مواضيع اليوم

الدولة بطائفها الى اندثار والدويلة بدوحتها الى استئثار

عبدو شامي

2010-01-01 04:33:44

0

الدَوْلةُ بِطائِفِها الى انْدِثَار والدُوَيْلةُ بِدَوْحَتِها الى استِئْثَار

حكومة الدوحة الثانية تنسف نتائج الانتخابات وتنهي مفاعيل انتصار لم يصمد اكثر من خمسة اشهر ويومين
مؤكِّدة ابتداء زمن "الشيعية السياسية"

 

بقلم
عبدو شامي

 


2010

                                             الفهرس
مقدمة 4
الفصل الاول: مخاض ولادة الحكومة 7
الحوادث المترافقة مع التكليف الاول 7
انتفاضة الاكثرية على نفسها بعد سلسلة تنازلات مجحة في حقها 8
اعتذار سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة والحزب يرد بصواريخ جنوبية 9
اعادة تكليف الحريري والحوادث التي رافقت التكليف الثاني 9
صواريخ معلومة الهوية تطل من جديد منهية عملية التأليف لمصلحة المعارضة 11
الفصل الثاني: عوامل اضعفت حبهة الاكثرية اثناء عملية التشكيل 12
اولا: السلاح الغادر 12
ثانيا: وقوف الخارج موقف المستسلم وتخلي اميركا عن الاكثرية 13
ثالثا: التدخلات الدولية والاسرائيلية التي صبّت في مصلحة المعارضة 13
رابعا: التطور الدراماتيكي في مواقف وليد جنبلاط الذي اعلن انقلابه على 14 آذار 14
خامسا: احجام الرئيس ميشال سليمان عن التوقيع على حكومة اكثرية 15
الفصل الثالث: اسباب تسهيل الاقلية عملية ولادة الحكومة 16
1- حصول الاقلية على مبتغاها بعد تلقّيها العرض الذي فرضته 16
2- وصول كلمة السر من المحور السوري-الايراني وزيارة باسيل دمشق 16
الفصل الرابع: بقاء القديم على قدمه كرّس اتفاق الدوحة 17
ميزان الارباح والخسائر يتمثل بحال المولود الجديد 17
اولا: المولود الجيد بين الحياة والموت لولادته مصابا بفيروس الثلث القاتل 17
ثانيا: لا تناسق بين اعضاء المولود لجمعه بين الاضداد في تركيبة واحدة 18
ثالثا: توزيع الحصص الوزارية لم يتبدّل كثيرا عما كان عليه في الحكومة السابقة 19
الخلاصة: الحكومة تحمل بذور الفشل منذ ولادتها وتكرّس اتفاق الدوحة 20
الفصل الخامس:سوريا تقبض الثمن وتعود وايران الى حكم لبنان من بابه العريض 21
مكاسب سوريا وايران 21
كيف عادت سوريا وايران لتحكما لبنان؟ 22
الفصل السادس: البيان الوزاري..السلاح يشرّع السلاح 25
مقارنة بين بياني 2008 و2009 في الشق المتعلق بسلاح ما يسمى "مقاومة" 25
بيان ان ذكر "المقاومة" في البيان الوزاري يتناقض والمادة65 من الدستور 26
صدور البيان مانحا سلاح الحزب شخصية معنوية مستقلة توازي الجيش اللبناني 27
اعتراض وزراء مسيحيي14 آذار على بند السلاح وتأييده من السنة!! 27
ادخال عبارة "اخوية" على بند العلاقات اللبنانية السورية، واستبدال عبارة "ندية" بعبارة "مساواة"، بناء على طلب وزراء سوريا وايران 27
الانقسام الاليم داخل صفوف 14آذار يؤذن بالعودة الى زمن لقاء "قرنة شهوان" 27
دخول اسرائيل على خط مناقشات البيان الوزاري واستثمار الحزب لمواقفها 28
تهديدات اسرائيل تنم عن سذاجة مستبعدة في التفكير ما يثير 3 اسئلة منطقية 29
اسرار حرب تموز بدأت تتكشّف 29
اللعبة الاسرائيلية باتت مفضوحة وكيفية استفادة اسرائيل واميركا وايران منها 30
احتمال ضرب اسرائيل المفاعل النووي الايراني وتفسيراته 30
الفصل السابع: اعراف جديدة تكرّست مؤكدة ابتداء زمن "الشيعية السياسية" 32
الاعراف التي فرضها الحزب وكرّسها ومدى خطورة ذلك على دستور الطائف 33
اولا: عرف الثلث المعطل 33
ثانيا: الديموقراطية التوافقية 34
وثيقة الحزب السياسية الجديدة: رفض الطائف وفرض الديموقراطية التوافقية 34
ثالثا: حكومة الوحدة الوطنية 35
رابعا: ترك لكل فريق حق اختيار وزرائه وحقائبه الوزارية 36
خامسا: تكريس حصة وزارية لرئيس الجمهورية 37
سادسا: تشريع سلاح الحزب في البيان الوزاري 38
حقيقة النزاع وسبب مطالبة الشيعة بإلغاء الطائفية السياسية والهدف من ورائها 39
الفصل الثامن: قوى 14 أذار بين الواقع والمرتجى 42
عوامل اضعفت قوى 14 آذار 42
العامل الاول: الانقلاب الجنبلاطي في 2 آب 2009 42
العامل الثاني: تسمية النائب سعد الحريري رئيسا للحكومة 43
العامل الثالث: العلاقات المتشنجة مع الكتائب 44
العامل الرابع: الانقسام بين سنّة ومسيحيي 14آذار على خلفية موضوع السلاح 45
العامل الخامس: السلاح الميليشيوي الذي يحوّل الانتصار الشعبي الى فشل سياسي 46
كلمة اخيرة وتوصية 49
                                                                       

                                                       مقدمة

مع مطلع العام 2009، بدأ فريق الرابع عشر من آذار استعداداته لخوض الامتحان الانتخابي المصيري والمفصلي المقرّر في السابع من حزيران؛ وكانت اولى الاستحقاقات التي واجهته، الاعداد والتعبئة الجماهيرية من اجل تأمين اوسع مشاركة شعبية لاحياء الذكرى الرابعة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، في الرابع عشر من شباط كما في كل عام.
وبالفعل، كان ذلك اليوم الوطني يوما مليونيا آخر، في سلسلة الايام الوطنية المشهودة في مسيرة "ثورة الارز"، فقد غمرت الجماهير الوفيّة قلب بيروت، معيدة لساحة الحرية المشهد المليوني الساحر في 14 آذار2005، لتعلن ثباتها على المبادئ الاستقلالية والسيادية لثورتها، وان التخويف والترهيب لن يثنيها عن متابعة مسيرتها. وقد اجمعت مواقف القيادات في ذلك اليوم على تحديد معالم المرحلة المقبلة واولوياتها، مركّزة بشكل اساسي على اهمية انطلاق عمل المحكمة الدولية المرتقب، وضرورة المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة.
يوم الاحد 1آذار 2009، كان يوما تاريخيا في المسيرة الاستقلالية، فقد اُعلِن افتتاح وانطلاقة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في "لاهاي"، بعد 4 سنوات على زلزال 14 شباط 2005، تلك المحكمة "الحلم"، التي يأمل اللبنانيون ان تضع حدا لمسلسل القتل المتمادي الذي يحصد الاحرار في لبنان من دون حساب ولا عقاب. بَيْد ان المفاجأة او الصدمة الكبرى، وقعت في 29 نيسان، اي في عز التحضيرات للاستحقاق الانتخابي، مع افراج المحكمة الدولية عن الضباط الاربعة المشتبه بتورّطهم في "جريمة العصر"، بعد 44 شهرا على احتاجزهم الذي تمّ في 30 آب 2005، لتنطلق مع تخليتهم عاصفة كبيرة من التداعيات السياسية والحملات الهجومية التي شنّتها المعارضة على القوى الاستقلالية، منظِّمة احتفالات حاشدة للضباط المفرج عنهم في محاولة منها لتبييض سجلاتهم الزاخرة بالممارسات القمعية، وسط احتضان لافت لهم من نواب "حزب ولاية الفقيه"، الذي شنّ اعنف هجماته على السلطة وقوى 14 آذار والقضاء اللبناني، متوعّدا 14 آذار بـ"ثمن سياسي كبير".
الا ان قوى 14 آذار، استطاعت التغلّب وان بصعوبة على هذا الحدث الذي خدم بتوقيته الواقع على مشارف الانتخابات قوى الثامن من آذار، معتبرة ان قرار التخلية الذي علّلت المحكمة صدوره بأن "المعلومات المجموعة حتى الآن والمتعلقة بالتورّط المحتمل للاشخاص الاربعة الموقوفين (...) ليست موثوقا بها بما فيه الكفاية لتبرير ايداع قرار اتهام في حق اي منهم"... هذا القرار، جاء ليؤكّد منطق الرابع عشر من آذار حول عدم تسييس المحكمة، مقدِّما دليلا ساطعا على سقوط عنوان التسييس الذي رفعته المعارضة وبنت سياستها في هذه القضية على اساسه منذ وقوع الجريمة، محاولة عرقلة قيام المحكمة بشراسة مريبة وصلت الى حد تخريب البلاد. مع العلم ان قرار اخلاء سبيل الضباط الاربعة ليس بمثابة صك براءة نهائي اعطي لهم، لأن ذلك لن يعرف الا بانتهاء المحاكمة واكتمال التحقيقات، وهذا ما اكّده القاضي بلمار يوم تخليتهم، اذ لفت الى امكان استدعائهم في حال ثبوت ادلة تستدعي اتهامهم في وقت لاحق.
وفي السابع من حزيران 2009، خضع جمهور ثورة الارز للامتحان التاريخي، الذي لم تُقدِم المعارضة على تعطيله كما توقّع بعض المحلّلين، لأنها على ما يبدو كانت واثقة فعلاً من فوزها فيه، إلا أن "ثوار الأرز" نجحوا في امتحانهم نجاحاً باهراً، أثمر عن فوز كاسح لقوى 14 آذار، حيث نالت71 مقعداً نيابياً مقابل 57 للمعارضة، مجدّدة بذلك أكثريتها النيابية التي ثبت أنها حقيقية غير وهمية ولا دفترية ولا مسروقة، ومنتصرة لمنطق الدولة على الدويلة، ولثقافة الحياة على ثقافة الموت، وللحرية والسيادة على التبعية والإرتهان.
وأكدّت النتائج التي انتهت إليها الانتخابات النيابية، تبدُّد وانتهاء أسطورة الـ70% التي لطالما استقوى بها العماد عون، فقد أظهرت دراسة لمجمل النتائج التي أدت اليها عمليات الفرز الرسمي، أن ما يتجاوز الـ50% من الناخبين المسيحيين صوّتوا ضد لوائح الجنرال، ما يعني انتفاء حصرية تمثيل عون للمسيحيين، ورفع الغطاء المسيحي عن الحزب المسلّح و"ورقة تفاهم 6شباط".
وبناء على تلك النتيجة المشرّفة، ظن بعض الجمهور الاستقلالي المتفائل، انه بإنجازه العظيم هذا، تكون القوى الإستقلالية قد طوَت تسوية الدوحة الظالمة وثلثها القاتل المدمِّر لمدّة اربع سنوات مستقبلية على الاقل، فيما بالغ آخرون معتبرين ان هذا الفوز جاء بمثابة اعلان فشل وانهيار المشروع الايراني في لبنان والعالم العربي، مع حصد القوى الاستقلالية الغالبية النيابية بقانون العام 1960 الذي فرضته عليها قوى التعطيل إثر غزوة أيار 2008 الإرهابية بالقوّة لظنها أنه سيمنحها الأكثرية، وإذ بالناخب اللبناني يجيب: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
غير ان مجريات الاحداث بعد الانتخابات ما لبثت ان اثبتت عكس ما ظنه المتفائلون وما شطح اليه المبالغون، مع صدمة الانقلاب الجنبلاطي على القوى الاستقلالية في الثاني من آب، وبروز معادلة خطيرة بسبب الوضع الشاذ الذي تواجهه البلاد للمرة الاولى في تاريخها، وهو قيام تحالف مذهبي شيعي احادي القرار ومسلح، يضع الاكثرية والمذاهب الاخرى بين خيارين: اما عودة التوترات الامنية، وتعطيل عمل المؤسسات، اذا ما اصرّت الاكثرية على تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، وهي حكومة ستعتبر بزعم هذا التحالف اذا امتنع او أُقصي عن المشاركة فيها غير شرعية وغير ميثاقية، بعد اعطائه الفقرة (ياء) من مقدمة الدستور، التي تنفي الشرعية عن اي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، تفسيرا مذهبيا مغلوطا... وإما ان تسلّم الاكثرية بما تريده الاقلية المسلحة في هذا التحالف، اذا كانت تهمها "مصلحة الوطن" وحمايته من السقوط في الفوضى وفي المجهول...
وبناء على هذه المعادلة، تمادت القوى التعطيلية في فرض شروطها على قوى الاستقلال، لانها تعلم ان الخطر عندما يصل الى حد تهديد الكيان والهوية والنظام والسلم الاهلي...فإن الاكثرية سوف تتراجع عن مواقفها وتتنازل...والدليل على ذلك ما حصل منذ عام 2005 الى اليوم.
فبعد نحو خمسة اشهر من الانتخابات، رغم انتصارها الانتخابي، خضعت الاكثرية مجددا لتلك المعادلة الخطيرة، التي نجحت قوى الامر الواقع المعارِضة بواسطتها في فرض اعادة إنتاج اتفاق الدوحة معدلاً، والتمديد لمفاعيله، بعد وضع مسحة من "الماكياج" التمويهي عليه، وذلك بفرض حكومة تحتوي على ثلث قاتل مضمر، اضافة الى بيان وزاري شرّع سلاح ما يسمى بالـ"المقاومة"، مكرّسة اعرافا جديدة تتعارض ودستور الطائف، ومؤكدة بصوت صارخ ابتداء زمن "الشيعية السياسية" الذي افتُتِح رسميا باتفاق الدوحة في 21 ايار 2008.
وقد خلّف هذا الواقع وموضوع السلاح تحديدا، انقساما حادا داخل فريق 14آذار، ففي حين اعترض مسيحيو هذا الفريق على البند المدرج في البيان الوزاري والذي يعطي الشرعية والاستقلالية لذلك السلاح، ايّد مسلمو الفريق الاستقلالي ما ورد في هذا البند الخطير دون تحفّظ!! وكأن لسان حالهم يقول:ان سلاح "حزب ولاية الفقيه" شرعي وضروري ومؤقت!! فعاد بنا هذا المشهد المخزي والانقسام الاليم، الى الاصطفافات السياسية زمن الوصاية السورية، حين اسّس المسيحيون الاستقلاليون في شهر نيسان من العام 2001، "لقاء قرنة شهوان"، الذي عرف بالمواقف المتشبثة بالحرية والسيادة والاستقلال، وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، في مواجهة من كانوا يكرّرون يوميا معزوفة: ان وجود القوات السورية في لبنان هو "وجود شرعي وضروري ومؤقّت".
كما اعاد الى الذاكرة موضوع شرعنة سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى بـ"المقاومة"، بموافقة مجلس الوزراء ومن ثم بموافقة مجلس النواب، وفصْله عن سلاح الدولة مع اقامة نوع من الاتفاق او المعاهدة بينهما، اعاد الى ذاكرتنا الاتفاق الذي تم بين سلاح المنظمات الفلسطينية في لبنان والدولة اللبنانية، وعُرِف بـ"اتفاق القاهرة"، الذي ابرم في 3 تشرين الثاني من العام 1969، وأعطى الشرعية بموافقة مجلسي الوزراء والنواب لوجود وعمل المقاومة الفلسطينية في لبنان ضمن مبادئ سلامة لبنان وسيادته...وكيف ان التنظيمات الفلسطينية لم تحترم أحكام الاتفاق، فاعتدت على سلطة الدولة وسيادتها، ما استتبع اشعال حرب لبنانية-فلسطينية دامت سنتين، ثم ولّدت حروباً دامت 15 سنة وصفت بحروب الآخرين على ارض لبنان، ولم تتوقف الا بعد دخول القوات السورية اليه واقرار اتفاق الطائف.
باختصار نقول: ان تعاظم قوة قوى الامر الواقع المسلّحة، وتقدُّم مشروعها لاسيّما بعد غزوة ايار واتفاق الدوحة، يؤشّر الى التحضير لدستور جديد سيُفرض على لبنان. وتجاه هذا الواقع الذي بات انكاره من قبيل المكابرة، لم يعد امام القوى الاستقلالية سوى اختيار الكيفية التي تفضلّها او تراها الاقل ضررا لانهاء دستور الطائف الذي بات يلفظ آخر انفاسه: فإما ان تختار انهاءه بشكل سريع، عبر العناد بالتمسّك بالثوابت والمبادئ السيادية الذي سيؤدّي الى موجة من التفجيرات والاغتيالات، وصولا الى حرب اهلية ومذهبية هيّأ لها الفريق المسلّح جميع الاجواء والاستعدادت، لتنتهي باقرار دستور جديد يفرضه الطرف الاقوى على البلاد... وإما ان تختار انهاء الطائف بشكل بطيئ ومتدرّج يُبقي الاستقرار مخيِّما على البلاد، وذلك عبر بذل المجهود للفوز دائما بجميع انواع الانتخابات، لكن مع تقديم التنازلات المُذِلّة تلو التنازلات، ما سيُفرّغ الطائف من مضمونه، ويُفضي في النهاية الى الدستور الجديد الذي يسعى الفريق المسلّح لفرضه على العباد.
وبيدو ان اختيار التيار الاستقلالي قد وقع على الكيفية الثانية، بدليل ما آلت اليه عملية تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، على امل حدوث تغيير في المنطقة يقلب الموازين ويغيّر الحسابات. مع العلم ان ثمة منطقا آخرا لدى كثيرين من الجمهور الاستقلالي وبعض القيادات، الذين يفضّلون استكمال المواجهة المشرّفة على كلفتها الباهظة وان انتهت بانهزام، بدلا التنازل المخزي مع العيش باستقرار ممزوج بذل واستسلام.
وفي هذا الكتيّب، قراءة تحليلية للواقع الجديد الذي فرضته المعارضة على لبنان تدريجيا، لاسيما بعد انتخابات حزيران 2009، وذلك انطلاقا من تحليل تركيبة الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري، وما رافقهما واحاط بهما من احداث.
                                                                                                                            عبدو شامي 
                                                                                                                    بيروت: في 1/1/2010
                                                                      

              الدولة بطائفها الى اندثار والدويلة بدوحتها الى استئثار:      

         حكومة الدوحة الثانية تنسف نتائج الانتخابات وتنهي مفاعيل انتصار لم يصمد اكثر من خمسة اشهر ويومين 
                                           مؤكِّدة ابتداء زمن "الشيعية السياسية"

بعد مخاض عسير استغرق 139يوماً من المشاورات، بعضها كان مناورات والبعض الآخر محاورات، ولدت اخيراً الحكومة اللبنانية التي يمكن وصفها بحكومة التناقضات، حيث جمعت في تركيبة واحدة حَمَلة مشروع الدولة مع انصار مشروع الدويلة، واصحاب قوة المنطق مع دعاة منطق القوة... واستحقت بجدارة بناء على شكلها وبيانها الوزاري، ان توصف بحكومة "الدوحة الثانية" المشَكّلة بقوة السلاح.

