجل الفاضل أن يعملَ للرجل الفاجرِ، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلمَ أنه يفوِّض إليه في فعلٍ لا يعارضُه فيه)، فيُصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوزُ ذلك، ونقل القرطبيُّ عن قومٍ: أنَّ هذا كان ليوسفَ خاصة دون غيره، ولكنه رجَّح القولَ الأول)[6].
وقال الشوكاني: "وقد استُدل بهذه الآية على أنه يجوز تولِّي الأعمال من جهةِ السلطان الجائرِ - بل الكافر - لمن وثِق من نفسه بالقيام بالحقِّ"[7].
[1] الاقتصاد في الاعتقاد أبو حامد الغزالي، ط صبيح القاهرة، ص 134.
[2] منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ط القاهرة، ص 70.
[3] حدث ذلك في كثير من الأحكام؛ انظر - إن شئت - تفسير القرطبي في حد الرجم ج6، ص 180.
[4] مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، ط3 دار الوفاء 2005، ج 20 ص 56 - 57.
[5] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق القاهرة، ج4، ص 1990
[6] الجامع لأحكام القرآن،"تفسير القرطبي"، القرطبي، دار الكتب المصرية - القاهرة، ج9، ص215
[7] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، الشوكاني ج3، ص35.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/42216/#ixzz24CDtFTBu
التعليقات (0)