                                           الفصل الاول
                                    مخاض ولادة الحكومة
لم تكن ولادة الحكومة على النحو الذي خرجت عليه بالأمر السهل بالنسبة للمعارضة، فقد اصطدمت في بداية الامر بأكثرية نيابية وشعبية متمسكة بمبادئ اساسية، اهمها يتلخص بثلاث لاءات ونعم واحدة، هي: لا للثلث المعطل، لا لتوزير الراسبين في الانتخابات، لا لتشريع سلاح خارج على الشرعية اللبنانية يصادر قراري الحرب والسلم من يد الدولة، نعم لأن تعكس الحكومة الجديدة نتائج الانتخابات؛ وهي ثوابت ومبادئ منحها الشعب اللبناني بغالبية اطيافه دعما وتأييدا منقطع النظير في انتخابات 7 حزيران النيابية، لا سيّما الشارع المسيحي الذي انتفض على من ابعده عن ثوابته التاريخية والوطنية، وأعاد تصحيح مسار المسيحيين معطيا لكل فريق الحجهم الذي يستحقه.
امام عناد فريق الاكثرية المتمسك بمبدأ ضرورة ان تعكس الحكومة نتائج انتخابات 7 حزيران... اضطرت المعارضة منذ انتهاء الانتخابات النيابية وتكليف زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري تشكيل الحكومة، اضطرت لفبركة الكثير من الإشاعات وافتعال موجة من الخروقات الامنية المتنقلة والمدروسة، واطلاق صواريخ معلومة الهوية، استطاعت من خلالها نقل رسائل محدّدة الأوصاف والغايات الى الجهات المعنيّة، تارة من اجل ارغام الاكثرية على تقديم التنازلات والمزيد من التنازلات، وطوراً بغرض تسريع عملية الولادة بالشروط المفروضة من الفريق الخاسر، على اعتبار أن الاكثرية ستستنتج في النهاية ان قيام حكومة، بالغاً ما بلغت سيئاتها، يظل افضل من الفراغ بما يعنيه من شلل في المؤسسات واستدعاء للفلتان والفوضى.
ويمكن اختصار تلك الرسائل المرمّزة، والتي بات جميع اللبنانيين على خبرة واسعة في فكّ رموزها، بأربع عشرة رسالة: اربع منها جرى ارسالها في فترة التكليف الاول، وعشرة في فترة التكليف الثاني.
1-افتتحت المعارضة عروضها الدموية، بـ"ضربة استباقية" في 28 حزيران2009، بعد ايام من تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، وعشية بدئه مشاوراته مع الكتل النيابية لاستخلاص تصوّراتها حول شكل الحكومة العتيدة؛ فقد افتعلت إشكالا أمنيا في منطقة "عائشة بكار" ذات الكثافة السنية، بواسطة ميليشيات "حركة امل" الشيعية، حيث جرى استقدام مئات المسلحين من الضاحية الجنوبية وبعض احياء بيروت المختلطة، ولم يتدخل الجيش الا بعد انتهاء الاشكال الذي أدى الى سقوط قتيلة من أهل المنطقة وستة جرحى، وذلك بقصد صد اندفاعية وحماسة الفريق المنتصر، وتذكير الرئيس المكلّف وقوى الأكثرية بضرورة إذعانهم للشروط والمطاليب التي ستطرحها قوى 8آذار في عملية تشكيل الحكومة وإعداد بيانها الوزاري، وإلا فالسابع من أيار قابل للتكرار في أية لحظة.
وصلت الرسالة الى من يهمه الامر وجرى التصرّف على اساسها في عملية التأليف، لاسيما في فرض وتثبيت صيغة الـ15-10-5 ذات الثلث المعطل المموّه، لتتشكّل الحكومة على اساسها.
2- وفي17تموز2009، اطلق حسن نصرالله سلسلة مواقف ترهيبية، كاشفا انه "لم يطلب من الرئيس المكلف اي ضمانات لسلاح المقاومة او لقرارات المحكمة الدولية"، ما يذكّرنا "بمعادلة السلاح يحمي السلاح" التي أرساها خلال حوادث السابع من أيار الإرهابية. وتابع في الخطاب نفسه:"بعد الانتخابات تصرّفنا على اساس اننا قبلنا بنتائج الانتخابات، ودخل البلد في مرحلة هدوء وانتظار، إن ايجابية المعارضة وقبولها النتائج اخذا البلد نحو الهدوء". وصلت الرسالة التهديدية الثانية، وان اللبيب من الاشارة يفهم.
3- لم يكتف الحزب بذلك التهديد المبطن، بل تجاوزه الى التهديد الصريح في 25تموز 2009، حين قال أمينه العام خلال لقاء جمعه مع مغتربين لبنانيين: "ان الحزب جبل راسخ، والمحكمة الدولية لاتهز شعرة واحدة في الحزب، وكل من يقف خلف هذه الامور سيندم، وليعلم الجميع ان ما فعلناه في 7 ايار كان مجرّد هزّ اليد، ونحن اقوياء لدرجة تمكّننا من قلب عشر طاولات لا طاولة واحدة".
4- رفعت المعارضة سقف مطاليبها وطال امد التأليف، فارتفعت بعض الاصوات الاستقلالية السيادية على استحياء مطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط أو حتى حكومة اكثرية لا تشارك فيها المعارضة، عملا بأبسط مبادئ الديموقراطية وترجمةً لنتائج الانتخابات.
وهنا تدخّل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في 10/8/2009، لممارسة مزيد من الضغط على قوى الاكثرية، والحؤول دون إقصائها المعارضة عن الحكومة اذا ما كان ذلك الاحتمال وارداً لديها، محذّرا الحكومة اللبنانية من نتائج دخول "حزب ولاية الفقيه" الحكومة المقبلة، وقال : "ليكن واضحاً ان الحكومة اللبنانية ستتحمل مسؤولية اي هجوم يأتي من اراضيها، اذا صار "حزب الله" رسمياً جزءا منها...".
اياماً قليلة، وجاءت ترجمة خطاب نتنياهو على لسان حسن نصر الله؛ فقد استغل ذلك الكلام التصعيدي من اجل تعجيل وتيرة تشكيل الحكومة بما يتلاءم مع املاءات فريقه، فقال في 15/8/2009: "ان ضجيج التهديدات الاسرائيلية في الآونة الاخيرة لم يكن يؤشّر الى حرب جديدة، وانما هدفه شن حرب نفسية لإعاقة تشكيل الحكومة في لبنان والحيلولة دون مشاركة "حزب الله" فيها..."، وأكّد بأن "الرد على ذلك يكون بأن نسارع ونتعاون جميعاً على تشكيل حكومة وحدة وطنية وأن يشارك "حزب الله" فيها بفعالية، وهكذا نسقط الهدف من هذه التهديدات".
وقد حققت التصاريح الاسرائيلية هدفها المنشود (باحراج الاكثرية التي خشيت عودة نبرة الخطاب التخويني)، فسمعت الرد الذي تنتظره، مع قول الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية سعد الحريري في 25 آب 2009 :"اريد ان اؤكد للعدو الاسرائيلي (...) ان "حزب الله" سيكون في الحكومة، شاء العدو ام ابى، لان مصلحة الوطن تتطلّب ان نكون جميعاً في هذه الحكومة ولا يزايدن احد في هذا الموضوع".
في الاسبوع الاول من ايلول، بعد تلك الرسائل الاربع، وبعد سلسلة من التنازلات المجحفة بحق الجمهور السيادي، تمثلت بموافقة الأكثرية على تأليف حكومة وحدة وطنية متنازلة عن حقها في تشكيل حكومة أكثرية، ثم قبولها بالتخلي عن نصاب الثلثين داخل الحكومة واكتفائها بالنصف زائداً واحداً(أي16وزيراً) دون ثلث معطل للمعارضة، ثم تخلّيها عن هذا النصف جزئياً وأعطائها المعارضة ثلثاً معطلاً مموّهاً، ما دفع المعارضة الى رفع سقف شروطها ومطاليبها في شأن الوزراء والحقائب التي ترغب بإسنادها اليها... انتفضت الاكثرية على نفسها، فقد انتظرت والرئيس المكلف ليقولا كلمة "لا" في وجه ابتزاز المعارضة الى انتهاء موسم الاصطياف لتمريره بسلام وتحقيق اكبر نسبة نمو اقتصادي ممكنة، لعلمهم المسبق ان عنادهم كان سيجلب حوادث امنية تعكّر ذلك الموسم المهم للاقتصاد اللبناني.
ففي العاشر من ايلول، بعد 73 يوما على اجرائه "جولات وجولات من المشاورات كانت تنتهي دائما الى وجود تعطيل في مكان ما، والى المراوحة في طرح شروط تستهدف بشكل أو بآخر إلغاء نتائج الانتخابات أو تسخيفها"، وبعد تقديمه تشكيلة وزارية لاقت رفضا من المعارضة وامتناع رئيس الجمهورية عن التوقيع عليها، قدّم الرئيس الحريري اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة معيدا الامور الى نقطة الصفر، ومسترجعاً انتصار الاكثرية في الانتخابات النيابية، مؤكدّاً أنه لن يقبل "أن تتحول رئاسة الجمهورية أو الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة إلى مجرّد صندوقة بريد، نتسلّم من خلالها مراسيم تسمية الوزراء الآتية من الأندية والأروقة السياسية".
مع هذا الاعتذار سقطت صيغة 15-10-5، واصبحت كل الخيارات واردة، واستعادت قوى 14آذار معنوياتها مع قول منسق الامانة العامة لقوى14 آذار الدكتور فارس سعيد في 10/9/2009: "في حال قبول الرئيس سعد الحريري بإعادة تكليفه تشكيل الحكومة مرة أخرى، سيكون ذلك وفق شروط جديدة، أهمها ان "السما ستصبح كلها زرقا" بدلاً من "السما بتساع الكل""، لافتاً إلى انه "سيتم التعاطي على اساس الفوز في الإنتخابات النيابية، والحق لهذه الأكثرية في ان تشكّل حكومة تتألف من الأكثرية".
اربك اعتذار الحريري قوى 8 آذار، فأعدّت رسائل اكثر خطورة واشد وضوحا من سابقاتها للحفاظ على تنازلات الاكثرية في التكليف الاول، وارغامها على تقديم المزيد منها.
1- فقد ردّت المعارضة على خطوة الاكثرية في اليوم التالي على الاعتذار، اي في 11/9/2009، بإطلاق ثلاثة صواريخ "مجهولة الهوية" كالعادة، من سهل القليلة جنوبي مدينة صور باتجاه الشمال الفلسطيني، سقطت في منطقة نهاريا، وأعقبها سقوط قذائف اسرائيلية على المنطقة.
وشكل ذلك التوتر الامني الذي يستغل ويستعين بما يمكن ان يسبّبه خطر العدو الصهيوني على لبنان، رسالة جديدة من فريق المعارضة الى قوى الاكثرية، مفادها ان بإمكانه "اشعال الجبهة" في اي وقت واعادة البلاد اعواماً عديدة الى الوراء، وليس فقط تبخير موسم الاصطياف، اذا ما اصرّت الاكثرية على عنادها وتمسّكها بثوابتها.
2-أعادت الاكثرية تسمية النائب سعد الحريري لتشكيل الحكومة، فأعيد تكليفه رسميا للقيام بتلك المهمة. ومع التكليف الثاني بدأت تثار في الاعلام السوري واعلام 8 آذار، شائعات حول اعادة بروز شبح الجماعات الارهابية على الساحة اللبنانية، مع بث معلومات عن تدفّق عدد كبير من العناصر الأصولية أو ما يسمى بـ"الجهاديين" إلى لبنان منذ منتصف شهر آب الماضي، يناهز 7 آلاف عربي وخليجي اختفوا في لبنان من أصل 100 ألف مواطن سائح خليجي دخلوا البلاد في موسم الصيف، وذلك بهدف تنفيذ عمليات إرهابية في لبنان وعدد من الدول العربية.
الا ان وزير الداخلية زياد بارود، ما لبث ان طمأن اللبنانيين الى ان ما أثير أخيرا حول دخول عناصر "إرهابية" من جنسيات خليجية إلى لبنان بحجة الاصطياف وبقائهم فيه، جرى تضخيمه لاستخدامه سياسيا، مؤكّدا ان القوى الامنية تقوم بواجباتها على أتم وجه، بمتابعة الداخلين والخارجين من لبنان. وفي المعلومات بحسب المصادر، أن عدداً كبيراً من العرب والخليجيين يناهز الـ 700 لم يغادروا لبنان منذ آب 2009، وليس كما أشيع عن آلاف، وأن الباقين ما زالت سمات دخولهم الى الأراضي اللبنانية صالحة، وجرى التحقّق من اوضاعهم.
3-سادت عقب ذلك حالة من الهدوء الامني، نتج عن الاسلوب الحواري الجديد الذي اعتمده الرئيس المكلف في مشاوراته الجديدة، كما ساعد على ذلك التحضيرات والاستعدادات لانطلاق دورة الالعاب الفرنكوفونية السادسة التي استضافها لبنان ما بين 27 ايلول و6 تشرين الاول2009.
لكن، بعد ساعات قليلة على اختتام دورة الالعاب الفرنكوفونية، وعشيّة تأكيد زيارة العاهل السعودي الى سوريا، عاد الارهاب ليمارس نشاطه في لبنان، متخذاً من توقيت هاذين الحدثين ساعة الصفر لابتداء مهمّته في افتعال حوادث امنية ذات خلفية وابعاد سياسية بامتياز، لا كما دأب الجنرال البرتقالي على تفسير وتبسيط وتسخيف كل إشكال على انه مجرّد حادث امني عابر، او شجار فردي عفوي معزول عن الصراع السياسي الدائر في البلاد، متابعا بذلك ما كان بدأه منذ سنوات، عندما اخذ يدعو بعد كل حادث امني الى عدم استباق نتائج التحقيقات، بعدما كان يتهم سوريا بأنها وراء الاغتيالات والتفجيرات.
ففي 6/10/2009، افتعلت المعارضة حادثا دمويا جديدا في منطقة عين الرمانة ذات الكثافة المسيحية هذه المرة، فقد تطوّر اشكال مسائي مع شاب من الشياح (ذات الكثافة الشيعية) تعرّض للضرب على ايدي شبان قرب محمصة صنين في عين الرمانة، الى حضور عدد كبير من الشبان من الشياح على دراجات نارية الى مكان الحادث مسلحين بالسكاكين، حيث هاجموا شبانا من اهل المنطقة، فسقط قتيل يدعى جورج ابو ماضي، وجرح اربعة. وسارع الجيش الى نشر تعزيزات في المنطقة من اجل تطويق الحادث وملاحقة الفاعلين... الا ان اهالي منطقة عين الرمانة المعتدى على حرماتهم، تعرّضوا لمعاملة وحشية على أيدي القوى الأمنية، وكأنّهم أمام 7 آب جديد!
وقد اعادت تلك الحادثة بمشهدها الامني الى ذاكرة اللبنانيين، ما عانوه وخبروه منذ عام 1975من ويلات الحرب الاهلية وخطوط التماس، وشكّلت رسالة الى مواقف عدد من قادة 14 آذار، وآخرهم رئيس الهيئة التنفيذية لحزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي دعا صباح ذلك اليوم الى حسم الموقف من الازمة الحكومية بدعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الى استخدام قلمه لتوقيع اي تشكيلة يعدّها مع رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري.
4- ليل 7/10/2009، عادت منطقة التبانة-جبل محسن الى الواجهة، بعد استخدامها في فترة تشكيل "حكومة الدوحة الاولى" وصياغة بيانها الوزاري كصندوق بريد لفرض اوامر المعارضة، فقد اصيب 8 أشخاص بجروح بينهم 4 بإصابة طفيفة، جرّاء قذيفة "إينيرغا" أُطلقت من باب التبانة (حيث الثقل السني) على مقهى "الأشقر" في محلة جبل محسن (العلوي) في طرابلس. كما ألقيت بعد ذلك بوقت قصير قنبلة في محيط جامع الناصري في محلة باب التبانة.
5- وفي 14/10/2009، سقطت قذيفة "إينيرغا" في محلة طلعة العمري في باب التبانة في طرابلس، ولم يُحدث انفجارها أضراراً. وعلى الاثر أقفلت المحال في المنطقة، وسيّر الجيش دوريات، وأقامت قوى الأمن الداخلي حواجز على مداخل المنطقة.
6- فجر الأحد 18/10/2009، انتقل التوتر الامني الى مدينة صيدا بما ترمز وتمثّل، فقد شهدت حادثين أمنيين محدودين، تمثلا بإقدام مجهولين على اطلاق الرصاص باتجاه " بناية المصباح" التي تقع فيها مكاتب لتيار المستقبل ومؤسسة الحريري، وفي محيط دارة آل الحريري التي تقع في مجدليون شرق صيدا، ثم القوا بعد ذلك شحنة ناسفة بعدها ببضعة امتار قبل ان يفرّوا الى جهة مجهولة.
7- ولاعادة توتير الشارع المسيحي، وبينما كانت مجموعة من الأصدقاء تحتفل بعيد ميلاد احدهم في أحد المطاعم، على بعد أمتار من سراي جونية حيث اكثر من مقر للقوى الأمنية في 17 /10/2009، فوجئوا برجل غريب يدخل بينهم، فحصل تلاسن بينه وبين احدهم تطور بسرعة إلى عراك، فبدأ الغريب بكيل الشتائم للسيدة العذراء والسيد المسيح والأعراض، وعمد الى ضرب السكاكين فأصاب احدهم بجروح، ثم ما لبثوا ان فوجئوا بأكثر من ثلاثين شخصاً مدججّين بالسكاكين والعصي، حضروا الى المكان وانهالوا على الجميع بالضرب رجالا ونساء.
وقد جاءت حادثة جونيه، التي كادت ان تتسبب بـ"جورج أبو ماضي" آخر، كتتمّة لحادثة عين الرمانة، وأوحت وكأن ثمة ما يُخبّأ للمناطق المسيحية، فليست مصادفة ان يُقتل الشباب المسيحي ويُهان في مناطق لها رمزيّتها في الوجدان المسيحي.
8- في 18/10/2009، دخل العدو الاسرائيلي على الخط، لارغام الاكثرية على الاسراع في تشكيل الحكومة والرضوخ الى المزيد من التنازلات؛ فقد عمد الى تفجير جهازي تجسّس قيل انهما كانا متصلين بشبكة اتصالات الحزب الخاصة الخارجة على الشرعية اللبنانية، وذلك في خراج بلدة حولا الجنوبية.
9- تابع الحزب الجهود الاسرائيلية لكي تبني الاكثرية على الشيء مقتضاه، فلم تمض عشرة ايام على حادثة الخرق الاسرائيلي في الجنوب، حتى سجلت المنطقة عينها توتراً امنياً جديداً في 27/10/2009 مساء، تمثل في اطلاق صاروخ "مجهول المصدر" كالعادة نحو اسرائيل، من وادي الجمل في خراج بلدة حولا. وافادت مصادر امنية الى شهود عيان، ان العملية تمّت من المنطقة عينها التي شهدت الحادثة السابقة. وبعد اقل من نصف ساعة، اطلقت المدفعية الاسرائيلية سبع قذائف سقطت في خراج البلدة ومحيط وادي السلوقي، من غير ان توقع اضرارا. وقد اثار هذا الامر توتراً في المنطقة، وادى الى استنفار الجيش الذي اقام حواجز ثابتة في القرى لتفتيش المارة والتأكّد من هوياتهم، فيما لوحظت حركة شبه عادية للقوة الدولية.
10- وفي صباح اليوم التالي، ساد التوتر المنطقة الحدودية في الجنوب، فقد سُجّل تطور آخر، تمثل في كشف الجيش أربعة صواريخ معدّة للاطلاق في النقطة نفسها التي اطلق منها الصاروخ الليلة الماضية. ونقلت مراسلة "النهار" في مرجعيون عن مصدر أمني، ان كشف الصواريخ الاربعة يرجّح فرضية ان الصاروخ أطلق ليل الثلثاء من طريق الخطأ لدى تجهيز الفاعلين اياه مما دفعهم الى الفرار قبل انجاز الصواريخ الأخرى. وخيّم التوتر على المنطقة وسط تدابير للجيش و"اليونيفيل"، وتحليق للطيران الحربي الاسرائيلي في اجواء المنطقة.
وفي هذا السياق، كان لافتا اعلان جماعة تطلق على نفسها تسمية "كتائب زياد الجراح"، مسؤوليتها عن اطلاق الصاروخ الاخير والصواريخ التي سبقته، مدعِّمة اعلانها بشريط مصوّر للعملية. وهذا تبنّ لا شك اُطلق بقصد تضليل الرأي العام والتحقيقات، اذ يمكن تشبيهه بالشريط المفبرك استخباراتيا لـ"جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام" الوهمية، الذي نشر بعد عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ذلك، ان انطلاق هذا الصاروخ من المنطقة نفسها التي وضعت تحت المراقبة بعدما جرى فيها تفجير اجهزة "التجسّس" قبل ايام قليلة، وفي منطقة تتمركز فيها جحافل من القوات الدولية مكوّنة من اكثر من 13 الف جندي دولي نزلوا على الحزب الحاكم في تلك المنطقة ضيوفا كراما واصهارا مقرّبين، يعاونهم 15 الف جندي لبناني، اضافة الى اعداد هائلة من عناصر وأعْيُن وآذان الحزب الحاكم... لايمكن ان يتم الا بمعرفة وتنظيم "حزب ولاية الفقيه" الممسك بمساحة دويلته بقبضة من حديد، اذ من غير المنطقي ان تتمكّن جماعة دخيلة على الجنوب اللبناني من التسلّل الى المناطق الحدودية ومجاهلها، واطلاق صواريخها منها، فيما الحزب المسيطر على الارض آخر من يعلم.
ومع تلك الحادثة، وتلك الجهود الارهابية التي سبقتها، نجحت قوى المعارضة في انتزاع شروطها وفرض مطاليبها، فولدت "حكومة الدوحة الثانية" المشكلة بما يتلاءم ومواصفات المعارضة.

                                                                    

 

 


                                           الفصل الثاني
        
عوامل اضعفت جبهة الاكثرية اثناء عملية التشكيل

نجحت قوى المعارضة في اعادة تثبيت وفرض صيغة 15-10-5، كما نجحت في فرض توزير الراسبين وتسمية وزرائها بنفسها، مستقوية بخمسة امور اساسية:
اولا: السلاح الغادر، الذي تجلّت قدرته الترهيبية مجددا مع تلك الجهود والرسائل الـ14الاجرامية والارهابية المضنية، التي لم تر المعارضة حاجة للاسترسال فيها وتطويرها نظرا لرسوخ وانطباع تجربة 7 ايار والحوادث التي رافقت تشكيل "حكومة الدوحة الاولى" برئاسة فؤاد السنيورة في ذاكرة الاكثرية وجمهور اللبنانيين.
فالمعارضة تمتلك ثلاثة أسلحة استراتيجية فتّاكة، تستقوي بها على الدولة اللبنانية بدستورها ونظامها وجيشها، وإرادة أكثرية شعبها التي أظهرتها نتائج الإنتخابات:
السلاح الأول: هو الترسانة العسكرية التي يكدّسها "حزب ولاية الفقيه" على مرأى ومسمع من العدو الإسرائيلي، الذي لا تخفى على أقماره الصناعية وطائراته التجسسية أماكن تخزينها ومواقع انتشارها، وذلك بحجة ما يسمى بـ"المقاومة"، تلك الحجة التي سقطت بالضربة القاضية مع حوادث السابع من أيار الدموية، التي أكدّت للبنانيين أن ذلك السلاح الذي يريدون تشريعه بذريعة الخطر الإسرائيلي معد للإستعمال في الداخل، في العمق اللبناني، في العاصمة والجبل، عبر توجيه رصاصاته وقذائفه الصاروخية نحو صدور اللبنانيين، بغرض انتزاع كل ما يعجزون عن تحقيقه في السياسة بالقوة والقهر.
فمنذ ذلك الحين، لم يتوقف الحزب عن التذكير بـ7أيار (الذي اعلنه حسن نصرالله في 15/5/2009 "يوما مجيدا من ايام المقاومة في لبنان")، مُشعِراً مختلف الطوائف والقوى السياسية المعارِضة لمشروعه أن عليها أن تختار بين أمانها بالإستسلام لما يريد، وبين عدم استقرارها إن لم تقدّم له واجب الطاعة. ولعل قول أمينه العام في 17/7/2009: "نحن لا نريد من الحكومة ولا من غير الحكومة ولا من احد في هذه الدنيا ضمانات تتصل بسلاح المقاومة"، آخر فصول التذكير بتجربة 7أيار 2008، عندما طرح معادلة "السلاح يحمي السلاح"!
أما قوله في ما يختص بالمحكمة الدولية التي تتحضر لإعلان قرارها الإتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي على ما يبدو لن يكون بعيداً عن أجواء تقرير "دير شبيغل" الذي دل على تورّط الحزب الايراني في العملية: "نحن لا نريد ضمانات في موضوع المحكمة الدولية..."، فهو تصريح يصب في خانة التذكير نفسها، سيّما وأن الحزب استبق نتيجة التحقيق في أيار الماضي، ونعى المحكمة معلناً أن أي قرار اتهامي يوجّه إليه يُعتبر قراراً اسرائيلياً، وسيتعامل مع من يتبناه على أنه اسرائيلي.
أما السلاح الثاني الذي يستقوي به الحزب على الدولة: فهو سلاح التكليف الشرعي؛ فالتكليف الشرعي -على ما هو معلوم- يكون من الله وفق ما أنزله في كتبه السماوية، إلا أن القائمين على ذلك الحزب يعتبرون أن التكليف الصادر عنهم لا تجوز مناقشته، لأنه بمثابة أوامر الله والمعترض عليه كالمعترض على الله، وهذا تزوير لقناعات الناس باسم الله تعالى.
فالتكليف الشرعي يربطه "حزب ولاية الفقيه" بالولي الفقيه في إيران، أي المرشد علي خامنئي صاحب الولاية المطلقة على الشيعة في شتى أنحاء العالم؛ فإذا قال للناس تصرفوا هكذا فعلى الناس أن تنفّذ من دون أن تناقش، وكذلك الحال مع وكيله الشرعي في لبنان حسن نصر الله.
والتكليف الشرعي بهذا المفهوم المطلق، يعني تعطيل العقول واحتكار الأفكار، وتجيير النفوس عبر جعلها مسيّرة بعدما خلقت مخيّرة، وبذلك يضمن الحزب سيطرته وتحكّمه بجمهوره بقبضة من حديد؛ فإما الطاعة العمياء دون نقاش أو تفكير، وإما جهنم وبئس المصير.
فبهذا التكليف تتم تربية الناس على معاداة الدولة وكسر هيبة مؤسساتها، ومنه تستمد الهيمنة على الطائفة الشيعية، ومن خلاله يُعمل على سلخها عن النسيج الإجتماعي اللبناني، وعبره يُعبث بالسلم الأهلي والعيش المشترك، وبواسطته تُنظّم التحركات "العفوية"، وكذلك التظاهرات والإعتصمات والمحاولات الإنقلابية السلمية والدموية، وتحت سلطته تصادر إرادة الناخب في الإنتخابات النيابية.
ويبقى السلاح الثالث المتمثل بالمال "الطاهر"، ذلك المال الذي يتغذى على تقصير الدولة في بعض المناطق ذات الكثافة الشيعية، وهو تقصير مدعوم ومبارك من قبل "حزب ولاية الفقيه"، الذي يهمّه أن تكون الدولة غائبة عن المناطق الشيعية وأن يبقى الحرمان والإهمال قائمَين في مناطقه، ليبقى الملجأ للمواطن الشيعي، مستغلاً ذلك الإهمال في تقديم الخدمات ليجعل الناس ملحقين به وبمؤسساته الشاملة لجميع نواحي الحياة، ما يسهّل عليه عملية الإنقضاض على الكيان والنظام اللبناني وبناء دويلته، التزاماً منه بفتوى الخميني عندما اعتبر أن "النظام اللبناني فاسد ومجرم ولا يجوز التعامل معه".
ثانيا: وقوف الخارج وتحديدا الولايات المتحدة، موقف المستسلم مجددا امام الازمة الحكومية، وكأنها لا قدرة لها على المساعدة في تقديم الحلول لاخراج لبنان من ازمته، داعمة بموقفها هذا المعارضة ومسلّمة لبنان لتدخلات المحور السوري-الايراني، ما جعل كالعادة قوى 14 آذار تواجه بمفردها القوى الخارجية المتدخلة في لبنان بمحورَيها الاميركي-الاسرائيلي والسوري-الايراني المتصارعَين في الصورة والمتحدَين في الحقيقة؛ فقد تخلّت الولايات المتحدة عن دعمها قوى الاكثرية في لبنان بعد نيلها مبتغاها في اندحار الجيش السوري من لبنان واقرارالمحكمة الدولية لمحاسبة المتورّطين بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مفسحة المجال امام المحور السوري-الايراني ليبسط سلطته على السياسة اللبنانية لكن بدون احتلال عسكري نظامي مباشر هذه المرة، بل بالوكالة من خلال حلفائه.
وهنا، تجدر الاشارة الى ان الولايات المتحدة لم تقدّم الكثير لحماية لبنان من الاغتيالات التي طالت شخصيات من قوى 14 آذار، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وحتى عام 2008، او لحماية لبنان ومساعدته في ظروف اخرى لم تكن اقل حدّة، كحرب "نهر البارد" ربيع وصيف عام 2007، حين لم تساعد الجيش الا ببضعة ذخائر بعد تدفيعه ثمنها، وصولا الى صمتها المريب اثناء حوادث ايار الارهابية عام 2008، حين غزت ميليشيات المعارضة وعصاباتها المسلحة بيروت والجبل، ذلك الهجوم الهمجي الذي "ما كان ليتم من دون غطاء اسرائيلي" على حد قول زعيم الاكثرية سعد الحريري في 13/5/2008. ولعل خير معبّر عن التخلي الاميركي عن قوى الاكثرية، تصريح النائب وليد جنبلاط لصحيفة الديار في 28/8/2008: "الاميركيون خدعونا وتركونا والآن يفاوضون الايرانيين...". علما ان الخارج وفي مقدمته اميركا، لا يقوم بأي شيء ليدعم صد مثل هذه المحاولات الانقلابية والاجرامية، اذا ما جرت محاولة تكرارها في المستقبل.
ثالثا: التدخلات الدولية والاسرائيلية التي صبّت في مصلحة المعارضة، والتي عبّر عنها النائب عقاب صقر في حديث إلى وكالة أنباء "فرانس برس" بتاريخ 7/11/2009، بقوله: ان "سبب تسريع المفاوضات والقيام بهذه التنازلات يعود إلى وجود أخطار كبيرة تحدق بلبنان تحدّث عنها الموفدون الدوليون". ولفت صقر إلى الخطر الإسرائيلي، فتابع قائلا: ان "إسرائيل قد تتذرّع بالفراغ الحكومي للقول أن لا حكومة في لبنان بل هناك "حزب الله" فقط، وبالتالي تخطط لعمل ما ضد لبنان، فضلاً عن خطر الإرهاب الداخلي خصوصاً أن مجموعات فلسطينية في المخيمات بدأت تتحرك، في الوقت الذي عزّز مناخ اللادولة حصول أحداث أمنية متفرقة هنا وهناك"....
رابعا: التطور الدراماتيكي في مواقف رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط، الذي عمد الى ادخال تعديلات على خطابه السياسي شكّلت صدمة في الوسط الاستقلالي وفي الوسط الدرزي في الجبل، مبتعدا عن حلفائه الاستقلاليين بخطابه وتلميحاته ثم بخطوات صريحة متسارعة انتقد فيها شعارات 14 آذار!
فقد اعلن جنبلاط صباح الاحد 2 آب 2009، ومن فندق "البوريفاج" تحديداً، بما للمكان من دلالات معبرة، أن تحالفه مع قوى "14 آذار" كان بحكم الضرورة ويجب ألا يستمر، مشددا على وجوب "إعادة التفكير بتشكيلة جديدة من أجل الخروج من الانحياز وعدم الانجرار إلى اليمين"!! هذا، واعتبر جنبلاط أن فريق "14 آذار" لم يخض معركة ذات مضمون سياسي، مشيرا الى أن "كل معركتنا كانت قائمة على رفض الآخر من موقع مذهبي وقبلي وسياسي". وشدّد على "وجوب الخروج من هذا الانجرار لليمين والعودة إلى أصولنا وثوابتنا وإلى اليسار"!
ولم يقف جنبلاط2009 عند هذا الحد، بل سلك خط الزحف نحو الشام والقبول بالسلاح غير الشرعي، فوصل به الامر بعد اجتماعين مطوّلين مع حسن نصر الله الى حد استجداء زيارة لسوريا من على منبر تلفزيون "المنار" في 13/11/2009، حيث اعلن ان "المصالحة مع سوريا قد حصلت مع عودتنا الى الثوابت"، مشيراً الى ان "مصلحة لبنان وعروبة الدروز تحكم العلاقة مع سوريا ومحكومون بالتواصل والتفاعل معها". واضاف جنبلاط مبرِّرا انقلابه "انه لا يمكن اعتماد العلاقة الشخصية في السياسة". واكّد أنه "من اجل عروبة لبنان تجاوز ويتجاوز كل شيء، لأن الجغرافيا السياسية والتاريخ لا يمكن تجاهلهما"، مشيرا الى انه "عندما شنّ حملة على سوريا كان الموضوع شخصي من اجل رفيق الحريري وغير الحريري"، زاعما أن "العاطفة والحماس غلبته، وانه كان قاسيا جدا على الصعيد الشخصي ضد النظام السوري ". وعن موعد زيارته سوريا، اوضح أنه "عندما تكون هناك اشارات، وبعد زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لدمشق، ويكون هناك استعداد في دمشق لاستقبالي، سأعلن عن زيارتي"!! ثم لفت الى أنه في اللقاء الثاني مع نصرالله، شعر ان "العلاقة الشخصية معه عادت كما كانت قبل ان ندخل في عين العاصفة، من الود والصراحة والنظرة القومية"!!! وعن علاقته بـ "14 اذار"، اعتبر جنبلاط "ان الوظيفة السياسية لقوى 14 آذار قد انتهت"!! واضاف: "عنوان 14 آذار أنتج، ولكن لا نستطيع أن نبقى أسرى عناوين أنتجت"!!!
ولعل جذور تلك الانعطافة الجنبلاطية الجديدة، تعود الى تشرين الثاني من العام 2006، حين قال إثر عودته من زيارة إلى واشنطن امام زملائه على طاولة الحوار: "إن المحور الأميركي يتراجع في المنطقة لصالح المحور الإيراني – السوري". فلربما شعر جنبلاط في مكان ما، أن دعم أميركا لقوى 14 آذار لا يعدو عن كونه كلاماً مجرَّداً عن أي تطبيق عملي، لأنه فهم من الاميركيين انهم لايرغبون بالاطاحة بالنظام السوري، بل يريدون تغيير سلوكه فقط، وصولا الى تيقُّن الزعيم الدرزي اخيرا من ان المحور السوري-الايراني والاميركيين يتمركزون في خندق واحد، وذلك مع اجتياح بيروت ومحاولة غزو الجبل عام 2008، وعندها قرّر الاستسلام والتضحية بالنضال السيادي الاستقلالي الذي خاضه مع رفاقه في 14 آذار، مفضِّلا ان يكون "مع الواقف".
وقد ترك هذا الخضوع من احد كبار قادة الحركة الاستقلالية لارهاب وسلاح 7و11ايار2008، أطراف 14 آذار في حالة ارباك شديد جرّاء مواقف جنبلاط الذي بلغ مكانا غير مسبوق في الانقلاب على أعوام النضال القاسية... فذلك التحرّك وان كان (كما يحاول البعض تبريره) بسبب خوفه أو تخوّفه أو قراءاته الشخصية للمرحلة الاقليمية والدولية المقبلة، التي اظهرت له أحداثا قادمة سواء على المستوى الداخلي (قرار المحكمة الدولية) أو الاقليمي (الوئام الاميركي-السوري)، تفرض عليه أن يقوم بتموضع يظن أنه بموجبه يحمي نفسه وبيئته المحاطة من جميع الجهات بالحزب الايراني المسلّح، الا اننا لو سلّمنا بذلك، فإذا كان ثمة استشراف للمرحلة الاقليمية المقبلة فكان يتوجّب عليه أن يفعل ذلك داخل 14 آذار وليس خارجها، لأن إقدام أي فريق على التفرّد وإعطاء الدروس لشركائه لا يفيد منطق الشراكة، ولا المسيرة الاستقلالية لثورة الارز التي اعتبر جنبلاط نفسه في خطاب له في 10/12/ 2007 ان: "أي صفقة تضرب المرتكزات الوطنية التي تحققت بفعل نضال قوى 14 آذار ووحدتها هي خيانة، واي استسلام هو خيانة. فقوى 14 آذار حققت حماية منجزاتها لاسيما عند المنعطفات الكبرى، لكنها لم ولن تتخلى عن ثوابتها. فنضالها معمّد بالدم، وهذا النضال ادى الى انشاء المحكمة الدولية التي ستأتي بالحقيقة والعدالة لكل شهداء "ثورة الأرز"".
ومهما يكن من امر، فقد احرج انقلاب وليد جنبلاط فريق 14آذار والاكثرية، لاسيما انه جاء في ذروة معركة تشكيل الحكومة، ما اربك الاستقلاليين واضعف جبهة الممانعة لديهم تجاه املاءات الاقلية المسلّحة. وهذه حقيقة لايمكن انكارها، وان عاد الزعيم الدرزي ليؤكّد تأييده حكومة "الوفاق" مع القول إن وزراءه باقون ضمن الاكثرية، مع ابدائه الحرص تكرارا على التعاون مع الحريري، الا ان كل هذا لا يزيل آثار القصف الذي كان قد أصاب بعض الحلفاء والمواقع في 14 آذار، سواء بالغمز او بتوجيه الانتقاد المباشر الذي وصل الى درجة مطالبته 14 آذار بأن "تتحدث بالعربية"! وهو أمر يقوم على المبالغة وحتى على التجنّي والافتئات على تلك القوى السيادية التحرُّرية، التي حظي جنبلاط نفسه في 14 شباط 2005 بشرف قيادتها.
خامسا: إحجام رئيس الجمهورية ميشال سليمان عن استعمال قلمه في التوقيع على مرسوم حكومة تشكلها الاكثرية بالتعاون معه، وموقفه المفاجئ في 27/9/2009 الذي برّأ فيه سوريا وايران من محاولات عرقلة تأليف الحكومة، وعاد فيه عن رأيه في موضوع ممانعته توزير الراسبين، فقد عاد ليعلن قبوله به بحجة انه "ليس دستورا، واذا كان عرفا فقد خرق مرات عدة، والمصلحة الوطنية هي الاجدر بالالتزام بها"... وقد لاحظت مصادر مطلعة عبر صحيفة "اللواء" في29/9/2009، "أن الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية من موضوع توزير الراسبين في الانتخابات، أدى الى حالة إرباك على صعيد استشارات الرئيس المكلف الذي فوجئ بهذا الموقف الذي أُعلِن من دون تنسيق مسبق، لكن الرئيس الحريري آثر عدم الرد عليه حرصاً على مسيرة التعاون مع رئيس الجمهورية".
ويضاف الى ما تقدّم، اعلان الرئيس سليمان في 27/10/2009 انه "لن يوقع الا على حكومة وحدة وطنية"! الامر الذي شد من عصب الاقلية التي استثمرت مواقف سليمان لدفع قوى الاكثرية الى تقديم المزيد من التنازلات، لينتهي الامر بتشكيل حكومة فرضت المعارضة صيغتها واسماء وزرائها وبعض وزاراتها، واخطر بنود بيانها الوزاري!!
وبذلك تكون رئاسة الجمهورية والرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة قد حُوِّلا إلى مجرّد صندوقة بريد يتسلّمان من خلالها مراسيم تسمية الوزراء الآتية من الأندية والأروقة السياسية فضلا عن الصيغة الحكومية، رغم ممانعة الرئيس المكلف تلك الطريقة في التعامل معه التي عبّر عنها في العاشر من ايلول 2009، كما تكون السماء قد صُبِغت كلّها بالأصفر والبرتقالي، رغم تصريح منسّق الامانة العامة لقوى14 آذار الدكتور فارس سعيد في 10/9/2009، حين ارادها كلها زرقاء.

                                                                      


                                               الفصل الثالث
                     
اسباب تسهيل الاقلية عملية ولادة الحكومة

في التاسع من تشرين الثاني 2009، ولدت "حكومة الدوحة الثانية"، بعدما سهّلت المعارضة اخيرا عملية ولادتها للاسباب التالية:
1- حصلت الاقلية على مبتغاها، بعدما وصلها العرض المناسب الذي فرضته، فرغم حصولها على حصة دسمة من الحقائب الوزارية في التشكيلة الاولى التي طرحها الرئيس المكلف قبيل اعتذاره عن التكليف الاول، قابلتها بالرفض لسببين:
الاول: انها كانت مجرّدة من وزارة الاتصالات الاستراتيجية ومن توزير الصهر"المعجزة" جبران باسيل الراسب في الامتحان الانتخابي، فضلا عن ان تسمية وزرائها وتحديد حقائبهم الوزارية تمّت من قِبَل الرئيس المكلف.
الثاني: انها لم تكن قد استغرقت مدّة زمنية كافية لانهاك الدستور بما فيه الكفاية، واثبات عجز الطائف عن ادارة شؤون البلاد بعد تعاظم حجم الطائفة الشيعية المحتكَر قرارها من "حزب ولاية الفقيه"، الذي وجد وجنّد جنرال الرابية (المهووس بالوصول الى رأس السلطة) ليؤمِّن له غطاء مسيحيا (وان اصبح شفافا ومهلهلا بعد الانتخابات الاخيرة)، وواجهة سياسية مسيحية لمشروع توسُّعي فارسي ومذهبي حاقد.
2- وصول كلمة السر وامر العمليات من دمشق وطهران، مع اجتماع ممثلي الثنائي الشيعي بالقيادة السورية، وزيارة الصّهر جبران باسيل بمعيَّة والوزير السّابق ميشال سماحة الى دمشق في 5/11/2009، تحت عنوان تعزية المستشارة الرئاسيّة بثينة شعبان في ذكرى مرور أسبوع على وفاة والدتها... حيث اجتمعا الى الرائد علي مملوك المسؤول عن الملف اللبناني بحضور النائب السابق ايلي الفرزلي، وحملا منه أمر العمليّات الى عون...
فقد كشف أحد ابرز سفراء سوريا من حَمَلَة الجنسية اللبنانية، رئيس "تيار التوحيد" وئام وهاب، في حديث الى محطة "OTV" في 12/11/2009، أنه "جرى تدخل سوري في تقريب وجهات النظر بين الأفرقاء، وبالتحديد في مسألة وزارة الإتصالات والأستاذ جبران باسيل"، مؤكدًا أن "سوريا تدخلت لتليين مواقف رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون، ولتوزير باسيل في الطاقة بدلاً من الاتصالات، ولجهة قبول الجنرال عون بحقائب التكتل الأخرى"...
حينها فقط حُلَّت العقدة، بعد البلبلة التي طبعت الايام الاخيرة حول مصير الاستحقاق الحكومي، ، فأسقط المعرقلون اعتراضاتهم فجأة لمجرّد توجّه نقله احدهم عن الرئيس السوري الذي يستعد لزيارة فرنسا في 13/11/2009، ويرغب بعرض الحكومة اللبنانية على مزاد القيادة الفرنسية لقبض ثمنها، بعد ان حصّل جزءا منه سلفا مع زيارة العاهل السعودي سوريا في 7/10/2009، كما ساهم في اشعال الضوء الاخضر لتسهيل التأليف، اللقاء الذي عقده أمير قطر مع القيادة الايرانية في طهران، في 5/11/2009.
وبناء على المعطيات السابقة، اجتمت شخصيات المعارضة بقيادة حسن نصر الله في السادس من تشرين الثاني مساء، واتخذت قرارا بـ "السير في تشكيل الحكومة" التي وصفتها -تزويرا للواقع- بحكومة "الوحدة الوطنية"، وفقاً للقواعد المخالفة للدستور والمطيحة بنتائج الانتخابات، التي "اتُفِق" عليها في حصيلة المفاوضات التي جرت في الاشهر والايام السابقة.
اما العماد عون الذي كان ينتقد في منفاه الباريسي من يزور سوريا من دون صفة رسمية، فقد كان على موعد في 9/12/2009 مع الرئيس السوري بشار الاسد، في زيارة مفاجئة اوحى توقيتها وحفاوتها بأنها قد تكون زيارة شكر متبادل، شكر سوري لعون على التزامه بالتعليمات وعرقلته بعناده ومطالبه التعجيزية مسيرة تأليف الحكومة، وشكر عوني لسوريا على فرض توزير جبران باسيل ومنح الجنرال حصة وزارية لا يستحقها...
وكان بارزا، طابع الحفاوة الاستثنائية التي أضْفَتْها دمشق تكراراً على استقبال عون، إذ حرص الرئيس السوري بشار الأسد على تخصيص طائرة لنقله من مطار بيروت الدولي يرافقه وفد من "التيار الوطني الحر" والوزير السابق ميشال سماحة، اضف ان الاسد استقبله عند مدخل القصر الرئاسي في دمشق.
ونقلت الوكالة العربية السورية للأنباء "سانا" الرسمية عن الأسد "تثمينه للدور الوطني الذي لعبه عون على الساحة اللبنانية، والذي وضع خلاله مصلحة لبنان[اي سوريا] فوق كل اعتبار، وسعيه الدؤوب الى تمتين الوحدة الوطنية، ودعمه المستمر لإقامة علاقات طيبة ووثيقة بين البلدين الشقيقين".
وقد اتت هذه الزيارة، بعد سنة تماماً من زيارة عون الأولى لسوريا في 3 كانون الأول 2008، يوم تنكّر عون لموضوع المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، وطلب من الاستقلاليين اللبنانيين تقديم الاعتذار لسوريا على اساءاتهم اليها بعد خروجها من لبنان، وذلك في زيارة استمرّت لعدّة ايام طوّبه الاسد خلالها بطريركا سياسيا لميسحيي المشرق.
                                                                      

                                         الفصل الرابع
                
بقاء القديم على قدمه كرّس اتفاق الدوحة

جاءت التشكيلة الحكومية نسخة منقحة عن "حكومة الدوحة الاولى"، اذا ما اخذنا في عين الاعتبار بعض التعديلات الطفيفة التي لا تمس الجوهر. وما دام البيان الوزاري جاء نسخة طبق الاصل عن البيان السابق فيما يتعلق ببند السلاح، فهذا يعني اننا امام "حكومة الدوحة الثانية".
ثم ان ميزان الارباح والخسائر في الحكومة الجديدة مرتبط بحال المولود الجديد، الذي يمكن تشخيص وضعه على النحو التالي:
اولا: المولود الجديد بين الحياة والموت، فقد ولد مصابا بفيروس قاتل شديد الخطورة (اخطر من انفلونزا الخنازير التي تجتاح العالم اليوم)، نظرا لاستتاره وتخفّيه مع امكان فتكه بالجسم الحكومي في اي وقت وتفجيره من الداخل، ويحمل هذا الفيروس اسم "الثلث المعطل".
فقد جرى اعتماد صيغة 15ـ 10ـ 5، التي يحصل فيها رئيس الجمهورية على حصة وازنة في الحكومة من خمسة وزراء من طوائف متعددة، يأتي من ضمنهم وزير سنّي يحظى بموافقة الأكثرية بحيث يؤمّن لها الأكثرية المطلقة (النصف +1) اذا ما خرج عن إرادة رئيس الجمهورية في موضوع تعذّر التوافق عليه بين الطرفين، (مع التنبيه الى وجود 3وزراء ضمن حصة الاكثرية غير مضمونة اصواتهم، لكونهم من حصة النائب وليد جنبلاط صاحب الانقلاب الشهير في 2آب2009). هذا، في حين تحصل الأقلية على حصة تحتوي على ثلث معطل مضمر أومستتر، بعدما وافقت وساهمت في اختيار "الوزير الوديعة" في حصة رئيس الجمهورية الذي يؤمّن لها هذا الثلث، ونعني بذلك الوزير الدكتور عدنان السيد حسين، المدعوم من الثنائي الشيعي، والذي يصنف في خانة النخبوية الشيعية المتعاطفة مع خط ما يسمى بـ"المقاومة" وجسمها السياسي؛ وهو من أطلقت عليه بعض أوساط المعارضة تسمية "الوزير الضامن".
وبذلك تكون المعارضة قد نجحت في اعادة إنتاج اتفاق الدوحة معدلاً، والتمديد لمفاعيله، بعد وضع مسحة من "الماكياج" التمويهي عليه لتكييفه بالحد الأدنى مع نتائج الانتخابات النيابية لكن صورياً، أي شكلاً لا مضموناً.
وهذا يعني أن فريق 8آذار قد حقق انجازاً تاريخياً بفرض عرف "فيتو" التعطيل مداورة في الحكومة العتيدة، حيث بات لكل من فريقي الأكثرية والمعارضة نسبة الثلث المعطل داخل الحكومة، ما يشكّل مقدمة لتعديل اتفاق الطائف بما ينسجم مع الحجم الجديد المتعاظم للحزب المسلح الذي يحتكر طائفته، ويسعى جدياً نحو المثالثة وصولا الى فدْرالية طوائف بقيادة الغالب(العراق نموذجا)، مهما حاول التنكّر تقيّة لذلك.
ثانيا: لاتناسق ولا انسجام بين اعضاء المولود الجديد، فقد ضمّت الحكومة بتركيبة واحدة الاضداد والتناقضات، وجمعت بين اصحاب مشروع الدولة وانصار مشروع اخضاع الدولة للدويلة، بين ثقافة الحياة وثقافة الموت، بين السياديين واذناب التبعية والارتهان للخارج...
وهذا التشوّه ينبئ بالمستقبل المظلم الذي ينتظر الحكومة، ففي اي لحظة تخرج فيها الاكثرية عن طواعية الاقلية (وهو ما بات يعبّر عنه بـ"التوافق" من باب قلب الحقائق وتزوير الواقع)، تدب المشاكسات والمشاحنات والتعطيل داخل الحكومة، كنتيجة حتمية لتَمدّد الأزمة السياسية الى الهيكل الحكومي الجديد، وانعكاسها على عمل مجلس الوزراء وما يترتب عليه من مواجهة لمجموعة تحديات واستحقاقات داخلية وخارجية، وحينئذ تظهر حقيقة اجواء التفاؤل المضخمة والمزيّفة، وما وصف بـ"النيات الحسنة"، التي طغت على الخطاب السياسي عقب الاعلان عن ولادة الحكومة لدى جميع الاطراف وخصوصا طرف المعارضة، لنعود الى الصراع الذي شهدته البلاد عقب تقديم وزراء الثنائي الشيعي والوزير يعقوب الصراف استقالتهم من حكومة السنيورة الاولى، بل قد يزداد الوضع تأزّما اذا ما قدّم الثلث المعطل استقالته الجماعية من الحكومة، لأنها ستصبح مستقيلة دستوريا... علما ان مجرّد التهديد بهذه الاستقالة الجماعية كفيل بإخضاع الاكثرية لشروط الاقلية، لانها تدرك جيدا ان ضغط السلاح الذي تبرّر به تخاذلها المستمر عن تلبية طموحات جمهورها، سيجعلها تقبل من جديد بحكومة ملغومة بالثلث القاتل، وعلى نحو اسوأ بكثير من تركيبة الحكومة الحالية!!
هذا، وقد اتت بشائر التهديد بانفراط عقد الحكومة وتفجيرها من الداخل، بعد ايام قليلة على تشكيلها مع قول حسن نصر الله في 11/11/2009: " لا نريدها حكومة متاريس والغام وتسجيل نقاط، ومن أهم أسباب التأخير في تشكيل الحكومة المزايدات، وفي كل الأحوال يجب أن تكون الحكومة متماسكة ومتعاونة ومنسجمة،(...) وأنا أدعو إلى التريّث في طرح الملفات الكبرى، لنهدأ ونتريّث كي لا ننتقل من ازمة إلى أزمة، فهناك طاولة الحوار ونستطيع أن نتحدث حولها بما نريد، ولو أن الاستراتيجية الدفاعية هي الموضوع المطروح ولكن نستطيع أن نطرح ما نشاء، لأننا لا نريد أن نثقل هذه الحكومة بالملفات الكبرى، بل لنضع لها اهدافاً واقعية بحيث تتمكن من انجازها، حتى لا يكون هناك فشل ونرمي مسؤوليته على بعضنا البعض...". ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا الكلام من تهديد مبطّن بالدعوة الصريحة الى عدم طرق موضوع السلاح وسواه من المواضيع الحساسة، تحت طائلة الخلاف والصدام؛ فضلا عن تكريس دور طاولة الحوار العقيم، تلك البدعة غير الدستورية التي فرضت نفسها كـ"مؤسسة" منافسة ومتقدّمة على مجلسي النواب والوزراء، تسرق القرار منهما!
ثالثا: بالنسبة لتوزيع الحصص الوزارية، رغم التغييرات التي حصلت في تبادل الحقائب بين الفريقين، لم يتبدل ميزان الحصص كثيرا في التركيبة الجديدة عما كان عليه في حكومة تصريف الاعمال، اي "حكومة الدوحة الاولى"؛ فالعماد عون استعاد اربع حقائب بينها الاتصالات والطاقة (حقيبتين اساسيتين)، والسياحة والصناعة (حقيبتين عاديتين)، اضافة الى وزارة دولة، في مقابل حقائب الاتصالات والطاقة والشؤون الاجتماعية والزراعة ونيابة رئاسة الوزراء في "حكومة الدوحة الاولى". واستتبع هذا التعديل تعديلات مقابلة في حصة مسيحيي الغالبية، الذين ذهبت اليهم حقائب الثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية، بالاضافة الى العدل كحقائب اساسية وازنة نوعا ما.
وبذلك يكون مسيحيو 14 آذار قد تمكنوا من زيادة حصتهم من 3 حقائب الى 4 حقائب، إضافة الى أنهم حصلوا على نوعية حقائب ممتازة أكثر، فحلّت الشؤون الاجتماعية مكان السياحة (تبادل الحقيبتين بين مسيحيي 14 آذار والعونيين لمصلحة قوى 14 آذار)، إضافة الى حصولهم على حقيبة العمل التي كانت أيضا من نصيب قوى 8 آذار.
وبهذا التوازن النوعي الى حد ما في توزيع الحقائب على الفريقين، يمكننا القول: ان المسيحيين الذين خاضوا الانتخابات كرأس حربة اساسية في 7 حزيران، حصدوا في الحكومة ثمار هذه المعركة. كما يمكن القول ان نتائج الانتخابات قد ترجمت في توزيع الحقائب بين مسيحيي الفريقين، حيث حصل مسيحيو الاكثرية على حصة ادسم وأوزن من حصة مسيحيي الاقلية، الا انه مع ذلك يبقى انعكاسا محدودا ومنقوصا، نظرا لانحصاره بنوعية حقائب كل من الطرفين لا بعدد الوزراء، في حين التوازن الحقيقي والكامل لاينعكس الا على صعيد صيغة الحكومة وحصة فريق الغالبية ككل، اي بتشكيل حكومة اكثرية، او على الاقل حكومة تشارك فيها المعارضة بعيدا عن الثلث المعطل.
ولا يغرنّ احدا حصولُ الاكثرية على النصف زائدا واحدا بشكل مستتر في الحكومة (الوزير عدنان القصار المحسوب ضمن حصة رئيس الجمهورية)، لان صوته غير مضمون من جهة اولى، ومن جهة ثانية فإن باستطاعة الثلث المعطل المموّه عدم ايصال الامور الخلافية العادية الى مرحلة التصويت، وذلك بامتناعه عن حضور الجلسة فلا تنعقد دستوريا، اوعبر تهديده بالاستقالة الجماعية، وبالتالي لا معنى للوزير الـ16 (القصار) مع وجود الوزير الـ11(عدنان السيد حسين) الذي يلغي مفاعيل النصف زائدا واحدا.
اما ما يشاع في بعض اوساط قوى 14 آذار، عن تقهقُر العونيين الذين بالكاد تمكنوا من الاحتفاظ بحقيبتين، في مقابل تراجع فاضح في نوعية الحقيبتين الأخريين، وخسارتهم لمنصب نيابة رئاسة مجلس الوزراء... فكلام فيه بعض المبالغة؛ ذلك اننا اذا استعرضنا سلوك الجنرال عون خلال أربعة أشهر وأكثر استغرقتها عملية الولادة، والذي بناه على العناد والسّباب والشتائم وقَوْلِ المحرّمات، فضلا الصّراخ، والتهجّمات والمفردات السّاقطة من القواميس، وكافة العبارات المُشينة والمُهينة والتي لا تخطر على بال أحد، مبتدئا معركته عبر المطالبة بستِّ حقائب وزاريّة في الحكومة العتيدة، على أن يكون من ضمنها واحدة سياديّة وأخرى خدماتيّة، وطبعًا من دون وزارة دولة... ثمَّ تنازله بعد مدة عن حقيبة واحدة فقط، وغمزه بعد ذلك من قناة رئيس الجمهوريّة حين أعلن بصراحة تامّة أنه يريد وزراة الداخليّة أو وزارة الدفاع، ومحاولته لاحقا حشر الرّئيس المكلّف بطلبه الحصول على وزارة المال مقابل كامل الوزارات الأخرى... خاض الجنرال البرتقالي هذه المعركة كلها وهو يعلم جيدا انه لن يحصل على كافة مطاليبه، لاسيما الداخلية والعدل والمال والدفاع منها ... بل اعتمد اسلوب المناورة والمبالغة في رفع سقف شروطه ليحصل على مطلب اساسي واستراتيجي، ليس له شخصيا بل لقائده وقائد المعارضة الفعلي "حزب ولاية الفقيه"، الا وهو وزارة الاتصالات، على ان يحصل الجنرال في المقابل على مكافأة من الحزب بتوزير صهره "المعجزة" وادخاله الجنّة الحكومية، بعد رسوبه المدوّي في الانتخابات وبفارق قياسي. وبالتالي نجحت خطة حلفاء سوريا وايران التي طبّقها الجنرال في تحقيق الهدف والمراد منها.
اما فيما يختص بفشل الجنرال البرتقالي في الحصول على نيابة رئاسة الحكومة، فليست بخسارة جدية له، كما انها ليست بمكسب حقيقي لفريق الاكثرية، ولا حتى للوزير الياس المر المحسوب على حصة رئيس الجمهورية والذي بقي وزير دفاع وأنيطت به نيابة رئاسة مجلس الوزراء وزارة الدفاع، ذلك ان نيابة رئاسة الحكومة تفيد "البرستيج" اكثر من اي شيء آخر. فهذا المنصب ليس مقررا في الدستور ولم يخصِّص له اي نظام برلماني صلاحيات تُذكر، كل ما في الامر انه يمارس عرفا نوعا من الصلاحيات لدى غياب رئيس مجلس الوزراء، ولا سيما في الظروف الاستثنائية التي تشمل حال اندلاع الحرب، او مرض الرئيس او عجزه، او الخطف او الاعتقال، او حالة الاكراه الواقع على شخصه وتهديده، وليس في حالة امتناعه عن حضور جلسات مجلس الوزراء، لان الامتناع موقف سياسي، بينما العجز هو استحالة مادية للحضور كالسفر والمرض.
ومع ذلك، ليس لنائب رئيس الحكومة حق تمثيل الحكومة ولا التكلم باسمها، ولا حق تقديم استقالتها او ادخال تعديلات عليها، او اتخاذ قرارات تخالف سياسة بيانها الوزاري.
يبقى موضوع التساؤل حول سبب رفض المعارضة التشكيلة الوزارية الاولى التي قدّمها الرئيس الحريري في مرحلة التكليف الاول، والتي حظيت فيها المعارضة بالوزارات الخدماتية الاساسية: كالاشغال والصحة والتربية، الى جانب وزارتي الخارجية والعمل، وتحديدا سبب رفض الجنرال يومها وزارتي التربية والأشغال في التشكيلة الأولى، ومن ثم القبول بوزارات أقل منها بكثير هي الكهرباء والاتصالات في التشكيلة النهائية... ولعل الجواب الوحيد المقنع هو: أن مدّعيي تمثيل المسيحيين لم يكونوا هم من رفض التشكيلة الأولى، ولا هم من قبل التشكيلة الأخيرة، على الرغم من كل استعراضاتهم الدونكيشوتية، لأنّه وللأسف (على حد تعبير الحكيم)، هناك من يرفض عنهم عندما تكون مصالحه غير مؤمّنة، ولو على حساب مصالحهم، وهناك من يقبل عنهم، عندما تتأمّن مصالحه، ونعني بذلك حصولهم على وزارة الاتصالات وتوزير باسيل، فضلا عن زيارة الملك عبدالله الى دمشق، والزيارة المرتقبة للاسد الى فرنسا، ما يؤكد ان قرار عون بالرفض أو القبول لم يكن مرتبطا بنوعية الحقائب ولا بالشعارات الكبرى الدعائية التي يطلقها، بل كان مرتبطا حصرا باللحظة الإقليمية، فحين جاءت كلمة السر عبر مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان الى الصهر العوني، قَبِل عون بما كان رفض أضعافه، واضطر الى التنازل عن تعهد شخصي وسياسي ومعنوي التزمه علنا، وهو أن يعيد باسيل الى رأس وزارة الاتصالات.
والخلاصة: اننا امام حكومة تحمل بذور الفشل منذ لحظة ولادتها، لجمعها بين اصحاب مشروعين متناقضين كليّا، حكومة نجحت المعارضة من خلالها في التمديد لاتفاق الدوحة اربعة اعوام جديدة، محيّدة دستور الطائف وناسفة ابسط مفاهيم النظام الديموقراطي، وذلك عبر ابقائها القديم على قدمه، سواء فيما يتعلق بإعادة فرض الثلث المعطل (وان بصيغة مموّهة)، او فيما خص احتفاظها بوزارة الاتصالات وتوزير الراسبين في الانتخابات.
ثم إن تنازلات الاكثرية أتت فوق اللزوم لتخدم الجنرال عون، الذي كان طمّاعاً واستغل الظرف السياسي، مستفيدا من سلاح "حزب ولاية الفقيه" الذي يعطي مطالب الجنرال ثقلاً ما كانت لتتمتع به لولا دعم الحزب وقوّته العسكرية، وبقوّة التبدلات في المواقع السياسية بعد الانتخابات، التي يقصد بها تبدّل موقع النائب وليد جنبلاط، ولو ان الاخير اكد استمراره من ضمن الاكثرية من حيث المبدأ.
وإن نيل عون 4 حقائب، هي: الاتصالات والطاقة والصناعة والسياحة، إضافة إلى وزارة دولة، على الرغم من تراجع شعبيته بنسبة 23%، لا يعكس نتائج الانتخابات، وان تبجَّح الجنرال أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة أنه زاد عدد كتلته النيابية السابقة من 21 الى27 نائبا، فالواقع أنه زاد العدد على حساب حلفائه في جزين وفي بعبدا، وبالصوت الشيعي والأرمني، وليس بقوّته الشعبية المسيحية، وهذا ما يجعل الحزب لا يثق إلا بسلاحه الخاص للحفاظ على موقعه السياسي، بعدما بات الغطاء المسيحي الذي يؤمّنه له عون مهلهلا وشفافا الى حد بعيد.
وبذلك تكون المعارضة قد اثبتت ان الحكومة لا تتألف بقوة الانتخابات النيابية التي افرزت اكثرية واقلية جديدتين، بل بقوّة التوازنات الواقعية على الارض، اي من خلال فرضها واقعا يقوم على اعتبار الانتخابات كأنها لم تكن، عبر فرضها نتاج مستنسَخ عن الحكومة السابقة التي نتجت عن اتفاق الدوحة، الذي نتج بدوره عن انقلاب ايار 2008، حين وجه "حزب ولاية الفقيه" سلاح الغدر(او ما يسميه هو بسلاح"المقاومة") إلى الداخل لفرض واقع سياسي جديد، بعد أن فشل في فرضه تحت ضغط التظاهرات والاعتصامات، وحتى من خلال الانتخابات التي كان متيقنا من تحقيق انتصار "الهي" جديد فيها.
اما الاكثرية، فلم تتصرّف كأكثرية اثناء عملية التشكيل، بل كفريق خرج مهزوما من الانتخابات، وهي وان كان لها نوع من الأرجحية في تشكيل الحكومة، الا انها تبقى ارجحية منقوصة وارجحية في الشكل لا في المضون؛ وكل ما يمكن تسجيله لها، هو انها أثبت مجددا انها الاحرص على الدستور وعلى المؤسسات ومصالح الناس، كما اكدت قوى 14 آذار ان انتماءها لبناني بامتياز. وفي المقابل، كشفت الفريق المسلّح أمام الرأي العام كمعطّل اساسي للدستور والمؤسسات، يقدّم المصالح الفئوية الضيقة على المصالح الوطنية، ويساهم بسلوكه في تعميق الحالة الطائفية والمذهبية، كما لديه مصلحة في تآكل هيبة الدولة وتوازن مؤسساتها وسلطتها على ارضها، لأنّ هذا يخدم مشروعه. ولم يعد خافياً ان هذا الفريق لا يملك قراره، بل ظهر للجميع من خلال انتقاله الفجائي من العرقلة الى التسهيل، ان ذلك القرار غير لبناني.
لكن، مع ذلك كله، رضخت الاكثرية وقوى 14 آذار الى معادلة واضحة فرضتها المعارضة عموماً و"حزب ولاية الفقيه" خصوصاً، مفادها: "إما الرجوع الى 6 حزيران، أي الى ما قبل الانتخابات النيابية ونتائجها ونعطيكم حكومة، وإما لا حكومة"، بمعنى انه في حال استمرار عناد الاكثرية واصرارها على الوفاء للجمهور السيادي بالمبادئ التي منحها ثقته على اساسها من خلال تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، فستعمل المعارضة على نقل البلاد من ازمة سياسية-حكومية الى أزمة حكم ونظام يُعرَض فيها الطائف على طاولة البحث.
                                                                    
 

                                                الفصل الخامس
 
سوريا تقبض الثمن وتعود وايران الى حكم لبنان من بابه العريض

حصلت سوريا على نقاط مهمّة لإنجاحها تشكيل الحكومة، منها زيارة الملك السعودي لدمشق في 7/10/2009، ثم دعوة ساركوزي الرئيس السوري بشار الاسد الى زيارة فرنسا في 13/11/2009، ونجحت في اظهار لبنان على انه عبارة عن طوائف وكانتونات، يحكم بارادة خارجية ، سورية تحديدا، او سعودية- سورية مشتركة.
يضاف الى ما تقدّم، ما تم تسريبه عن ضمان سعودي اعطي بزيارة للرئيس سعد الحريري لسوريا، كنوع من المصالحة بمعزل عن مسار المحكمة الدولية وعملها والقرار الظني.
كما ان ثمة ما لا يمكن تجاهله في الاخراج الشكلي وحتى الضمني للولادة الحكومية، وهو زيارة الوزير باسيل لسوريا في اليوم نفسه الذي جاء فيه "التبشير" بنهاية الازمة قبل ان يتبلّغ الحريري جواب المعارضة رسميا، وهذا للإيحاء والتأكيد لمن يهمّه الامر، ان التدخل السوري قد عاد من الباب العريض، وانه هو من يُسيِّر الحكم في لبنان الذي لا يزال قاصرا عن ادارة شؤونه بنفسه، وان لا استقلال حقيقيا لهذا البلد، خصوصا ان فريقي الغالبية والاقلية لم يتوصلا الى الحل الا برعاية نتائج القمة السورية-السعودية. هذا فضلا عن الايحاءات الاخرى، التي تُدرِج توقيت المخرج او تربطه بزيارة الرئيس السوري بشار الاسد لفرنسا، وحينها أزفت ساعة الحسم وقبضت سوريا "الثمن" المعنوي والمادي امام اللبنانيين والخارج.
وقد اعاد هذا المشهد الفرنسي-السوري وما يرتبط به من صفقات وقبض للاثمان، ما حدث عقب ابرام اتفاق الدوحة، حين كانت إسرائيل تعمل جاهدة لفك عزلة النظام السوري الدولية، التي فُرضت عليه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005؛ وقد تكلّلت هذه الجهود التي لاقتها سياسة بشار الأسد في التقرُّب من إسرائيل بالنجاح، لتفتح إسرائيل أبواب أميركا وأوربا أمام الرئيس السوري. وكانت أولى نتائج أو بشائر فك العزلة يومها، انفتاح فرنسا على سوريا، مع دعوة الرئيس ساركوزي بشار الأسد للمشاركة في مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط في 13/7/2008، وفي احتفالات ذكرى الثورة الفرنسية في 14/7/2008. وقد حثَّت فرنسا في تلك الزيارة النظام السوري على إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان على مستوى تبادل السفراء، وجعلت طلبها ذلك شرطاً مقابل عودة العلاقات الفرنسية كاملة وطبيعية مع سوريا، فنفّذ بشار العرض الفرنسي لاحقا، وحصد المزيد من الارباح اوروبيا واميركيا.
ويضاف الى جدول الارباح السورية، فضلا عن مكاسب سوريا في علاقاتها الاوروبية والاميركية والاسرائيلية خلال عامي 2008 و2009، أن معادلة "اتفاق الدوحة" الذي حصل في نهاية ايار 2008، استمرّت قائمة لجهة اخراج موضوع سلاح "حزب ولاية الفقيه" من دائرة الضغط السياسي الكبير، وتجديد المعادلة الحكومية القائمة على تمكين حلفاء كل من ايران وسوريا في لبنان من الاستحواذ على حق "الفيتو" في السلطة التنفيذية، رغم خسارتهم الانتخابات النيابية في حزيران 2009.
وفي النتيجة: تمكّن الحليفان السوري والايراني من الوقوف فوق ارض مريحة في لبنان على حساب الاستقلاليين والسياديين: فايران حققت مكسبا كبيرا في الساحة اللبنانية من خلال افتتاح زمن :الشيعية السياسية" رسميا مع اتفاق الدوحة الذي نتج عن احداث 7ايار، التي ثبّتت معادلة داخلية جديدة لحماية قلعق ايران على الساحل الشرقي للمتوسط، والمحافظة عليها بواسطة ذراعها "حزب ولاية الفقيه". اما النظام السوري فنجح باستخدامه ورقة وقف التدهور الامني تحديدا لعقد صفقة على مواضيع عدة مع السعودية (كتعيين سفير سعودي جديد بعد طول انقطاع)، وفتح مزيد من الابواب الاوروبية والدولية بعد طول معاناة من جراء الحصارين العربي والدولي بين 2005 و 2008.
اما كيف عادت سوريا وايران لتحكما لبنان؟ فبمجرّد حصول حلفائهما على الثلث المعطل داخل الحكومة، اصبح لسوريا وايران القدرة على التحكّم بأي قرار ان لم يكن مقبولاً منهما، وحتى التحكّم بنصاب جلسات مجلس الوزراء وبجداول اعمالها؛ فإذا تضمّن اي جدول مشروعاً او موضوعاً يرفض وزراء الثلث المعطل إدراجه فيه، فإنهم يستطيعون التهديد بالتغيّب عن الجلسة وتعطيل نصابها، كما ان في استطاعة هؤلاء الوزراء ان يمنعوا طرح اي مشروع او موضوع على التصويت وفقاً لاحكام الدستور اذا كانت نتائجه في غير مصلحتهم، وتحت طائلة التهديد بالانسحاب من الجلسة لتعطيل النصاب او لشل عمل مجلس الوزراء. وهذا ما حدث فعلا خلال جلسات مع حكومة الرئيس السنيورة، اي "حكومة الدوحة الاولى"، عندما طرح موضوع التعيينات في وظائف الفئة الاولى، وعندما جرى البحث في تعيين اعضاء المجلس الدستوري.
ثم ان حكومة ما يسمى "وحدة وطنية" من باب تزوير الواقع، عندما يكون فيها لحلفاء المحور السوري-الايراني في لبنان الثلث القاتل، يجعل من سوريا قادرة على اطالة عمر الحكومة او تقصيرها بحسب تقويمها لسلوكها وتصرّفاتها حيال المواضيع والمشاريع التي تهمّها، فإذا وقفت اكثرية الوزراء (وهذا على فرض تمكّن وزراء فريقي 14 آذار و الاكثرية من تأمين اكثرية نظرا لموقع وزراء جنبلاط الجديد وخصوصية وزراء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة)، اذا وقفت هذه الاكثرية مع مشروع او موضوع غير مقبول من سوريا، فباستطاعة الاخيرة ان تحرّك وزراء الثلث المعطل لإرباك اكثرية الوزراء، وذلك بسلوك اربعة سبل: السبيل الاول: معارضة ادراج اي مشروع على جدول اعمال مجلس الوزراء اذا لم يكن مقبولاً منها. السبيل الثاني: معارضة طرحه على التصويت في مجلس الوزراء اذا لم تتمكّن من منع ادراجه في الجدول، السبيل الثالث: الانسحاب من الحكومة كي تصبح غير شرعية وغير ميثاقية (بعد اعطائهم الفقرة (ياء) من مقدمة الدستور، التي تنفي الشرعية عن اي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، تفسيرا مذهبيا مغلوطا)، كما حصل عندما انسحب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة احتجاجاً على النظام الاساسي للمحكمة ذات الطابع الدولي...السبيل الرابع: وقد تهدّد سوريا عبر حلفائها بفرط عقد الحكومة عبر ابداء الوزير المعطل او "الضامن" استعداده لتقديم استقالته مع وزراء الاقلية، فتصبح الحكومة مستقيلة. والسبل الاربعة عينها تنسحب على ايران من باب اولى.
والجدير بالذكر، ان امام "حكومة الدوحة الثانية" مشاريع ومواضيع كثيرة مهمّة، وكل مشروع كاف اذا ما صار بتّه خلافاً لرأي وزراء الاقلية ان يفجّر الحكومة من الداخل، او يبقى المشروع مجمداً الى اجل غير مسمى، اي الى ان يصير "توافق" عليه... واذا ما صار -هروبا من اندلاع اي انفجار يودي بحياة الحكومة-، الى حصر المواضيع الاقتصادية والمعيشية كالماء والكهرباء بعمل الحكومة، وترك القرارات الاستراتيجية والمواضيع الشائكة والحساسة لتبحث خارج إطارها، فهذا يعني حقيقة: العودة بلبنان إلى زمن الوصاية السورية، اي العودة إلى المعادلة التي فرضها السوريون طيلة فترة الاحتلال والهيمنة السورية على لبنان، لكن هذة المرة عبر وصاية متجددة بالوكالة وبإدارة "حزب ولاية الفقيه" الايراني.
لذلك يمكن القول: إن سوريا وايران هما الرابحتان في مرحلة التكليف ثم في مرحلة التأليف، وقد يكون الثمن الذي قبضته سوريا تحديدا هو في العودة الى حكم لبنان من دمشق عبر حلفائها، اذ انها استطاعت ان تحول دون تشكيل حكومة من الاكثرية التي انبثقت من انتخابات 7 حزيران، كما حالت من قبل دون انتخاب رئيس للجمهورية منها، بل رئيس جمهورية اثبتت الايام انه اقرب الى 8 منه الى 14 آذار (نظرا للدور الذي لعبه اثناء عملية تأليف الحكومة والذي ساند قوى 8 آذار وشدّ من عصبها، مع التذكير ان فريق المعارضة كان اول من طرح ترشيحه لذلك المنصب)، وذلك بحيث تظل سوريا قادرة من خلال هذا الوضع اللاديموقراطي واللادستوري على التحكم بقرارات مجلس الوزراء وبمصير الحكومة
اللبنانية، بعدما وضعت سلاح "حزب ولاية الفقيه" في وجه الجميع، الى ان يعودوا اسوة بمن سبقوهم الى بيت الطاعة السوري، راغمين متذلّلين شاكرين ومعتذرين.
ومن هنا ندرك لماذا دمشق مستعجلة اليوم لاعادة العلاقات مع لبنان الى ما قبل عام 2005، عبر تحديد مواعيد لمسؤولين لبنانيين لزيارتها كزيارة العماد ميشال عون،والزيارة المرتقبة للنائب وليد جنبلاط بعد ان يتوسّط له "حزب ولاية الفقيه" لدى القيادة السورية كي تصبح طريق الشام امامه سالكة وآمنة. وقد وجد المهرولون والزاحفون الى سوريا ضالتهم بوفاة شقيق الرئيس السوري، فعادوا الى ممارسة هوايتهم ووظيفتهم تحت ستار "تقديم واجب التعزية". فقام رئيس مجلس النواب نبيه بري بزيارة "تعزية" في 13/12/2009 على رأس وفد كبير ضم نوابا ووزراء وقيادات من حركة "امل"، وجدّد الرئيس السوري امام بري في زيارة تلك ترحيبه بالزيارة المنتظرة لرئيس الحكومة سعد الحريري. كما قام الجنرال بزيارة تعزية مماثلة.
اما الرئيس سليمان، فقد زار دمشق قبل الجميع بشكل مفاجئ بعد يومين على اعلان تشكيل الحكومة اللبنانية، فضلا عن زيارة التعزية التي قام بها في 18/12/2009. واستغل سليمان زيارة التعزية لاطلاع بشار الاسد على نتائج الزيارة التي قام بها الى واشطن في 13/12/2009، حيث ركّز في جدول اعماله على ما يشبه اللغة او الخطاب اليومي لسلفه الرئيس اميل لحود طوال تسع سنين، اي "التوطين" وسلاح ما يسمى "المقاومة"، اللذين حمل لواءهما العماد عون كذلك بعد عودته من فرنسا. ولم يخرج سليمان عن السياق الذي فرضه عصر الوصاية في التعامل مع دمشق، فقد حرص على احاطة بشار الاسد بمضمون الزيارة واهدافها في اتصال هاتفي اجراه معه عشية مغادرته، وربما عبر قنوات اخرى غالباً ما يستخدمها. ومع انه لم يتأكد ما نقلته بعض اوساط المعارضة، من طلب الرئيس سليمان من الاميركيين طي صفحة القرار 1559 الذي لم ينفّذ بعد بكامله ويمثل ببنوده اساسيات اتفاق الطائف واستقلال لبنان...كان لافتا اعتبار مستشار رئيس الجمهورية ووزير الدولة ("الوزير الضامن" كما اطلقت عليه بعض اوساط المعارضة)عدنان السيد حسين في14/12/2009، ان القرار 1559 "اصبح من الماضي ونُفّذ بكامله"!! (مرددا خطاب سوريا وحليفها الحزب الايراني في لبنان)، ثم ما لبث ان ناقض نفسه، معتبراً ان "هذا القرار مفخخ في أصله بسبب التدخلات الخارجية، ولم يبق منه سوى النقطة المتعلقة بسلاح المقاومة الذي وضع في خانة سلاح الميليشيات وهو أمر خلافي على الساحة الوطنية وسيُترك لطاولة الحوار الوطني". وأكد الوزير "الضامن" (الناطق الرسمي باسم "حزب ولاية الفقيه" في الحكومة) أن "حزب الله يصنَّف في اطار المقاومة اللبنانية وليس كما يصنفه القرار الدولي، وهو أمر متفق عليه في البيانات الوزارية".
وان عودة زحمة السير على خط بيروت-دمشق باتجاه واحد كما في السابق، مع تعجّل بعض النواب والشخصيات السياسية زيارة دمشق متجاوزين الاصول الديبلوماسية عبر سفارتي البلدين، ليس بالتأكيد من اجل مفاتحتها في مسائل ترسيم الحدود ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات واحترام سيادة لبنان واستقلاله...بل من اجل مصالحهم الشخصية المقدّمة على مصلحة البلاد...كل ذلك يوحي بعودة عصر الاحتكام الى سوريا في الخلافات الداخلية، تماما كما كانت تَفصِل في الماضي في خلافات الرئيس رفيق الحريري والرئيس اميل لحود وسواهما من الشخصيات. وهي تسعى من خلال تلك الزيارات والاستدعاءات الرسمية وغير الرسمية، الى منع لبنان من ممارسة اي لعبة سياسية داخلية او خارجية مستقلة بمعزل عن دمشق او خارج إطارها، ما يعني اعادة لبنان الى ما قبل عام 2005 بكل المعايير.
ولعل زيارة العماد عون الثانية لدمشق، التي نصّبته مجددا زعيما اول للمسيحيين في وجه زعماء المسيحيين في 14 آذار...خير مؤشّر ودليل على عودة سوريا الى عادتها القديمة في اعتماد الازدواجية في سياستها تجاه لبنان، بحيث تكون مع الدولة ورئيسها وفي الوقت نفسه مع اصدقائها وحلفائها في لبنان، حتى لو كان بعضهم خصم الدولة، مطبقة بذلك سياسة اللعب على الحبال وعلى التناقضات في لبنان لتبقي اللعبة في يدها، ولتظل قادرة على ادارتها كيفما تشاء وبحسب الظروف والتطورات.


                                                                     
 

 

 

                                           الفصل السادس
                 
 البيان الوزاري.. السلاح يُشرّع السلاح

بعد مخاض استمر لعشر جلسات متتابعة، خرجت على اللبنانيين اللجنة الوزارية المولجة اليها مهمّة اعداد مسودة البيان الوزاري، لتعلن عن تحقيق "حزب ولاية الفقيه" إنتصاراً واضحاً وتشريعاً لدوره السياسي والعسكري في لبنان، من خلال بيان جاء في الشق الاساسي من بنده السادس المتعلّق بالسلاح، نسخة طبق الاصل عن البيان السابق لحكومة "الدوحة الاولى"، والذي كانت قيادات "14 آذار" قبلت به مرغمة (كما أعلنت يومها)، على أمل أن يقول الشعب اللبناني كلمته في الإنتخابات النيابيّة، وأن تحصل "14 آذار" على أكثريّة نيابيّة تساعدها على إقامة دولة ذات سيادة داخليّاً وخارجياً، تحترم نفسها وتحترم مواطنيها".
ففي 1/8/2008، وبعد 14 جلسة، وُلدت مسودة البيان الوزاري التي وافقت عليها الموالاة والمعارضة، ونجح الحزب فيها في نيل مراده وحذف عبارة "في كنف الدولة" من البند المتعلق بما يسمى"مقاومة"، وجاء البيان الوزاري مُرْضِياً للجميع لتضمُّنه عبارتين متناقضتين ظاهرياً، تمسَّك كل فريق بواحدة منهما معتبراً إياها انتصاراً له.
ففي حين اعتبرت قوى 14 آذار يومها أن هذا البيان يشكّل انتصاراً لفكرة الدولة، ومنطق الدولة، ومرجعية الدولة، مستندة إلى النص الآتي الوارد في البيان السابق: "تؤكّد الحكومة تمسّكها بمبدأ وحدة ومرجعية الدولة في كل القضايا المتعلقة بالسياسة العامة للبلاد، بما يضمن الحفاظ على لبنان، وصون سيادته الوطنية..."، تمسكت المعارضة ببند آخر اعتبرته منصفاً في حق "مقاومتها"، ويعطيها حرية وشرعية العمل دون رقابة الدولة ومرجعيتها، جاء فيه: "تؤكد الحكومة على حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا، وتلال كفرشوبا، والجزء اللبناني من قرية الغجر، والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء، والتمسك بحقه في مياهه، وذلك بكافة الوسائل المشروعة والمتاحة". وفيما شدَّدت قوى الأكثرية على أن بند "مرجعية الدولة..." يَحْكُم بند "حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته"، الذي يجب أن يُفهم على أساسه، غضّت المعارضة نظرها عن هذا الربط والتفسير، مُصِرَّة على فهمها وتفسيرها الخاص.
اما في عام 2009، فعلى الرغم من رفض اكثر من نصف اللبنانيين الصيغة القديمة التي وردت في البيان الوزاري لحكومة السنيورة الاخيرة(حكومة الدوحة الاولى)، والتي تُميّز "المقاومة" عن الشعب والدولة، جاعلة منها كيانا مستقلا عن مرجعية الدولة... اضيف تعديلان على الفقرة الخاصة بسلاح ما يسمى بالمقاومة، في الفقرة السادسة من الشق السياسي، عمّقا التناقض الحاصل في نص البيان السابق وزادا من حدته، بحيث بقي هذا البند رغم التعديلين يساوي الاعتراف بما يسمى "المقاومة" كجسم مستقل بالدولة والشعب والجيش، مع التشديد على تعزيز سلطة الدولة وسيادتها وانها صاحبة سلطة حصرية في القرارات المتعلقة بسياسة البلاد، في آن معاً!!!
هذا، مع الاشارة انه لو كانت تلك التعديلات وافية وجذرية، وتلبي الحد الادنى من طموحات الفريق الاستقلالي وما نال ثقة الجمهور على اساسه، او تنال من تغطية الدولة وتشريعها سلاح الغدر الذي يوصف زورا "بالمقاومة"... لَما قَبِل الحزب الايراني بصدور البيان الوزاري على ما صدر عليه، لأن من عطّل تشكيل الحكومة ما يقارب خمسة اشهر حتى نال مراده، قادر على تعطيل صياغة البيان الوزاري لمدة اكبر من ذلك الى ان يلبي طموحاته واطماعه.
وبالعودة الى تفاصيل البيان الوزاري لحكومة "الدوحة الثانية"، تَبيّن من الفقرتين 2 و6 في الشق السياسي منه، ان اللجنة الوزارية أدخلت تعديلات على المسودة الاصلية التي كانت أدرجت هاتين الفقرتين كما وردتا في البيان الوزاري للحكومة السابقة، مبقية القديم على قدمه، مع اضافة بعض التعديلات بما لا يمس جوهر القديم، بل بما يؤكّد عليه ويزيد من حدة تناقضه.
وجاءت الفقرة 2 من البيان الجديد كالآتي: "تشدد الحكومة على وحدة الدولة وسلطتها ومرجعيتها الحصرية في كل القضايا المتصلة بالسياسة العامة للبلاد بما يضمن الحفاظ على لبنان وحمايته وصون سيادته الوطنية. ويكون هذا المبدأ ناظما لتوجهاتها وقراراتها والتزاماتها. كما تشدد على التزام مبادئ الدستور وأحكامه وقواعد النظام الديموقراطي والميثاق الوطني وتطبيق اتفاق الطائف".
ونصت الفقرة 6 على الآتي: "انطلاقا من مسؤوليتها في المحافظة على سيادة لبنان واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه، تؤكد الحكومة حق لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته، في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء والتمسك بحقه في مياهه، وذلك بالوسائل المشروعة والمتاحة كافة. وتؤكد التزام قرار مجلس الامن الدولي رقم 1701 بمندرجاته كلها. كما تؤكد العمل لتوحيد موقف اللبنانيين من خلال الاتفاق على استراتيجية وطنية شاملة لحماية لبنان والدفاع عنه تُقَر في الحوار الوطني".
ولفت بعد ثلاثة ايام على اتمام المسودة الاخيرة للبيان الوزاري الجديد، ما صدر عن تكتل نواب "القوات اللبنانية" في 28/11/2009، وفي بيان عقب اجتماع عُقِد في معراب برئاسة رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع، تطرّق إلى البيان الوزاري وما رافقه من مواقف حول البند السادس فيه، وأكد أنّ "ذكر المقاومة فيه يتناقض والمادة 65 من الدستور المتعلقة بعمل مجلس الوزراء في القضايا التي تستوجب أكثرية موصوفة، والتي تنص على حصر قرار الحرب والسلم في مجلس الوزراء". وأضاف: "لا يتضمّن اتفاق الطائف أي إشارة ولو تلميحاً إلى كلمة "المقاومة"، لا بل إنّ بنود وفقرات وثيقة الوفاق الوطني، خصوصاً البنود الاول والثاني والثالث تؤكّد على ضرورة احترام قرارات الشرعية الدولية، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية، ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية دون أي استثناء". وشدّد على أنّه بذلك فإنّ "فقرة المقاومة في البيان الوزاري الحالي تناقض اتفاق الطائف لهذه الجهة".
كما لفت التكتل، في الاطار عينه، إلى أنّ "اتفاق الطائف في البند (د) من فقرة المبادىء العامة، نصّ على أنّ "الشعب اللبناني مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية"، وذلك يعني أنّه "على الدولة اللبنانية وحدها وبقواها الذاتية أن تبسط سلطتها على كامل أراضيها، وهذا ما يتناقض كليا مع كلمة المقاومة في البيان الوزاري". واعتبر أنّ "إيراد عبارة "المقاومة" كشخصية قائمة بحد ذاتها، بالتزامن مع التأكيد على التزام لبنان بقرار الشرعية الدولية رقم 1701 بمندرجاته كاملة، هو بمثابة قول الشيء وعكسه في آن معاً". ورأى أنّ "ورود كلمة "مقاومة" في البند السادس هو التفاف على طاولة الحوار واستباق لمقرراتها"، سائلاً "ما الجدوى من طاولة الحوار في هذه الحالة؟".
وأشار التكتل إلى أنّ "البند 6 من البيان الوزاري يعترف بأنّ الحكومة ستجهد "لتوحيد موقف اللبنانين على استراتيجية وطنية شاملة لحماية لبنان"، مما يعني بأنّ الحكومة تعترف بأنّ اللبنانين ليسوا موحدين في نظرتهم للاستراتيجية الدفاعية، وتالياً يكون إدراج كلمة "المقاومة" في هذا البند بالذات نقضاً مباشراً لمبدأ التوافق الوطني".
وانتهى التكتل إلى أنّ "البند السادس من البيان الوزاري يتناقض مع نفسه في الدرجة الاولى، ومع الدستور واتفاق الطائف في الدرجة الثانية ومع القرار 1701 وقرارات دولية أخرى في الدرجة الثالثة، وتالياً فإنّه يناقض ميثاق العيش المشترك إلى جانب كونه غير دستوري وغير قانوني، وتالياً فكأنه لم يكن". مطالباً "الحكومة بتصحيح هذا البند أو حذفه حفاظاً على مصداقيتها وهيبتها وميثاقيتها".
الا انه في نهاية الامر، على الرغم من قرارالشعب الواضح في الانتخابات النيابية، حين جرى استفتاء واضح على سلاح ما يسمى "المقاومة" وكان خيار الشعب اللبناني التأكيد والتمسك بمرجعية الدولة ورفض تشريع سلاح الميليشيات، وعلى الرغم من اعتراض المعترضين، وتحفّظ المتحفّظين، شاء من شاء وابى من ابى، صدر البيان الوزاري مانحا ما يسمى بـ"المقاومة" التي يحتكرها "حزب ولاية الفقيه" بسلاحه الفئوي والفتنوي والمذهبي الحاقد والغادر... شخصية معنوية مستقلة توازي الجيش اللبناني والمؤسسات الشرعية، بل تساوي بين سلاح الجيش وسلاح "حزب ولاية الفقيه" بحيث يتقاسمان السيادة على ارض وطن واحد، رغم عدم بت موضوع السلاح والاستراتيجية الدفاعية، الوحيد المتبقي على طاولة الحوار اللادستورية(التي تسرق القرار من مجلسي النواب والوزراء)، ما يؤسّس ويُمَأسس لازدواجية القرار في لبنان؛ فأقرّ البيان في 2/12/2009، في جلسة حملت ملامح مشهد شبيه بمشهد جلسة 5 آب 2008، عندما أقرّت الحكومة السابقة التي رئسها الرئيس فؤاد السنيورة بيانها الوزاري بتحفّظ عدد من وزرائها، وذلك اعتراضاَ على موضوع يتكرر للمرة الثانية، ألا وهو ذكر "المقاومة" مستقلة عن "الشعب" و"الجيش" في الفقرة التي تتحدث عن مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، ما يعني الابقاء على الخطوط العريضة للصيغة السابقة التي اتت نتاج 7 أيار، في حين كان من المفترض ان تكون هذه الصيغة نتاج 7 حزيران.
وكان لافتا في تلك الجلسة، اعتراض وتحفظ وزراء مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار على البند السادس المتعلق بالسلاح، فتحفّظ واعترض وزراء "الكتائب" و"القوات اللبنانية"، والوزيران ميشال فرعون وبطرس حرب، فيما لم يجرؤ وزراء السنّة (المتضرر الاكبر من غزوة ايار الارهابية) في تلك القوى، وتحديدا "تيار المستقبل" وفي مقدمتهم رئيس الوزراء سعد الحريري، على ابداء اعتراضهم او على الاقل تحفّظهم على الصيغة الخطيرة التي اعتُمِدت، بل ايدوا البيان من دون تحفّظ اسوة بالوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية ووزراء "الحزب" و"أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"تكتل التغيير والاصلاح"، وذلك نظرا لمنصب الحريري الجديد الذي فرض عليه سلوكا جديدا يمنعه من تبني مواقف فريقه السياسي علنا والالتزام بها، ما زاد من ضعف تجمّع 14آذار واحتمال انهياره.
وعبثا حاول وزراء مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار ادخال تعديل على البند السادس اثناء جلسة اقرار البيان الوزاري، لكن محاولاتهم باءت بالفشل واعتراضم كان دون جدوى، لاصطدام طروحاتهم بجدار اكثرية جديدة داخل الحكومة تمثلت بوزراء الحريري وجنبلاط، اضافة الى وزراء الثنائي الشيعي والجنرال عون، في حين لاقت اعتراضات وزراء سوريا وايران على بند العلاقات السورية-اللبنانية آذانا مصغية وسمعا وطاعة ، بعدما اصروا على ادخال عبارة "اخوية" عليها واستبدال عبارة "ندية" بعبارة "مساواة"، لأنها "تزعج الاخوة السوريين" على حد قولهم، فاستجيب لاعتراضهم وعُدِّل البند!! كما جرى شطب ذكر القرار 1701 من البند الخاص بمراقبة الحدود الشمالية وضبطها، بناء على رغبة وزراء سوريا وايران ايضا.
وقد عاد بنا هذا المشهد والانقسام الاليم، الى الاصطفافات السياسية زمن الوصاية السورية، حين اسّس المسيحيون الاستقلاليون في شهر نيسان من العام 2001، "لقاء قرنة شهوان"، الذي اراد اعضاؤه ان يكون الترجمة السياسية للنداء التاريخي لمجلس المطارنة الموارنة في ايلول عام 2000، وقد عرف هذا اللقاء بالمواقف المتشبثة بالحرية والسيادة والاستقلال، وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، وإطلاق المبادرات الحوارية مع سائر القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، ما شكّل النواة الصلبة لما سيعرف لاحقا بـ"انتفاضة الاستقلال"...
ولا تفوتنا في هذا المقام، الاشارة الى دخول اسرائيل مجدّدا على خط مضمون البيان الوزاري، والمناقشات التي كانت دائرة حول سلاح "حزب ولاية الفقيه" وذكره بما لا يتعارض مع مرجعية الدولة في قراري السلم والحرب، على غرار ما اقدمت عليه مرارا إبان تأليف الحكومة وما قبله ايضا... وذلك عبر التحذير الذي أعاد وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك تكراره لناحية "تحميل لبنان والمؤسسات نتائج اي صدام عسكري قد يقع بين اسرائيل و"حزب الله"" كما قال، "نتيجة موافقة كل الافرقاء المشاركين في السلطة من خلال ما سيتضمنه البيان الوزاري".
فتكرار الموقف الاسرائيلي اثناء عملية صياغة البيان، جاء في الوقت المناسب بالنسبة للحزب، فقد اتى ليعزّز وجهة نظره في ظل المناقشات وعدم التوافق على ايراد ما يتعلق بسلاحه في البيان الوزاري، بحيث ساهم هذا التدخل في تبرير تجميد اي مرونة من جانب الحزب، على فرض ورودها، في ضوء المساعي الاخيرة التي كان يقوم بها رئيس الحكومة سعد الحريري للتوصّل الى صيغة مناسبة يوافق عليها الجميع.
وهذا التهديد الاسرائيلي-على عكس ما تروجّه اسرائيل من ان انتهاكاتها هي لاستكشاف ما يتهدّد امنها من لبنان- يُعتبر مماثلا للانتهاكات المستمرة للسيادة اللبنانية، والتي توفّر ذريعة تعزّز على نحو كبير تمسّك الحزب بسلاحه الذي لا يبدو انه يكدّسه لمواجهة اسرائيل كما يدّعي، بل لفرض رأيه على الدولة اللبنانية وبناء دويلته على انقاضها، بما يتلاءم مع المشروع الفارسي الذي يتلاقى بدوره مع مشروع "الشرق الاوسط الجديد".
وبفعل التدخل الاسرائيلي، بدلا من ان تأتي المرونة من الحزب الخاسر في الانتخابات التي شكلت استفتاء شعبيا على سلاحه قالت فيه اكثرية الشعب كلمتها برفض تشريعه، جاءت المرونة من جانب الفريق الرابح في 7 حزيران، لتندرج في خانة الرضوخ للتدخل الاسرائيلي او لتحذيراته التي تصب في مصلحة الحزب الذي يستخدم دائما الذريعة التي توفرها اسرائيل من اجل التشدد في حماية سلاحه، سواء على طاولة مجلس الوزراء، او على طاولة الحوار، رافضا ان يتجاوب اكثر مع ما يطلبه الافرقاء الآخرون على طاولة لجنة صياغة البيان الوزاري، تحت طائلة تحميلهم مواربة او مباشرة تبعة ملاقاة الموقف الاسرائيلي.
وفي هذا السياق، كان لافتا ومستفزا، تحليق الطيران الحربي الاسرائيلي في سماء بيروت اثناء العرض العسكري للجيش اللبناني في عيد الاستقلال، صباح الاحد 22/11/2009، قبل اتمام مسودة البيان الوزاري، ما عزّز موقف الحزب الايراني المتذرّع بالخطر الاسرائيلي للاحتفاظ بسلاحه. كما كان موفّقا حُسن استثمار النائب نواف الموسوي ذلك الاستفزاز الاسرائيلي في اليوم الثاني من جلسات مناقشة البيان الوزاري(9/12/2009)، حين رد على المعترضين على سلاح حزبه مستعملا منطق الحق الذي يراد به باطل، قائلا: "في عيد الاستقلال كانت الطائرات الإسرائيلية فوق العرض العسكري وكانت الدولة كلها موجودة، ما هو جوابكم؟ هذا عدوان، الطلعات الجوية هي اعمال حربية".
ولعل ابرز عوامل قوة الحزب في فرض تشريع سلاحه اثناء عملية صياغة البيان الوزاري وتمسكّه بموقفه، تُختصَر بأن لديه في المواقف الداخلية لحلفائه فضلا عن مواقف النائب وليد جنبلاط، التي ابدت علنا مطالبتها ابقاء القديم على قدمه في ما يتعلق ببند السلاح في البيان الوزاري، ما يجعله مرتاحا اكثر الى وضعه، هذا فضلا عن استقوائه بسطوة السلاح نفسه، والتدخل الاسرائيلي الذي بات يمثل المنقذ الاستراتيجي الابرز للحزب في مواقف حرجة كثيرة، كان آخرها تصاريح القادة العسكريين والسياسيين الاسرائيليين قبيل الانتخابات النيابية الذين تكفّلوا بالدعاية الانتخابية للحزب، مرورا بتحذيرهم من اشراكه في الحكومة الذي وضع حدا لبعض الاصوات الاستقلالية المنادية بحكومة اكثرية خوفا من الاتهام بالعمالة، وصولا الى تهديد العدو الصهيوني الحكومة اللبنانية انه في حال تشريعها سلاح الحزب في البيان الوزاري، فسيقوم بتحميلها مسؤولية اي تعرّض لإسرائيل او لأي ديبلوماسي او سائح اسرائيلي في اي مكان في العالم، يكون مصدره الاراضي اللبنانية او "حزب ولاية الفقيه".
ففي 7/12/2009، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه: "خلافاً للماضي حيث كانت تتعامل إسرائيل مع "حزب الله" في لبنان بصفته ميليشيا جانبية، فإن الحزب اليوم هو الجيش اللبناني الحقيقي، وهو يستبدل جيش لبنان، بصفته القوة الملموسة التي تتسلّح وتتنظّم كجيش بكل معنى الكلمة". مؤكداً أن: "الحكومة اللبنانية و"حزب الله" أصبحا مندمجين بعضهما مع البعض الآخر وسيتحمّلان المسؤولية عن المساس بإسرائيل".
وما يستدعي الاستغراب والدهشة، أن هذه التصاريح الاسرائيلية تنمّ في ظاهرها عن سذاجة في التفكير وفي التكتيك العسكري، يُستبعَد أن تصدر عن أقوى جيش في الشرق الأوسط ورابع أقوى جيش في العالم.
فإسرائيل تعلم علم اليقين وتتابع عن كثب، تعاظم قوة "حزب ولاية الفقيه" في لبنان: عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتدرك جيداً ان ذلك الحزب الايراني بات يملك من القدرات والمقومات ما يفوق قدرات الدولة اللبنانية برمّتها، ودويلته في توسع مستمر يتغذى على ضعف وعجز وتقصير الدولة اللبنانية بكافة مؤسساتها، السياسية منها والأمنية والإجتماعية بشكل خاص، ما يعني أن أي استهداف اسرائيلي للدولة اللبنانية وخصوصاً مؤسساتها العسكرية والامنية ومرافقها الحيوية، سوف يؤدي تلقائياً الى اضعافها وشلّها نهائياً، وبالتالي اتاحة فرصة ذهبية أمام "حزب ولاية الفقيه" الذي يملك جيشاً موازيا للجيش اللبناني، تُمَكّنه من توسيع وتركيز دويلته على أنقاض الدولة اللبنانية المسحوقة، و بالتالي بسط سلطته او تسلّطه على الدولة بشكل كامل!! وبالتأكيد سيُدخل هذا الواقع الجديد لبنان في فوضى، تقحمه أتون حرب أهلية مدمرة، تساهم بشكل مباشر في تقسيمه الى دويلات طائفية ومذهبية، بما يتوافق و"مشروع الشرق الأوسط الجديد" الذي وضعته السياسة الصهيو-أميركية لاعادة تقسيم المنطقة على اساسه.
وهنا نجد أنفسنا امام ثلاثة اسئلة منطقية:
1- هل تريد اسرائيل حقاً اضعاف ذلك الحزب أو إنهائه عسكرياً، أم تريد من جهة اولى: ابقاء نفسها تحت خطر مزعوم يجذب لها أموال الصهاينة وعطف الدول الداعمة في العالم، ويُبقي الشعب اليهودي متأهباً للحروب لكي يتشبّث فيها مدافعاً عن وجودها، ومن جهة ثانية: ضرب الدولة اللبنانية كلما تحسّن اقتصادها وتمتن سلمها الاهلي وترسّخ عيشها المشترك؟!
2- ألا تعلم اسرائيل ان تصريحاتها وتهديداتها تلك، تخدم مشروع "حزب ولاية الفقيه" الذي يتذرّع بها للاستمرار بالتسلّح بمختلف أنواع الاسلحة، التي ثبت بما لا يقبل الشك في أيار2008 انها معدّة للاستعمال في الداخل اللبناني، لفرض وانتزاع مكاسب سياسية وطائفية داخلية وخارجية؟!
3- ألا يشير ذلك الواقع الى تقاطع مصالح بين الطرفين؟!
في "حرب" تموز 2006، لم يكن هناك قصور استخباري لدى الجيش الاسرائيلي؛ كانت لدى الجيش الصهيوني معلومات جيّدة عن تشكيلات حزب ولاية الفقيه، والاسلحة التي بحوزته، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدروع، والمخابئ والمخازن، وشبكة الخنادق المحصنة، ومسارات وقوافل نقل السلاح، وأماكن منصات اطلاق الصواريخ، وطرق القيادة... فكل ذلك كان يتم تحت اشراف طائرات العدو الاستطلاعية التي لا تفارق الاجواء اللبنانية، فضلا عن الأقمار الصناعية التجسسية التي تستطيع رصد أدق الاشياء والتضاريس والتفاصيل في الجنوب اللبناني.
ومع ذلك كله، لم يتم القضاء على قدرة الحزب القتالية أثناء ذلك العدوان المريع الذي طال الدولة اللبنانية وحدها: بشعبها وجسورها وطرقاتها ومطارها ومرفئها وبناها التحتية وسياحتها واقتصادها، وبقي الحزب يطلق صواريخه حتى ساعة وقف اطلاق النار لكن باتجاه الاحراج والتلال والوديان والقرى ذات الكثافة العربية واحياء العرب في حيفا، فيما بقيت المستوطنات المتاخمة للحدود الشمالية شبه سالمة، وكأن الجيش الاسرائيلي والحزب فقدا ذاكرتهما أو أصيبا بالعمى!!
بعد مرور أشهر قليلة على انتهاء ذلك العدوان على الدولة اللبنانية، بدأت أسراره تتكشّف؛ ففي 30/10/2006 نشرت صحيفة "معاريف" الاسرائيلية شهادات جنود اسرائيليين أدلوا بها امام لجنة الخارجية والامن في الكنيست التي أنشئت للتحقيق في مجريات الحرب، فقد أفاد جنود شاركوا في الحرب:" ان تصفية منصات صواريخ الحزب لم تتقرّر كهدف مركزي للقتال في لبنان"، كما تحدّثوا عن "أوامر غامضة للمهمات"، ما اوقع الجنود الاسرائليين في "بلبلة تامة في كل ما يتعلق بطرق القيادة، خاصة مع تغيير المهمة بشكل لا يتوقف".
وهذا ما أكده بعد ثلاث سنوات على انتهاء "الحرب"، نائب رئيس الاركان الاسرائيلي خلال حرب لبنان الثانية جنرال الاحتياط موشي كابلينسكي في 12تموز 2009، حيث أشار "انه لم يكن هناك قاسم مشترك بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية، والحكومة لم تحدد للجيش أهداف القتال" خلال الحرب.
وهنا، تجدر بنا الاشارة الى ان اللعبة الاسرائيلية باتت مفضوحة، كما ان جدية التهديدات المتبادلة بينها وبين "حزب ولاية الفقيه" وسوريا وايران لم تعد تنطلي الا على البسطاء، فمصلحة إيران واسرائيل أن تبقى الأمور مشتعلة في الشرق الأوسط، الأولى لكي تُبقي على عصب الثورة وتلهي شعبها عن واقع بلاده، والثانية من أجل ان تبقي نفسها تحت الخطر، وان يظل الشعب اليهودي متأهبا للحروب لكي يبقى فيها مدافعا عن وجودها. فيكفي بالنسبة لاسرائيل، نشر خطابات الكراهية التسويقية وصرخات العنجهية الدعائية والترويجية لأحمدي نجاد وحسن نصر الله لحَصْدها الثمار، اي المال والاهتمام والدعم الغربي. والامر نفسه ينسحب على اميركا، التي تستخدم الفزاعة الايرانية للسيطرة على دول الخليج ومنابع النفط، واقامة القواعد العسكرية وعقد صفقات التسلّح البالغة عشرات مليارات الدولارات؛ وحسبنا لتأكيد ذلك، ان نذكر تصريح الجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة الاميركية الوسطى الذي ادلى به في برنامج فوكس نيوز صنداي، في 6/12/2009، حين اكّد ان القادة الايرانيين هم "افضل من يجنّد" للولايات المتحدة بسبب ما يثيرونه من قلق لدى جيرانهم في المنطقة. وقال: "الرئيس احمدي نجاد والقادة الايرانيون ما زالوا افضل المجندين للقيادة الوسطى الاميركية (التي تضم الشرق الاوسط واسيا الوسطى) في الوقت الذي نطوّر فيها شراكاتنا)...) لقد اثاروا قلقا شديدا لدى الموجودين على الضفة الغربية للخليج".
ولعل آخر فصول الاستكبار والغطرسة الايرانية - التي تنذر بالخطر وتتهدد العالمين العربي والاسلامي وتخدم العدو الصهيوني وتبعثر قوى المنطقة - فضلا عن المناورات الصاروخية والمفاعلات النووية الموجهة ضد دول الخليج بشكل خاص، ودعم وتغذية الانقسام الفلسطيني، والتسبّب بمحرقة جديدة في غزّة نهاية عام 2008 وبداية عام 2009 لإيران شراكة كاملة فيها...آخر تلك الفصول الاجرامية، كان محاولة ايران من خلال "حزب ولاية الفقيه" المس بالأمن القومي المصري التي كُشِف عنها في نيسان 2009، عبر تهريب أسلحة ومتفجّرات، وتجنيد واستقطاب عناصر تأتمر بهم، بغرض تنفيذ مخطط تخريبي، تحت ذريعة: "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة"... وكذلك دعمها التمرّد الحوثي في اليمن في حربه على الدولة المشتعلة منذ آب2009، والتي ما لبثت ان امتدت في تشرين الثاني الى داخل الاراضي السعودية، حيث افادت مصادر عسكرية مطلعة: ان ما بين 30 و50 خبير اسلحة ومدربا من ايران و"حزب ولاية الفقيه"، لقوا مصرعهم داخل المملكة في المعارك التي خاضتها ولا تزال القوات السعودية التي ابدت كفاءة عالية في مواجهة الارهابيين الحوثيين، لم يتوقعها النظام الايراني الذي يدعمهم ويدربهم ويسلّحهم منذ سنوات بهدف تقسيم اليمن، وإقامة كيان يشكل قاعدة متقدمة تساعد ايران في أداء دور محوري في دول الخليج.
ومع ذلك، لا يُستبعَد كليًّا، احتمال ان تقْدِم اسرائيل على ضرب المفاعل النووي الإيراني، فحصول عمل عسكري وان كانت نسبته ضئيلة جدا، الا انه يبقى احتمالا واردا. فصحيح ان اميركا واسرائيل تستفيدان من ايران والاخيرة تستفيد منهما، لكن اذا تجاوزت ايران حدودها في غير المتفق عليه فعليها حينئذ تحمُّل العواقب، كما حصل مع محاولة سوريا بناء مفاعلها النووي السرّي في موقع الكُبَر الصحراوي قرب مدينة "دير الزور"، فعندما ضربته اسرائيل (التي تعتبر بقاء النظام السوري مصلحة استراتيجية لها كما صرّحت غير مرّة) في ايلول عام 2007، لم تردّ سوريا كالعادة، لأنها علمت انها تجاوزت الحدود المسموح بها والمتفق عليها بين الطرفين، بإنشائها مفاعلا نوويا يشكل خطرا وجوديا على اسرائيل.
وكذلك ايران، يُستبعد ردها على تلك العملية لو تمّت، بل ستشحن شعبها وتحاول امتصاص غضب الثورة الخضراء (التي اندلعت عقب الانتخابات الرئاسية في 12 تموز 2009 احتجاجا على التزوير الذي شابها، حيث نظّمت المعارضة الايرانية تظاهرات حاشدة كان آخرها تظاهرة عاشوراء في 27و28/12/2009، ادّت الى زعزعة هيبة الولي الفقيه بالتمرّد على اوامره مع اطلاق صيحات التكبير وهتافات: "الموت للديكتاتور"، ما اسفر الى اليوم عن اعتقال اكثر من 4500 شخص وسقوط نحو 100 قتيل، في صراع داخلي مفتوح بات يحاكي الحرب الاهلية...)، فستستغل ايران تلك "الضربة" (على فرض حصولها) لتوحيد الشعب المنقسم امام "العدو" الخارجي، تمهيداً لإجهاض الثورة المضادة للنظام الدموي المتهالك، وستقول انها تنتظر الوقت المناسب للرد الذي لن يأتي.
اما في حال حصول رد، فستكون "حرباً" وهمية استعراضية كحرب تموز، ستفيد منها ايران كمروِّج فعّال لثورتها، كما ستفيد اميركا في شفط المزيد من اموال الخليج واستخدامها في الخروج من الأزمة الاقتصادية الأميركية. اما في حال امتداد "الحرب" الى لبنان، او ابتدائها من لبنان، فستكون من مصلحة الحزب الايراني، لأن لبنان سيدمَّر بقواه العسكرية ومؤسساته كاملة، ليحل محلها البديل الجاهز والمتأهب دائما، ونعني به بالتأكيد: "حزب ولاية الفقيه".
وقد لفتت بعض التقارير والتحقيقات الصحفية، الى ان حالة ما بعد حرب تموز بدأت ترخي بظلالها على مقاتلي الحزب وعائلاتهم، الذين بدأوا يطلبون حربا جديدة، لما سَيَليها من تعويضات من المال الشريف والنظيف والطاهر، ويترحّمون على "شهدائهم"، لأن "الشهادة" في سبيل المشاريع الهدامة اصبحت مصدر إعالة دائمة وسخية لعائلة "المقاوم" الذي يسقط ضحية تلك الـ"حروب" الدعائية، خصوصا أن "مؤسسة الشهيد" التي يشرف عليها ويديرها ويموّلها الحرس الثوري الايراني، تقوم بإعالة عائلات "الشهداء"، وبالتالي مصادرة قرارهم و امتلاك ولائهم.

                             

 

 

                                         

                         الفصل السابع
 اعراف جديدة تكرّست مؤكدة ابتداء زمن "الشيعية السياسية"

لم يشهد بلد يعتمد النظام الديموقراطي الصحيح، ما يشهده لبنان من تشويه لهذا النظام ومن تعطيل لأحكام الدستور، عندما تفرض الاقلية النيابية شروطها على الاكثرية وكأن لا انتخابات جرت، لا بل تفرض مشاركتها في حكومة تحت اسم حكومة "الوحدة الوطنية" ولو بالاكراه، وتختار وزراءها والحقائب التي تريد، ليس من أجل تنفيذ مشاريع اصلاحية متفق عليها، بل بحجة تطبيق النظام "التوافقي" الذي لا وجود له في لبنان، حيث النظام الديموقراطي الذي يقول بحكم الاكثرية وليس بحكم الاقلية، او بحكم حكومة ائتلافية اذا اتفقت على برنامج عمل واحد.
فمنذ اندحار الوصاية السورية بجيشها واستخباراتها عن لبنان عام 2005، وقوى 8 آذار تسعى الى إدخال تعديلات جذرية على النظام السياسي اللبناني تمس جوهر اتفاق الطائف، لا سيّما لناحية تقاسم السلطة بين الطوائف اللبنانية، وحصة كل من هذه الطوائف في مؤسسات الدولة الدستورية، ومواقع الحكم الرئيسية، والصلاحيات الخاصة بكل من هذه المواقع.
ففي الأفق محاولة جديدة لاستهداف النظام السياسي اللبناني، ومحاولة لإدخال تعديلات جذرية عليه بقوة الأمر الواقع التعطيلي، الذي يفرضه وجود سلاح "حزب ولاية الفقيه" على اللعبة السياسية الداخلية، وعلى الفرقاء اللبنانيين، وعلى التوازنات التي أفرزتها الإنتخابات النيابية الأخيرة.
وقد نجح الحزب المعادي للنظام اللبناني الديموقراطي وصيغته التعددية... في فرض معادلات مناقضة لاتفاق الطائف، في محاولة منه لجعلها اعرافا وسوابق تكتسب مع التكرار قوة واحتراما بموجب الدستور؛ وهي اعراف من شأنها ان تنسف جوهر الطائف والنظام الديموقراطي، الذي تعتبره قيادة "الحزب" ساقطا سياسيا بالاستناد الى اوامر الولي الفقيه والى تجربة السنوات الاربع الماضية، التي امعن الحزب خلالها في انهاك وانتهاك دستور الطائف، تمهيدا الى اثبات عدم صلاحيته وقصوره عن ادارة البلاد، وصولا الى المطالبة بتعديله او استبداله بدستور جديد يلبّي طموحات الحزب الايراني، ويعطيه من المكاسب ما يتوافق مع حجمه العسكري والسياسي والديموغرافي المتعاظم يوما بعد يوم.
ويبدو واضحا من خلال سلوك الحزب الايراني، ومتابعة ادبيّاته، اعتباره أنه لا بد عاجلاً أم آجلاً أن يعدّل هذا الاتفاق، أو أن يوضع اتفاق جديد قد يكرّس "المثالثة" بدلا من "المناصفة"، او "فدرالية طوائف" بقيادة الغالب، ولن يتم ذلك إلا بحرب أهلية جديدة يَفترِض "حزب ولاية الفقيه" -الذي اعد لها عسكريا وسياسيا وغرائزيا- أنه سيكسبها ويفرض من خلالها على الطوائف الأخرى، اتفاقاً ودستوراً جديدين للبنان.
ولعل اخطر محاولات انتهاك دستور الطائف وانهاكه، هي تلك التي رافقت الثورة المضادة التي قام بها نظام الرئيس بشار الأسد وخاضها في السنوات الاربع الأخيرة بواسطة حلفائه، في محاولة منه لاستعادة لبنان من احضان "ثورة الارز"، وذلك من خلال تنظيمه نشاطات واعمال عدوانية مختلفة( اغتيالات، تفجيرات، اعتصامات...) لإضعاف دور القوى الاستقلالية على مراحل، تخللها تعطيل المؤسسات: حكومة ومجلسا ورئاسة؛ فابتدأت محاولات اغتيال الطائف باستقالة وزراء الثنائي الشيعي من حكومة الاستقلال الثاني اواخر عام 2006، واعتبارهم اياها على اثر ذلك غير شرعية وغير ميثاقية، ثم محاولة اسقاطها بشتى الوسائل السلمية والعنفية، مرورا بإقفال مؤسسة مجلس النواب الدستورية مدة تقارب السنتين، من تشرين الاول عام 2006 وحتى اواخر ايار 2008، وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية مدة سبعة اشهر تقريبا، ما بين تشرين الاول 2007 وايار2008، وصولا (وليس انتهاء) الى عرقلة تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009 النيابية ما يقارب الخمسة اشهر.
وبلغت تلك المحاولة الانقلابية ذروتها بغزوات السابع من ايار 2008، التي افضت الى احتلال العاصمة بيروت، ومهاجمة الجبل ومناطق اخرى، وفرضت تسوية قسرية تحت النار تمثلت "باتفاق الدوحة"، الذي مثّل اختراقا جوهريا في جسم اتفاق الطائف بترسيخه سوابق عدة في الحياة الدستورية والمؤسساتية في البلاد، فأضحت اليوم بعد الانتخابات النيابية الاخيرة وحلول استحقاق تشكيل الحكومة عرفا مكرّسا بسابقة "اتفاق الدوحة" وبتهديد السلاح في الشارع.
ويمكن حصر تلك الاعراف والتعديلات التي تمثل تشويها لدستور الطائف ونسفا لبعض ركائزه، بستة اساسية تمثل بحد ذاتها انقلابا على الطائف:
1- عرف الثلث المعطل، وان بشكل ضمني يتمثل بالوزير الحادي عشر المموّه ضمن حصة رئيس الجمهورية، وهو ثلث جعلوه شرطا "للمشاركة" ومرادفا لـ"الشراكة الحقيقية".
2- ما يعرف بالـ"ديموقراطية التوافقية"، التي تتنازل الاكثرية بموجبها عن حقها في الحكم، ما يجعل الانتخابات النيابية دون جدوى.
3- جعل حكومة "الوفاق الوطني" التي نص عليها اتفاق الطائف لمهمات محدَّدة بعد إقراره، حكومة مفروضة ومحتَّمة في كل الأزمنة، تحت عنوان "حكومة الوحدة الوطنية".
4- ترك لكل فريق سياسي ممثلاً برئيسه، حرية اختيار وزرائه في الحكومة وتحديد حقائبهم الوزارية.
5- ومن اعراف "اتفاق الدوحة" ايضا: تكريس حصة رئاسية ثابتة داخل الحكومة لم يلحظها اي نص دستوري، مما انعكس تقليصا في حصة الاطراف المسيحيين في الاكثرية.
6- فرض بند في البيان الوزاري يتكرر للمرة الثانية بعد بيان حكومة "الدوحة الاولى"، يساوي سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى بـ"المقاومة" المحتكَرة من قبله، بسلاح الجيش اللبناني، وينتقص من سيادة الدولة على كامل اراضيها.
هذا، ويعدّ تكريس تلك الاعراف امرا خطيرا على الدستور والصيغة اللبنانية التي تَوافَق عليهما اللبنانيون في الطائف، ذلك ان تكريس العرف يعني بعبارة اخرى تعديل الدستور، لأن في النظام اللبناني قوة كبيرة للعرف الدستوري توازي النصوص الدستورية، كما هو الحال بالنسبة الى تولّي ماروني رئاسة الجمهورية وشيعي رئاسة المجلس وسني رئاسة الحكومة، ولانه ليس من الضروري ان تتضمّن الدساتير المكتوبة كل قواعد الحكم واصوله، فالاعراف والنصوص المكمّلة للدستور تسدّ ما يمكن ان يظهر من فراغ.
وفيما يلي بعض التفصيل في الاعراف التي كرّسها ويحاول تكريسها "حزب ولاية الفقيه".
اولا: عرف الثلث المعطل:
إن ما فرضه هؤلاء الإنقلابيون وكرّسوه في حكومتي "الدوحة الاولى" و"الدوحة الثانية" من بدعة الثلث المعطل، انما يعني بعبارة أخرى: حق تعطيل قرارات الحكومة، أو عدم صدور قراراتها إلا إذا حظيت بالإجماع، الذي بدوره لا يتحقق إلا إذا نال رضى الأقلية؛ فعندما تعترض الاقلية على موضوع ينبغي على الاكثرية ان تسلّم باعتراضها، واذا اعترضت الاكثرية، فمن حق الاقلية الا تسلّم به. وهذا بحد ذاته انقلاب على دستور الطائف، لأن من شأن ذلك تحويل الديمقراطية البرلمانية التي يُفترض أن تُحكم على أساسها البلاد، حيث الأكثرية تحكم والأقلية تعارض وتحاسِب، إلى "ديمقراطية توافقية"، لا تحظى بموجبها الأكثرية والأقلية البرلمانيتان بحقوق متساوية فحسب، بل يصبح للأقلية امتياز "الفيتو"! وحينئذ، يجدر بالقوى السياسية أن تتنافس على الفوز بأقلية مقاعد البرلمان في الإنتخابات النيابية، لا على حصد أكثرية مقاعده، كما لا جدوى حينئذ للانتخابات النيابية التي لن تغير في الامر الواقع شيئا.
أما تسميتهم هذه الآلية الإنقلابية "مشارَكة"، فهو ضرب من الإحتيال على معاني اللغة، وتفريغ للمفاهيم من مضمونها، تماماً مثل جمعهم بين النقيضين في عبارة "الديمقراطية التوافقية"؛ ذلك أنّ "المشاركة" في القاموس لها معنى إيجابي، يدور حول التعاون والتضامن في سبيل تحقيق هدف مشترك، ومن هنا سمّي العقد الذي يلتزم بموجبه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بقصد أن يقتسموا ما ينتج عنه من ربح أو خسارة، بعقد الشركة.
وبالتالي، لا يمكن أن تطلق "المشاركة" على معانٍ سلبية مثل التعطيل والعرقلة، أو تحكّم الأقلية، بأن تفرض فئة رأيها على فئة اخرى في اتخاذ القرارات والاستئثار بها، لا لشيء سوى لأنها تملك السلاح...وإلا أصيب البلد بالجمود والشلل، وهو ما شهدناه مؤخرا (في حكومة الدوحة الاولى) حين عُطِّلت مواضيع كثيرة مهمة، مثل المواضيع الاقتصادية والمالية والتعيينات، كيوم استُخدِم الثلث المعطل لعدم تمرير الموازنة الا في حال أقرّت موازنة صندوق الجنوب (الذي تدور حول وجهة امواله علامات استفهام كبيرة)، ولعدم توقيع الاتفاق التنفيذي بين مكتب المدعي العام في المحكمة الدولية وبين وزارة العدل اللبنانية التي تأجّل بتّها بسبب الخلاف عليها وعدم التوصل الى توافق في شأنها، وتهديد المعارضة صراحة باستعمال ثلثها المدمر او الاستقالة حال ممارسة الاكثرية حقها بالحكم، فأصبحت الحكومة أشبه بعربة تدفعها الأكثرية إلى الأمام فيما تجرّها الأقلية إلى الخلف، بغرض إخضاعها لمبدأ: ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم، حتى ولو اضطررنا لاستعمال القوة في انتزاعه.
ثانيا: الديموقراطية التوافقية:
مسألة فرض "التوافقية" ليحكم لبنان على اساسها، تمس مباشرة النظام الديموقراطي البرلماني الذي جرى الارتضاء به مرجعاً وحكماً منذ عهد الاستقلال الاول وصولا الى دستور الطائف عام 1989... لذا، لا بدَّ من التوقف للتدقيق في هذه الظاهرة، التي سنكتشف لاحقاً انها وليدة خطة تستهدف الأسس والدعائم التي ترتكز عليها الصيغة اللبنانية، التي وفرّت لبلد الثماني عشرة طائفة هذه الفرادة، وهذا التميز على مستوى المنطقة والعالم.
اذ، شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد يوم، يتسلَّل "نظام" آخر بتأنّ وحذر ومثابرة، شاقاً لنفسه درباً يؤدي به الى اعتلاء الصدارة، مما يمهد للتسليم به مرجعاً بديلاً، أو نظاماً بديلاً عن الطائف الذي سرعان ما سيتبيّن انه بات اسما لغير مسمّى!
فتحت عنوان التوافق، أو التوافقية، أو التفاهم المسبق على كل ما تقتضي الأصول والأعراف والتقاليد الرجوع به الى النظام الديموقراطي البرلماني، حيث يكون الاحتكام عندئذ دستوريّاً وشرعيّاً، بدأ يتكشّف نظام جديد جاعلا من الطائف مجرّد واجهة لنظام آخر يدعى نظام "اللجنة" أو نظام "التوافق المسبق" كما هو الحال في ايران.
فبـ"التوافق" الذي بات يعني انصياع الاكثرية لرأي الاقلية المسلحة، يتم الاتفاق والتفاهم على مَنْ يكون رئيس الجمهوريّة، ثم "يكرّس" مجلس النواب هذا "التعيين" بانتخاب أو تصويت صوري، وهذا ما حصل عند انتخاب العماد ميشال سليمان مرشح المعارضة لرئاسة الجمهورية.
والامر نفسه ينسحب على الرئاسة الثانية، حيث تم فرض اعادة انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس الوزراء، تحت شعار التوافق ايضا.
كذلك الأمر بالنسبة الى الحكومة: صيغةً ووزراء وحقائب وزارية وبيانا وزاريا...وحين يتم الاتفاق على كل شيء، ولو بعد أشهر من الحوارات والمشاورات واللقاءات والتدخلات الخارجيّة "الفعالة"، يُعلن رسميّاً تشكيل الحكومة الجديدة، وتصدر المراسيم.
كذلك الأمر بالنسبة الى الانتخابات النيابيّة والبلدية والاختيارية...كله بالتوافق المسبق، عند هذا الفريق كما عند ذاك. ولا ننسَى انتخابات اللجان النيابية. حتى بالنسبة الى وظائف الفئة الاولى والثانية والثالثة والرابعة، والى آخره.
وفي قراءة متأنية لوثيقة "حزب ولاية الفقيه" السياسية التي اعلنها في 30/11/2009، يُلاحَظ انها لم تكرر فقط رفض الاعتراف بمرجعية اتفاق الطائف ميثاقا ودستورا، لكنّها جعلت الوطن معلّقاً على شروط، والدولة مشروعا مؤجلا بشروط أخرى، وذهبت إلى جعل الدستور نفسه معلقا تحت عنوان "الديموقراطية التوافقية" بديلا من "الديموقراطية البرلمانية".
ففي موضوع "الدولة والنظام السياسي"، رأت الوثيقة ان "المشكلة الاساسية هي الطائفية السياسية" وان "الشرط الاساسي لتطبيق ديموقراطية حقيقية يمكن على ضوئها ان تحكم الاكثرية وتعارض الاقلية هو الغاء الطائفية السياسية". وأضافت: "والى ان يتمكّن اللبنانيون من تحقيق هذا الانجاز(...)،فان الديموقراطية التوافقية تبقى القاعدة الاساس للحكم في لبنان (...) وتشكل صيغة سياسية ملائمة لمشاركة حقيقية من الجميع".
وبهذا الطرح او الفرض الذي ينسف اسس الطائف، يجعل الحزب نفسه رابحا في كلا الحالين، اذ "التوافق" (كما هو معمول به الآن) يعني فرض اوامره عل الاكثرية، والغاء الطائفية السياسية يعني تحكّمه بالبلاد بفضل سلاحه وتفوّق طائفته العددي التي يحتكر قرارها وتمثيلها، بلا حاجة الى توافق...
ثالثا: حكومة الوحدة الوطنية:
ان مطالبة المعارضة ومن ورائها سوريا وايران، بضرورة كون اي حكومة يتم تشكيلها في لبنان حكومة "وحدة وطنية"، ليس حباً بهذه الوحدة التي تبقى شكلية ومزيّفة، انما لضمان المشاركة فيها بنسبة "الثلث المعطل"، حتى اذا لم تتحقق هذه المشاركة فإن الحكومة تصبح بزعمهم غير شرعية وغير ميثاقية، ويضطر لبنان الى الاختيار بين القبول بها او مواجهة الفراغ المفتوح على كل الاحتمالات... وتحقيقاً لذلك كانت الحملة على النظام الديموقراطي الذي يجعل الاكثرية تحكم والاقلية تعارض، والمطالبة بتطبيق "الديموقراطية التوافقية" التي لا تمتّ الى النظام اللبناني بصلة، كما لا اساس لها في اتفاق الطائف، خلافاً لكل ادعاء. بل كل ما في الامر، ان انصار "حكومة الوحدة الوطنية" يتمسكون بكلمة "ميثاقية" الواردة في اتفاق الطائف، وكذلك بعبارة "لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" بعدما اعطوها تفسيراً مذهبياً مغلوطا، وذلك باعتبارهم ان رفض أي مذهب المشاركة في الحكومة يجعلها غير شرعية وغير ميثاقية، الامر الذي يتعارض مع المناصفة الاسلامية-المسيحية (طوائفيا لا مذهبيا) التي نص عليها الدستور.
وبما انها المرة الاولى في تاريخ لبنان التي تزول فيها التعدّدية والتنوّع داخل بعض المذاهب، وتسود فيها الاحادية التي تحتكر القرار لتصبح قادرة على فرض شروطها ومطالبها ليس عند تشكيل الحكومات فحسب، بل بعد تشكيلها ايضا، يصرّ "حزب ولاية الفقيه" الذي نجح باحتكار قرار وتمثيل مذهبه رغبا ورهبا، انه لم يَعُد في الامكان اتخاذ قرارات مهمّة او حتى عادية الا بالاجماع او بشبه اجماع، خلافاً لما نص عليه الدستور بمادته الـ 65 التي حدد فيها المواضيع الاساسية التي تحتاج الموافقة عليها الى اكثرية ثلثي عدد الوزراء عندما يتعذر التوافق عليها، وعدد هذه المواضيع 14 فقط.
وبناء على هذا الوضع الشاذ المخالف للنظام والدستور، يبقى اقرار المشاريع الاساسية والمواضيع المهمة خاضعا لمزاج الاقلية المعطلة، تحت عنوان تزويري تضليلي، هو عُرف ما يسمّى بالـ"الديموقراطية التوافقية"، التي لم يعد معها في الامكان تشكيل اي حكومة ما لم تكن "حكومة وحدة وطنية"، وذلك بدعوى ان النظام الديموقراطي الذي كان يطبّق في الماضي لم يعد في الامكان تطبيقه اليوم في ظل المذهبية والطائفية، بل بتطبيق بدعة ما يسمى "الديموقراطية التوافقية".
وهذا الامر يعيدنا الى الوثيقة السياسية الجديدة لـ"حزب ولاية الفقيه"، التي طرح وفرض فيها المعادلة التالية: إما إلغاء الطائفية السياسية كي يصير في الامكان العودة الى النظام الديموقراطي، وإما إبقاء الطائفية واعتماد "الديموقراطية التوافقية" التي يفرض تطبيقها تشكيل حكومات وفاقية او ائتلافية، وهي حكومات معرّضة للاستقالة في اي وقت لانها تضم متخاصمين وأضداداً لا يجمعهم برنامج عمل واحد مع امتلاكهم الثلث القاتل، كما يعني اشراك المعارضة في الحكومة، الغاء دور مجلس النواب المحاسب والمسائل، لتحوّلها مجلسا نيابيا مصغرا، تنتقل اليه المعارضة عوض ان تقوم بدورها في مجلس النواب وفقا للاصول.
وبذلك تُمنَع الاكثرية من تشكيل حكومة بمفردها تمثل توجهاتها وتنفّذ سياستها التي نالت على اساسها ثقة ناخبيها، ولا تُمَكّن من الحكم الا مع الاقلية التي تفرض شروطها باسم "الشراكة الوطنية"، وهي العبارة المخففة البديلة من "الثلث المعطل". وهذا ما نشهده اليوم، مع فرض الاقلية قسراً مبدأ القيام بحكومة "وحدة وطنية" في وقت لم يكن من حاجة لها، انما كانت تستدعي الظروف ترجمة حقيقية وواقعية لنتائج الانتخابات النيابية يقيام حكومة اكثرية، كما فرضت صيغة 15-10-5 المستقاة من اتفاق الدوحة، الذي تحاول المعارضة استكمال مفاعيله وتكريس اعرافه، ما انتج حكومة معارضة يرئسها زعيم الاكثرية!!
ولعل خطورة ما يسمى بـ"حكومة الوحدة الوطنية" التي جرى تشكيلها في 9/11/2009، تكمن في انها قد تكون جسر عبور للبحث في اسس اقامة "الجمهورية الثالثة"، وذلك اما باعتماد النظام "التوافقي" او اي نظام آخر يناسب الاقلية، من خلال اقتراح تعديلات جذرية على دستور الطائف من شأنها ان تصطدم حتما بممانعة اكثرية اللبنانيين والمسيحيين منهم خصوصا، ما سيجر البلاد الى خطر فتنة داخلية يفرض فيها الاقوى رأيه على الاضعف والرابح على الخاسر، لان التعديلات الدستورية تفرضها موازين القوى الداخلية والخارجية.
ويجد بعض اركان قوى 8 آذار، ان الظرف الحالي مؤات لتغيير النظام والدستور، لان الفئة التي تحمل السلاح هي الاقوى عندما تجلس الى طاولة البحث في ذلك(اتفاق الطائف والدوحة نموذجا)، خصوصا وهي الآن مدعومة من جهات عربية واقليمية تجعلها قادرة على احداث التغيير الذي تريد.
رابعا: ترك لكل فريق حق اختيار وزرائه وحقائبه الوزارية:
بعد فرض الاقلية بدعة الـ"ديموقراطية التوافقية" لكي تحل مكان الديمقراطية البرلمانية (أكثرية تحكم وأقلية تعارض)، التي يُفترض على اساسها ان تحكم البلاد، جاعلة من حكومة "الوفاق الوطني" التي نص عليها اتفاق الطائف لمهمات محدَّدة بعد إقراره، حكومة مفروضة ومحتَّمة في كل زمان، صار اسمها "حكومة الوحدة الوطنية"، عمودها الفقري ثلث معطِّل أو "ضامن"، لا تستقيم "الوحدة الوطنية" بدونه...ثمّة عرف آخر تحاول الاقلية تكريسه، وهو ان يحق للاطراف تسمية وزارائها وتحديد حقائبها الوزارية، اسوة بالرئيس المكلف ورئيس الجمهورية.
وهنا نستذكر مواقف الاكثرية والرئيس سعد الحريري، الذين عبثا حاولوا التصدي لتلك القواعد الانقلابية الجديدة، التي عملت الاقلية على فرضها تمهيدا لجعلها مستقبلا من قبيل الاعراف، وذلك ابتداء من اجتماع نواب الاكثرية في 31 آب2009، الذين اعلنوا عقبه: "ان انفتاح الاكثرية النيابية على فكرة قيام حكومة وحدة وطنية، لا يعطي اي جهة سياسية حق فرض الشروط على رئيس الجمهورية وعلى الرئيس المكلف، باعتبارهما الجهتين الوحيدتين المخولتين وفقاً للدستور الاتفاق على تشكيل الحكومة والتوقيع على مرسوم تشكيلها"... ثم تشديد الرئيس الحريري في كلمة القاها في 2/9/2009 على ضرورة "ان يكون هناك منطق في تشكيل الحكومة"، معلناً ان "الاقلية ليست هي التي تفرض على الاكثرية شروطها (...) فهذا منطق مرفوض بكل صراحة وبكل وضوح وانا لن اقبل به"... وصولا الى تأكيده في خطاب اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة في العاشر من ايلول، أنه لن يقبل "أن تتحول رئاسة الجمهورية أو الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة إلى مجرّد صندوقة بريد نتسلّم من خلالها مراسيم تسمية الوزراء الآتية من الأندية والأروقة السياسية"...
الا ان ما فعله الرئيس سعد الحريري حقيقة في تكليفه الثاني، هو انه ترك لكل فريق ممثلاً برئيسه اختيار وزرائه وتحديد حقائبهم الوزارية! وكان الجنرال عون سبّاقا في هذا المجال، فقد اعلن تفاصيل حصته الوزارية قبل صدورها رسميا عن الرئيس المكلف، وبالتالي اصبحنا نرى المعارضة المسلحة الخاسرة في الاستحقاق النيابي شريكة في التأليف، تختار الحقائب التي لايحق للاكثرية امتلاكها، وكأنها تدفع بها للتنازل عن حجمها، وهذه سابقة لامثيل لها، تمثل افتئاتاً على صلاحيات رئيس الوزراء، ونسفا لأبسط قواعد الديموقراطية.
خامسا: تكريس حصة وزارية لرئيس الجمهورية:
من المخالفات الدستورية التي "شرَّعتها" المعارضة من خلال اتفاق الدوحة، حصول رئيس الجمهورية على ثلاثة أصوات داخل الحكومة، في حين لم يعطه الدستور حق التصويت اصلا داخلها. وقد نجحت المعارضة في اعادة فرض هذه المخالفة في "حكومة الدوحة الثانية"، ما يعني تكريس حصة رئاسية ثابتة داخل الحكومة لم يلحظها اي نص دستوري، انعكست تقليصا في حصة الاطراف المسيحيين في الاكثرية.
وفي "حكومة الدوحة الثانية"، ظلّت حصة رئيس الجمهورية المؤلفة من ثلاثة وزراء على حالها، على الرغم من رفعها صوريا الى خمسة وزراء؛ ذلك، ان اثنين منهما انضما الى حصته على سبيل الوديعة، نظرا لميلهما السياسي الى فريقي الاكثرية والاقلية، وخصوصا الوزير عدنان السيد حسين المدعوم من الثنائي الشيعي والذي يصنف في خانة النخبوية الشيعية المتعاطفة مع خط ما يسمى بـ"المقاومة" وجسمها السياسي؛ وهو من أطلقت عليه بعض أوساط المعارضة تسمية "الوزير الضامن".
ومع ذلك، لا ينبغي تفسير تلك الحصة الرئاسية على انها قوّت من موقع رئيس الجمهورية وزادت من صلاحياته، او استرجعت شيئا من حقوق المسيحيين، لأن الاصوات الثلاثة التي يملكها رئيس الجمهورية لا تؤمّن له حصة كافية للعب دور الحكم وترجيح احدى كفتي الاكثرية او الاقلية على الاخرى، نظرا لعاملين اساسيين:
الاول: استغناء الاكثرية عن الرئيس في حال صوّتت بكامل وزرائها اضافة الى وزير الوديعة في المواضيع التي لاتحتاج الى اكثرية الثلثين، وعدم فعالية اصوات رئيس الجمهورية الثلاثة في المواضيع التي تحتاج اكثرية الثلثين، لأنها وان انضمت الى اصوات الاكثرية تبقى عاجزة عن تأمين النصاب المطلوب.
اما العامل الثاني: فهوعدم سماح الثلث المعطل الذي تملكه الاقلية بعرض اي موضوع خلافي على التصويت، الا اذا كانت نتيجته مضمونة لمصلحتها. هذا، مع الاخذ بعين الاعتبار ان رئيس الجمهورية كان مرشح الاقلية اصلا، وانه ابدى ميله السياسي لها اثناء عملية التشكيل من خلال تبرئته سوريا وايران من الوقوف وراء عرقلة تأليف الحكومة، ثم اعلانه عدم ممانعته توزير الراسبين في الانتخابات، مؤكدا انه لن يوقّع الا على "حكومة وحدة وطنية". اضف الى ما تقدّم، المواقف التي اتخذها عندما تكلم على ما يسمى "المقاومة" في عيد الاستقلال وفي العرض العسكري للجيش اللبناني، حين أعلن أن "لبنان يحتفظ بحقه بالمقاومة لتحرير أراضيه، التي ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي، بكافة الوسائل المشروعة والقدرات المتاحة"، متناسيا انه "عندما نتحدّث عن مقاومة فذلك يعني ان كل الشعب اللبناني يجب ان يكون موجوداً فيها"، على حد تعبير الدكتور سمير جعجع في 10/12/2009، الذي لام رئيس الجمهورية على مواقفه تلك، معتبرا انها "منحازة في اتجاه وجه نظر الفريق الآخر".
وبذلك تكون المعارضة قد نجحت في اضعاف هيبة رئاسة الجمهورية بعد السابع من ايار 2008، حين اتت برئيس مكبّل بما يسمى "التوافق"(الذي سبق وبينّا انه يعني انصياع الاكثرية لرأي الاقلية المسلحة)، بحيث لا يستطيع ابداء رأيه بصراحة في اي من المواضيع المتنازع عليها والا اتُهِم بالانحياز والتبعية، نظرا لمنصبه "التوافقي" الذي لا يفرض عليه ان يكون حياديا وحسب، انما يحوله الى مجرّد مدير للجلسات التي يترأسها، كذلك بالنسبة لجلسات طاولة الحوار اللادستورية والمتعدية على جميع المؤسسات، رئيس متخصص برعاية المصالحات، وتنظيم الرحلات والاستقبالات واللقاءات ومختلف الدعوات من غدوات وعشوات، وتسلّم لاوراق اعتماد السفراء، رئيس يبقى عاجزا امام حل الازمات التي تضرب البلاد، ما يجعل موقع الرئاسة الاولى في عزلة، يترنّح بين تهميش و"برستيج".
سادسا: تشريع سلاح الحزب في البيان الوزاري:
ان شرعنة سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى بـ"المقاومة"، بموافقة مجلس الوزراء ومن ثم بموافقة مجلس النواب، وفصله عن سلاح الدولة مع اقامة نوع من الاتفاق او المعاهدة بينهما، على غرار ما حصل في البيان الوزاري حين شَرَّع السلاحُ السلاحَ، اشبه ما تكون بالاتفاق الذي تمّ بين سلاح المنظمات الفلسطينية في لبنان والدولة اللبنانية، وعُرِف بـ"اتفاق القاهرة"، الذي ابرم في 3 تشرين الثاني من العام 1969، وأعطى الشرعية بموافقة مجلسي الوزراء والنواب لوجود وعمل المقاومة الفلسطينية في لبنان، حيث تم الإعتراف بموجبه بالوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية من قبل الدولة اللبنانية، و تم التأكيد على حرية العمل الفدائي انطلاقاً من أراضي لبنان ضمن مبادئ سلامة لبنان وسيادته... الا ان هذه التنظيمات الفلسطينية لم تحترم أحكام الاتفاق، فاعتدت على سلطة الدولة وسيادتها، وما لبث ذلك السلاح ان منح لنفسه حكما ذاتيا على مناطق معيّنة، وبات ابو عمار بفعل سلاحه الحاكم الفعلي للبنان، ما استتبع اشعال حرب لبنانية-فلسطينية دامت سنتين، ثم ولّدت حروباً دامت 15 سنة وصفت بحروب الآخرين على ارض لبنان، ولم تتوقف الا بعد دخول القوات السورية اليه واقرار اتفاق الطائف.
وان ما نشهده اليوم ومنذ سنوات من تعاظم لترسانة "حزب ولاية الفقيه" العسكرية، وسيطرته بقوة سلاحه على مناطق ومساحات شاسعة حوّلها الى مربعات امنية محظورة على الدولة، ثم محاولة اخضاعه الدولة اللبنانية وكافة القوى السياسية المناهضة لسياسته ومشروعه الخارجي... ونجاحه في فرض رأيه في مناسبات عدّة كان آخرها الغاء نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة بكافة تفاصيلها وفقا لارادته، كل ذلك يذكرنا بتجربة المنظمات الفلسطينية، اذ لا شيء يمنع ان يحدث الشيء نفسه بين سلاح "حزب ولاية الفقيه" وسلاح الدولة اذا لم يتم التوصل الى تنسيق وتعاون تامّين بين السلاحين كي لا يصطدم احدهما بالآخر، أو يستعمل احدهما هذا السلاح في غير زمانه او في غير مكانه من دون علم الآخر. وهذا ما يتعذّر حصوله، نظرا لارتباط سلاح الحزب بإيران واوامر قائده الاعلى الولي الفقيه، الذي متى امره بشيء توجّب عليه (وفق عقيدة الحزب) التنفيذ والطاعة.
ومن هنا، ثمة خشية جديّة اذا لم يتم التوصل الى صيغة يسلّم الحزب سلاحه بموجبها الى الدولة تطبيقا لاتفاق الطائف، او على الاقل آلية تنظّم سلاح الحزب وتضبطه بالاتفاق مع السلطة اللبنانية، ثمة خشية جديّة ان يقضي هذا السلاح مع الوقت على الشرعية، وان يتسبّب بحرب داخلية جديدة تكون أشد خطورة من الحرب اللبنانية-الفلسطينية، لانها بين ابناء الشعب الواحد. وعندئذ سيحتاج لبنان الى طائف جديد، والى قوة عربية أو سورية تدخل الاراضي اللبنانية مجدداً لتوقف هذه الحرب، بعد أن يكون قد حل الدمار والخراب في لبنان وهجّر من تبقى من الشباب اللبناني السنّي والمسيحي تحديدا.
ولا مبالغة في هذا الكلام، فلـ"حزب ولاية الفقيه" "مآثر" كثيرة في استعمال سلاحه في الداخل وضد المؤسسة العسكرية، فمن حروب اقليم التفاح، ومشغرة، والضاحية الجنوبية يوم عنونت جريدة "السفير" في أيار 1986: "الضاحية الضحية:" 525 قتيلاً وجريحا بين" أمل" و"حزب الله""، مرورا بقتل بعض الضباط اللبنانيين امثال العقيد سليمان مظلوم عام 1985، والملازم أول جورج شمعون، والعقيد زيادة، والنقيب كاظم درويش الذي اغتيل في ثكنة صور، وحسين مروة، ومهدي عامل، وسهيل طويلة، وداوود داوود، ومحمد فقيه، وحسين سبيتي، وغيرهم، فضلا عن تصفية كوادر لحركة أمل والحزب الشيوعي اللبناني وخطف الرهائن الاجانب...وصولا الى ما نجهل وما قد تكشف عنه المحكمة الدولية، وليس انتهاء بغزوة السابع من ايار الارهابية عام 2008، يوم وجّه الحزب سلاحه الى صدور اللبنانيين في عمليات مسلحة اخذت طابع التطهير المذهبي، واجبر الدولة والحكومة على اثرها على التراجع عن قراراتها، وحادثة اسقاط طوافة النقيب الطيار سامر حنا فوق تلة "سجد" واغتياله في 28/8/2008. فلنا في ذلك خير برهان ودليل على امكانية استخدام ذلك السلاح لمقاومة الدولة بشعبها ومؤسستها العسكرية.
الخلاصة:
الشيء المؤكد اليوم ان اعرافا موروثة من "اتفاق الدوحة" ما عاد في الامكان تجاوزها بعدما اصبحت شرطا ملازما لحماية السلم الاهلي في البلاد. وبذلك يجري تعديل دستور الطائف على دفعات بدينامية السلاح المصلت على الحياة السياسية اللبنانية. وثَمَن محاولة العودة الى دستور الطائف لتحرير المؤسسات، هو التهديد بإشعال الشارع مرة جديدة. وفي خط مواز، يبقى لبنان معلقا على حبال التوافق السعودي-السوري من جهة اولى، والتنابذ العربي-الايراني من جهة ثانية، واللعبة الاميركية-الاسرائيلية التي ترجّح كفة المحور السوري-الايراني على غيره في المنطقة، من جهة ثالثة.
كما بات من المؤكّد اليوم، ان اتفاق الدوحة الذي فرضته أحداث 7 أيار الارهابية، هو النهاية العملية لاتفاق الطائف من دون تعديل للدستور، فمجريات الاحداث تنبئ انه جاء دور الطائفة الشيعية لتمارس ما مارسته الطوائف الاخرى سياسيا فتكون الحقبة المقبلة حقبة: "الشيعية السياسية" بامتياز، بعد حقبة "المارونية السياسية" و"السنية السياسية"، بحيث ان الطائفة المارونية عندما كانت هي الاقوى كانت لها صلاحيات واسعة في الدستور، وعندما اصبحت الطائفة السنية هي الاقوى اخذت بعض هذه الصلاحيات في اتفاق الطائف، وبما ان الطائفة الشيعية تعتبِر انها اصبحت الآن هي الاقوى عددا وعدة، فانها تحاول ان تأخذ لنفسها مزيدا من الصلاحيات بحجة تحقيق التوازن والانصاف بين السلطات الثلاث... مع الاشارة الى ان "المارونية السياسية" لم تكن الحاكمة انما كانت فرنسا ثم بريطانيا ثم اميركا، ولم تكن "السنية السياسية" هي الحاكمة انما كانت الوصاية السورية على لبنان بضوء اخضر اميركي، ولن تكون "الشيعية السياسية" هي الحاكمة اذا ما حصلت على مزيد من الصلاحيات انما دول اخرى مثل سوريا وايران، وبموافقة اميركية كذلك، يعبّر عنها واقع الحال (التعاون الاميركي-الايراني المفضوح)الممتد من افغانستان وباكستان مرورا بايران والعراق وسوريا وفلسطين، وصولا الى لبنان.
واننا إذا أردنا وضع الكلام السياسي التجميلي والترقيعي جانباً، واخترنا مقاربة الواقع اللبناني بصراحة، فسيتّضح لنا أن حقيقة النزاع القائم إنما تتعلق بتقسيم السلطة بين الطوائف المختلفة في لبنان من جهة، وبهويّة لبنان الإجتماعية والثقافية من جهة ثانية، وأي كلام غير ذلك يتنافى مع الصواب.
فاتفاق الطائف وضع حداً للتنازع بين الطوائف على مقاليد الحكم، وأنهى الحرب الأهلية بإقراره صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في كافة المناصب الأساسية في البلاد، بصرف النظر عن الأعداد. وظلّت هذه الصيغة قائمة ومطبّقة، وإن تخللتها خروق قليلة زمن الوصاية وبعدها.
غير أنه مع بروز الزيادة الديموغرافية السريعة في الطائفة الشيعية، التي من شأنها حال استمرارها على وتيرتها التصاعدية، أن تجعل من الشيعة الطائفة الأكبر في لبنان، ونظراً لما رافق هذا العامل الديموغرافي من تعاظم الحجم السياسي والتنظيمي والعسكري لهذه الطائفة، بسبب احتكار تمثيلها ومصادرة قرارها من حزب مسلح له مشروعه وامتداده الإقليمي، كما له ثقافته الخاصة، التي ترفض التعددّية والتنوّع وتجنح نحو الشمولية والإستبداد، وتسيطر على مجتمعها بالتكاليف الشرعية والصبغة الإلهية... بدأ هذا الحزب المحتكِر يشعر بأن صيغة المناصفة في توزيع الحصص الطائفية على مراكز الدولة لم تعد تلائمه، لأنه بات يرى أن حجمه يستحق أكثر من ذلك، ومن هنا أصبح يسعى للإطاحة بالطائف، من خلال تحويل المناصفة إلى مثالثة كمرحلة أوليّة يريد تكريسها من خلال ديمومة تسوية الدوحة(الثلث القاتل)، تمهيداً لمطالبته لاحقاً بالمزيد مع مرور الزمن، خصوصاً وأن العامل الديموغرافي يلعب لصالحه، وسلاحه في ازدياد وتطوّر وأمان؛ وعندها سوف يصبح من أشد المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية، لأنها ستسمح له بالإسحواذ الكامل على الدولة، وهو ما بدأنا نشهده اليوم.
فعندما وصلنا الى جلسات البيان الوزاري، اجتمع وزراء 14 اذار (المسيحيون منهم تحديدا) وتداولوا في ما بينهم وطرحوا رأيهم السيادي داخل الجلسات في ما يتعلق بموضوع سلاح الحزب او "المقاومة" كما يسمّيه حاملوه، مؤكِّدين على حصرية مرجعية الدولة بالنسبة إلى السلاح وإلى قرار الحرب والسلم...فجأة حين وصلت المناقشات عند هذا الحد، انبرى الحزب الايراني ليطرح موضوع ضرورة تشكيل "الهيئة الوطنية العليا لالغاء الطائفية السياسية"، واضعا في الواجهة رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي اكّد في حديث له نشرته صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ 24/11/2009، أنه "ماض في ترجمة دعوته انشاء الهيئة الوطنية العليا لالغاء الطائفية السياسية"، شانًّا هجوما غير مسبوق على منتقدي دعوته إلى إنشاء تلك الهيئة، وأبرزهم البطريرك الماروني نصر الله صفير (الذي دعا الى "الغائها من النفوس اولا قبل النصوص") من دون أن يسمّيه، محذرا من أنه إذا لم تُنشأ الهيئة الآن "فلا أعتقد أن لبنان يستطيع البقاء"، ومعتبرا إلى أن "لبنان الآن أمام عدوين، عدو في الداخل اسمه الطائفية السياسية، وعدو في الخارج اسمه إسرائيل"، منبّها "من يعرقل الأولى في سبيل الثانية"!! هذا مع العلم ان المجلس النيابي الذي "يملكه" بري منذ 18 عاما بقوة الوصاية ومن ثم السلاح، تحوّل إلى مؤسسة شيعية بإمتياز، حيث فيه من اصل 11 مديرا عاما، سبعة شيعة، كما يضم من اصل 550 عنصراً تتشكل منهم شرطة المجلس النيابي، ما فوق الاربعمائة من الطائفة الشيعية.
ولا شك ان طرح مسألة الغاء الطائفية السياسية اليوم، وفي هذا التوقيت تحديدا، غايته الإلتفاف على قضيّة السلاح خارج إطار الدولة، ما يذكّرنا بالتكتيكات التي كان يلجأ إليها السوريون كلّما إرتفع صوت مطالِباً بإنجاز السيادة وتحقيق انسحاب الجيش السوري ومخابراته ووقف التدخل في الشؤون اللبنانية، فكانوا يلجأون الى طرح المعادلة التي تقضي بمقايضة إلغاء الطائفية السياسية في مقابل المطالبة باستعادة سيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر.
واليوم على ما يبدو، بدأ يُحضَّر لمعادلة جديدة يحاصَر من خلالها السياديون المسيحيون وعلى رأسهم البطريرك صفير(الثابت في مواقفه الوطنية التي لا تتبدّل لغايات سياسية او مصلحية)، وذلك على خلفية مواقفهم من موضوع السلاح غير الشرعي، حصار يقوم على معادلة مستلهمة من المعادلة السابقة، مفادها: "لا تريدون اعطاء الشرعية للسلاح خارج الدولة؟ نريد إلغاء الطائفية السياسية". او بصيغة أخرى:" السلاح مقابل تغيير النظام". والحق، ان هذه المعادلة لا تقف عند حدود مقايضة السلاح بتغيير النظام، بل تتعداه لتكرّس امرا واقعا جديدا يقول منظّروه بأن موازين القوى الجديدة على مستوى البلد باتت تفرض "المثالثة" كمخرج للازمات، وان ما تأخذه الطائفة الشيعية بالعراك والصراع اليوم، ينبغي ان تأخذه واقعيا من خلال الدستور والنظام.
ولا يخفى ما ينطوي عليه مطلب الغاء الطائفية السياسية من ابتزاز سياسي، خصوصا وان المسيحيين اصبحوا أقليات، لا سيّما وان الهدف من ذلك المطلب بالتوقيت والظروف التي يطرح فيها ليس وقف التعداد الطائفي، وانما الهدف منه اقصاء الطوائف الأقل عددا عن الساحة السياسية. ما يؤكّد الخشية من ان يكون الغاء الطائفية السياسية مدخلا لمزيد من الطائفية، اي استئثار الطائفة الشيعية بحكم البلاد.
كيف لا، و"حزب ولاية الفقيه" قد طمأن اللبنانيين مسبقا على تنوّع طوائفهم الى نتائج الغاء الطائفية السياسية، وبشّرهم بجو عابق بالوحدة الوطنية والعيش المشترك، من خلال خطاب عاشوراء الذي القاه امينه العام حسن نصر الله في 27/12/2009، وحمل طابعا تخوينيا وتهديديا كالعادة؛ فقد دعا المسيحيين "الى نقاش هادئ في ما بينهم وفي داخلهم حول الخيارات الحالية والمستقبلية والافادة من تجارب الماضي(...)وأن يستعرضوا نتيجة رهان بعضهم على اسرائيل(...)وعلى الادارة الاميركية". و لوّح للمسيحيين المعارضين لسلاحه بمصير مسيحيي العراق قائلا: "اليوم امامنا نموذج، في العراق لم يستطع 150 الف جندي اميركي وقواعد عسكرية وجيش طويل عريض، لم يستطع ان يقدّم الحماية للمسيحيين في العراق، وحتى انهم لا يستطيعون ان يجتمعوا في كنائسهم لاحياء عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، هل تستطيع اميركا ان تقدّم الحماية المنشودة؟ نحن لا نتحدث عن مئة سنة قبل، نحن نتحدث عن هذه الايام". وهو تهديد موجّه بلا شك الى جميع المعترضين على السلاح، وليس فقط المسيحيين.
لذا، وبناء على ما تقدّم، فإن طرح إلغاء الطائفية السياسية وان كان منصوصا عليه في اتفاق الطائف، ليس في وقته المناسب، الذي لن يحين الا مع تطبيق بنود ذلك الاتفاق كاملة ومجتمعة، وفي مقدمتها حلّ الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية المسلحة، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. ذلك ان الاقدام على تلك الخطوة الحساسة اليوم، سيذهب بنا مباشرةً إلى المثالثة، التي ستقضي على المناصفة الاسلامية-المسيحية، وإذا تم ذلك، فستُهيمن الطائفة الشيعية على الطوائف أخرى، خصوصًاً في ظلّ السلاح المنتشر.
ومن الآن وحتى يحين موعد استبدال الطائف بدستور آخر يتلاءم وحجم الحزب الجديد، سيبقى "حزب ولاية الفقيه" المسلّح يلعب دوراً كانت تلعبه الوصاية السورية السابقة، بضبط إيقاع الحركة السياسية اللبنانية على إيقاعه الخاص، المتماشي مع السياسة السورية والايرانية.
ولعل ما سيسهّل على الحزب الايراني نظرياً "طموح" تعديل أو استبدال الطائف، هو وجود حليف مسيحي يستحق ان يكون وكيلا شرعيا في الوسط المسيحي، مثل العماد عون(الذي ابرمت الصفقة معه في باريس كشرط لعودته الى لبنان)، ووجود حليف آخر مفترض هو النائب وليد جنبلاط (درزي)، إذا تم إرضاؤه كفاية للسير بالمشروع القديم-الجديد، هذا فضلا عن بقية الأفرقاء الذين لا يؤمنون بكل تركيبة النظام اللبناني الحالي القائم على اتفاق الطائف.
ولكي ندرك حقيقة ما يطمح اليه الحزب الايراني في لبنان، وان تحالفه مع الجنرال عون ليس طبيعيا ولا عن حُسن نيّة، نظرا لكون العداء معه بالنسبة للحزب كان عداء عقديا دينيا منهجيا وليس سياسيا، حسبنا ان نتذكّر ما قاله امينه العام حسن نصر الله في خطاب حاشد نقلت وقائعه جريدة النهار بتاريخ 6/11/1989، يوم اكّد ان: "لبنان يشهد مشكلة اسمها ميشال عون، وليس صحيحا ان من يرفض اتفاق الطائف هو مع ميشال عون. ان اتفاق الطائف مشكلة لانه يكرّس النظام الطائفي ولا اصلاحات، بل زيادة في عدد النواب، وقد اعطيت صلاحيات لمجلس الوزراء وبقي رئيس الجمهورية القائد الاعلى. ان مشكلتنا في لبنان هي النظام الطائفي الذي سيبقى في ظله الحرمان، والبديل كما قال مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي ان النظام يجب ان يسقط، والناس هم يحدّدون صيغة النظام الجديد. وما نتمناه ان يختار الناس والشعب في لبنان النظام الذي يريدونه بعيدا عن الضغوط ونحن مع حق الشعوب في تقرير مصيرها (...). اما ان ميشال عون مشكلة، فلأنه حالة اسرائيلية صدامية وتدميرية، ولا يرى الا مصالحه الشخصية ومصالح طائفته. فهو النهج الماروني العنصري في الشرقية".
وهذا الكلام يأتي تتمّة لما قاله نصر الله عام 1987 : " لا نؤمن بوطن اسمه لبنان بل نؤمن بالوطن الإسلامي الكبير، لأن لبنان والمنطقة للإسلام والمسلمين، والمنطقة الشرقية وجبيل وكسروان كانت مناطق للمسلمين واتى عليها المسيحيون كغزاة ". ومعلوم ان نصر الله عندما يتحدّث عن "الوطن الاسلامي الكبير" و"المسلمين"، انما يعني الثورة الخمينية في ايران التي يراد تصديرها الى الخارج لكي تعم دول المنطقة، والامامية الاثني عشرية.
                                                                       

                                          الفصل الثامن
           قوى 14 آذار بين الواقع والمرتجى

ان وضع قوى 14 آذار بعد مضي نحو خمسة اعوام على انطلاقتها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تغيّر كثيرا عما كان عليه في السابق، فهي تعاني اليوم من ازمة إدارية وحالة من الارباك والتفكّك، والأسوأ أنها لا تعرف ماذا تقول للجمهور العريض الذي انتظر وينتظر منها الكثير، ولا يقبل بحال من الاحوال ان تصل قواه السياسية إلى هذا الدرك من الشتات الذي يأمل ان يكون مؤقتا.
ويمكن ملاحظة خمسة عوامل اساسية، ساهمت في اضعاف هذه القوى، ووضعتها سياسيا على سكة الموت البطيئ او التفكّك:
العامل الاول: الانقلاب الجنبلاطي في 2 آب 2009 .
العامل الثاني: تسمية النائب سعد الحريري رئيسا للحكومة.
العامل الثالث: العلاقات المتشنّجة مع الكتائب اللبنانية.
العامل الرابع: الانقسام بين السنّة والمسيحيين داخل قوى 14 آذار، على خلفية إدراج موضوع سلاح ما يسمى بـ"المقاومة" في البيان الوزاري.
العامل الخامس: السلاح الميليشيوي الذي يفرض على الاستقلابيين دائما مقابلة الانتصار الشعبي بالفشل السياسي.
وفيما يلي تفصيل يوضح اثر هذه العوامل على القوى الاستقلالية.
العامل الاول: الانقلاب الجنبلاطي في 2 آب 2009
قبل الثاني من آب 2009، التاريخ المفصلي الذي اعلن فيه النائب وليد جنبلاط طلاقه مع قوى 14 آذار مع زعمه البقاء مستقلا في صفوف الاكثرية، كان تجمّع الرابع عشر من آذار يتألف من ثلاث شعبيات اساسية، هي: اكثرية كبيرة من اهل السنة، ونصف المسيحيين، واكثرية طاغية من الدروز، بالإضافة طبعا الى عدد قليل من الشيعة والعلويين الاستقلاليين... ولأن الزعيم الدرزي الذي يحظى يتأييد غالبية ابناء طائفته كان في مقدّمة القادة الاكثر تأثيراً في تلك القوى الاستقلالية، فقد شكّل انسحابه منها واعادة تموضعه على مقربة من قوى 8 آذار الحليفة للمحور السوري-الايراني، ضربة قوية لفريق الرابع عشر من آذار، الذي جُرّد من قسم لا يستهان به من شعبيته في الوسط الدرزي.
لكن، على الرغم من حالة الارباك والضعف التي اصابت الفريق الاستقلالي اثناء معركة تشكيل الحكومة الجديدة، جراء الانقلاب الجنبلاطي، والتي أدّت الى ما ادّت اليه من نتائج كارثية بقيام "حكومة الدوحة الثانية"، ينبغي لفت نظر الجمهور الاستقلالي ومن يهمّه الامر، ان الزعيم الدرزي المنقلب على نفسه وعلى ناخبيه الذين منحوه اصواتهم في الانتخابات الاخيرة لحَمْله مبادئ 14آذار لا سواها، بانسحابه من صفوف قوى "الاستقلال الثاني" لم يستطع سحب الطائفة الدرزية بكاملها معه، فثمة قسم كبير منها ظل متمسكا بثوابت "ثورة الارز"، رافضا نسف سنوات نضاله المشرّف بتسليم عقله وقراره لزعيمه لكي يحرّكه كالعميان، ساعة مع العروبة وساعة مع ايران.
ثم ان رئيس "اللقاء الديموقراطي" وليد جنبلاط، وان كان يملك كتلة نيابية مؤلّفة من احد عشر وزيرا، الا انه لا يستطيع التحكّم الا بأصوات الحزبيين الملتزمين منها، اي نواب الحزب الاشتراكي، وعددهم لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، وهذا ما يفسّر حصره حصته الوزارية بثلاثة من محازبيه، كما انه يدرك تماما ان اقليم الخروب السنّي هو الذي يرجح الانتخابات في الشوف.
ومع ذلك، يبقى للنائب جنبلاط ومحازبيه تأثير لا يمكن تجاهله على الاستحقاقات التي ستواجه قوى 14 آذار والاكثرية، الحكومية والانتخابية منها اكثر من تلك المتعلّقة بمجلس النواب، لا سيّما اذا قرّر الانسحاب صراحة من الاكثرية وصب ثقله في كفّة قوى 8آذار (وهذا امر محتمل خصوصا بعد زيارته المرتقبة الى سوريا)، اذ من شأن ذلك ان يحوّل الاكثرية اقلية، والاقلية اكثرية، ما سيزيد من نكسة التيار الاستقلالي ويحقق اهداف حلفاء سوريا وايران في لبنان.
وكنموذج مصغّر لنتائج خروج الزعيم الدرزي من قوى الاكثرية، يكفينا الرجوع الى نتائج الانتخابات الطالبية في الجامعة اللبنانية الاميركية (حرم بيروت)، التي جرت في 10/12/2009، حين حقق الطلاب الاشتراكيون فوز لائحة المعارضة على لائحة قوى 14 آذار بنتيجة 12-صفر. وقد استدعى ذلك ردا شديد اللهجة من قطاع الشباب في "تيار المستقبل"، الذي اصدر بيانا جاء فيه: "...بعض القوى انقلب على الاهداف الطالبية، وعمل على طعن مسيرتنا من خلال الانتقال الى التحالف الكامل مع القوى الاخرى، مثبتا زيف الادعاء بالاستقلال الذاتي ومتنكرا لتاريخ من النضال والعمل المشترك...".
العامل الثاني: تسمية النائب سعد الحريري رئيسا للحكومة
ساهم وصول زعيم الاكثرية سعد الحريري الى منصب رئاسة الحكومة اللبنانية، في اصابة قوى 14 آذار بمزيد من الضعف والوهن، على عكس ما يتوّهم كثيرون من اللبنانيين الذين ظنوا انهم بتبوّئه ذلك المنصب قد حقّقوا انجازا جديدا لثورتهم الاستقلالية؛ ذلك ان سعد الحريري بحكم منصبه الجديد اصبح عاجزا عن تبنّي طروحات ومواقف فريقه السياسي بصراحة ووضوح داخل الحكومة او خارجها، وهذا ما تجلّى بشكل فج اثناء جلسات اعداد ومناقشة البيان الوزاري، فلم يجرؤ الحريري ووزراؤه على معارضة البند السادس المتعلق بتشريع سلاح ما يسمى بـ"المقاومة"، خلافا لزملائه المسيحيين الذي سجّلوا اعتراضهم بوضوح لكن دون جدوى، نظرا لتأييد الحريري لتلك الفقرة وتصويته معها!!
وبذلك، وتحت شعار "رئيس حكومة كل لبنان وكل اللبنانيين"، الذي رفعه الحريري واكّد عليه غير مرة منذ اعتلائه سدّة الرئاسة الثالثة، جرى تحييد (او شل) الثقل السني في قوى 14 آذار الذي يشكل عمودها الفقري، الذي بانضمامه الى آثار الانقلاب الجنبلاطي، ضاءل فعالية وتأثير قوى الرابع عشر من آذار لتصل الى ادنى مستوى لها منذ انطلاقتها قبل خمسة اعوام.
ومن هنا، ندرك صوابية الاصوات التي ارتفعت بعد انتخابات حزيران 2009، ناصحة النائب سعد الحريري بعدم تبوّؤ منصب رئاسة الحكومة، نظرا لما سيفرضه عليه مركزه الجديد من ادخال تعديلات غير مرغوب بها على خطابه السياسي، فضلا عن زيارة قاسية ومؤلمة لسوريا التي وجّه الى نظامها اتهاما سياسيا باغتيال والده، وذلك في وقت لاتزال "ثورة الارز" فتيّة ومستهدفة، تحتاج لمواقف ورعاية ذلك الزعيم السني الشاب والوحدة السنية-المسيحية بشكل خاص... فكان يفترض بالحريري الابن ان يترفّع عن ذلك المنصب لمصلحة استكمال مسيرة "انتفاضة الاستقلال"، ونهج التحرر من التبعية والوصاية السورية الذي استشهد من اجله والده، تاركا كرسي الرئاسة الثالثة للرئيس فؤاد السنيورة الذي اثبت جدارته بتولّي مهام ذلك المنصب، خصوصا بتصدّيه للمحاولات الانقلابية التي شنّتها سوريا وايران عبر حلفائهما في لبنان.
تبقى الاشارة، الى ان الذين قتلوا الرئيس رفيق الحريري، الذي كان يشكّل عائقا استراتيجيا امام المشروع الايراني والنفوذ السوري، لن يسمحوا لنجله ولا لأي كان بأن يحمل نهجه ويسير عليه من بعده، ولذلك بتنا نرى اليوم الرئيس سعد الحريري على رأس حكومة لا ناقة له فيها ولا جمل، نظرا لكونها حكومة مؤلفة بأدق تفاصيلها وفق مقاييس المعارضة،التي تكبّلها بالثلث المعطل، حتى بيانها الوزاري كان المتحفّظ والمعترض عليه فريق قوى 14آذار بشقه المسيحي فقط!!
العامل الثالث: العلاقات المتشنّجة مع الكتائب اللبنانية
بعد ضربتَي الانقلاب الجنبلاطي وتحييد السنة عبر تولي الرئيس سعد الحريري منصبه الجديد على رأس السلطة التنفيذية، لم يكن ينقص تلك القوى الاستقلالية المتراجعة سياسيا، سوى افتعال المشاكل والخلافات مع الشريك المسيحي داخلها...
لقد وقع الكتائبيون ضحية تسرّع الرئيس المكلف في تقديم تشكيلته الحكومية الى رئيس الجمهورية من جهة اولى، ومن جهة ثانية ضحية التعطيل الذي دام قرابة اربعة اشهر ونصف الشهر، مارسته الاقلية قبل ان تعود وتقرر التسهيل بعدما حصلت على معظم مطالبها وبلغها الضوء الاخضر السوري-الايراني للموافقة على التشكيل، ما جعل الرئيس المكلف في سباق لاهث مع عُقَد اللحظات الاخيرة التي انحصرت في فريق الاكثرية؛ اذ عُلم ان اتفاقا بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال سليمان، قضى ببذل كل الجهود لاعلان الحكومة في مهلة اقصاها مساء الاثنين 9تشرين الثاني 2009.
ففي حين كان اعضاء المكتب السياسي الكتائبي يعقدون اجتماعهم للتأكيد على تمسّكهم بحقيبة التربية في الحكومة الجديدة، ويتلون بيانهم الذي شدد على هذا المطلب واعتبر مجلسهم في حالة انعقاد دائم لمتابعة تطورات عملية التأليف، كان الرئيس المكلف سعد الحريري في القصر الجمهوري يقدّم للرئيس سليمان تشكيلته الوزارية التي اسند فيها اليهم حقيبة الشؤون الاجتماعية عوضا عن التربية، لكي يوقّع عليها ويصدر مراسيم تشكيلها!
وقد ادى هذا التصرّف الذي ينمّ عن سوء تنسيق بين قوى الاكثرية على اقل وصف وتقدير، الى امتعاض وخيبة امل لدى جمهور الكتائب ومن ورائه جمهور ثورة الارز، الامر الذي جعل حزب الكتائب يعتبر ان تجمّع 14 آذار بهيكليته الحالية وطريقة تعاطيه مع الفرص التاريخية والتحديات المختلفة "يترنّح"، و"يفقد تدريجيا وحدته وروحيته امام الرأي العام"، معلنا مقاطعته جلسات الامانة العامة لقوى 14 آذار الى حين تجاوبها مع الخطة الانقاذية التي طرحها، والتي جاء فيها: "حرصا على مسيرة ثورة الأرز، يقترح حزب الكتائب على قيادات وشخصيات تجمع 14 آذار مشروعا يتضمن: أولا تشكيل قيادة عليا مصغرة لـ14 آذار، ثانيا حصر القرارات السياسية بهذه القيادة، وثالثا وضع مشروع إصلاحي للنظام السياسي اللبناني يأخذ بالاعتبار المتغيرات المجتمعية في لبنان ونواقص اتفاق الطائف وثغراته. وبانتظار تنفيذ هذا المشروع الإصلاحي، يبقى حزب الكتائب كما كان دائما حزبا مستقلا ويتصرف على هذا الأساس".
ولاشك ان ما حصل كان سقطة غير مبرّرة للرئيس الحريري ولقوى 14آذار مجتمعة، فقد كان من غير اللائق ان يعامل بهذه الطريقة حزب جسّد عبر مسيرته التاريخية ثوابت حركة 14 آذار قبل ولادتها، ثم شكّل محور ثورة الارز بعد انطلاقتها.
العامل الرابع: الانقسام بين السنة والمسيحيين داخل قوى 14 آذار على خلفية إدراج موضوع سلاح ما يسمى بـ"المقاومة" في البيان الوزاري
سبّبت مسألة إدراج موضوع سلاح "حزب ولاية الفقيه" في البيان الوزاري، انقساماً داخل الحكومة بين وزراء الصف الواحد، تجلى بوضوح مع اعتراض وزراء 14 آذار المسيحيين دون سواهم على البند السادس المتعلّق بالسلاح غير الشرعي، في حين ايّده وزراء السنة دون تحفّظ اسوة بفريق 8آذار، وكأنهم عادوا الى ترديد معزوفة: ان الوجود السوري في لبنان "شرعي وضروري ومؤقت" لكن مع اسقاطها هذه المرة على سلاح الحزب الايراني!! وهذا انقسام خطير، من المحتمل ان ينسحب لاحقا داخل مجلس النواب في مواضيع معيّنة، وضمن الصف الواحد ايضا، وتحديداً داخل قوى 14 آذار.
هذا، وقد اكّد الاصرار على إدراج موضوع سلاح ما سمى "مقاومة" في البيان الوزاري، مرة اخرى، عدم الاخذ بنتائج الانتخابات النيابية. وقد اعاد الانقسام الذي احدثه ادراج ذلك البند بين من هُم مع هذا السلاح بدون شروط ومن هُم معه ولكن بشروط، تكرار الانقسام الذي حصل في الماضي حول السلاح الفلسطيني وسبّب ما سبّبه من خراب ودمار وتقويض لأسس الدولة... وهذا الانقسام الذي اصاب خصوصاً قوى 14 آذار، هو ما تعمل له سوريا بشتى الوسائل، بحيث تقف "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" وبعض مسيحيي هذه القوى في جهة، ويقف البعض الآخر منها في جهة اخرى، فيتكرّس عندئذ الانشقاق بين مسيحيي ومسلمي 14آذار، الذي سيمهّد لاصطفافات جديدة تتحوّل معها قوى 8 آذار اكثرية وقوى 14 آذار اقلية، على غرار ما حصل في موضوع السلاح.
واذا انسحب هذا الانقسام على مواضيع حساسة اخرى مشابهة لموضوع السلاح، بحيث عجز مسلمو 14آذار (نتيجة لمنصب الحريري الجديد) عن مجاراة مسيحيي فريقهم الذين اثبتوا جدارتهم في الثبات على المواقف والمبادئ الاستقلالية على مدى سنوات الوصاية اكثر من الطرف الاسلامي، فذلك يعني نهاية 14آذار، وضرب الوحدة الاسلامية-المسيحية عبر اعادة عزل المسيحيين الاستقلاليين بسبب تخاذل حلفائهم المسلمين او عدم صوابية خيارهم السياسي مجددا كما في السابق، وبالتالي ستكون سوريا قد حقّقت عبر حلفائها في لبنان اهدافها في الاطاحة بالشراكة الاسلامية-المسيحية، بعد قيامها بهجوم سياسي مضاد على من عاداها في هذه القوى بشكل عام، وعلى من كان سبّاقا في المطالبة بالانسحاب السوري من لبنان وانهاء النظام الامني اللبناني-السوري بشكل خاص، الا وهو الكنيسة المارونية ومسيحيو "لقاء قرنة شهوان"، الذين شكّلوا فيما بعد النواة الحقيقية والمحرّك الابرز لقوى 14آذار.
ولا بد من التنبيه في هذا المقام، الى وجود حملة سورية-ايرانية، تهدف الى "ضرب اسفين" بين "القوات اللبنانية" والدكتور سمير جعجع من جهة، وبين الرئيس سعد الحريري و"تيار المستقبل" من جهة اخرى، للاجهاز على 14 آذار بعدما نجح اصحاب السلاح في الاجهاز على كل مفاعيل الانتخابات النيابية. وتحقيقا لهذا الغرض، تدأب بعض الابواق السورية على طرح نظرية ضرورة العودة الى ما قبل 14 آذار يوميا في صحفها، مصوّبة سهام حقدها على "القوات اللبنانية" ومسيحيي 14 آذار بشكل عام، محاولة بشتى الطرق الايقاع بين جناحي القوى الاستقلالية، بغرض انهائها.
فالقوى المضادة لـ"ثورة الارز"، تعلم جيدا ان قوة 14 آذار تكمن بشكل اساسي في الوحدة الوطنية والشراكة الاسلامية- المسيحية التي تجلّت بأبهى صورها في 14آذار 2005، والتي لولاها لما تحقّق شيئ من انجازاتها. فالمسيحيون الذين حملوا السلاح ليقاوموا احتلالا عسكريا واستخباراتيا وسياسيا واداريا سورياً طوال ثلاثة عقود، مستميتين في مناشدة مواطنيهم المسلمين للانحياز اليهم، لم يتمكّنوا وحدهم من تحقيق ما يطالبون به من انسحابات سورية من لبنان بهدف استعادة السيادة والحرية والاستقلال تنفيذا لاتفاق الطائف، رغم تجمّع شخصيات مسيحية بارزة في اطار "لقاء قرنة شهوان"، ورغم صدور اول نداء تاريخي عن بكركي في ايلول عام 2000 يدعو الى ذلك، في مواجهة من يتبنون ويكرّرون يوميا معزوفة: ان وجود القوات السورية في لبنان هو "وجود شرعي وضروري ومؤقت"... لم تؤتِ تلك المقاومة المسيحية ثمارها الا بعدما انضم اليهم الطرف الاسلامي والسني تحديدا باعتماده بعد طول انتظار شعار "لبنان اولا"، الذي كان في الاساس مطلب المسيحيين، وذلك على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، فالتقى الزعماء المسيحيون والمسلمون على موقف واحد وانْ من مواقع متعددة، في اطار "ثورة الارز" و"انتفاضة الاستقلال"، فكان تاريخ 14 آذار موعدا لتاريخ 28 نيسان الذي انسحبت فيه القوات السورية من كل لبنان، فتحقق بذلك استقلال لبنان الثاني.
فالمطلوب اذن العودة بلبنان الى احضان الوصاية السورية، عبر ضرب الشراكة الاسلامية-المسيحية التي اتحدت عام 2005، وهذا امر يجب ان لا يمر ولن يحصل بإذن الله تعالى، فجمهور 14 آذار الذي افشل اهداف غزوة الاشرفية في 5 شباط 2006، لن يسمح بتمرير هذا المشروع بأي شكل من الاشكال، وهذا ما يأمله من جميع القيادات.
العامل الخامس: السلاح الميليشيوي الذي يفرض على الاستقلاليين دائما مقابلة الانتصار الشعبي بالفشل السياسي
قبل انتفاضة 14 آذار، كان البلد كله ثُلثاً معطلاً بأيدي الوصاية السورية وميليشياتها، ممنوعاً عليه التعبير الديموقراطي وبناء مؤسساته الفاعلة؛ لكن بعد اندلاع "ثورة الارز" التي شكّلت معارضة شعبية وسياسية لنظام الوصاية واذنابها، ما لبثت ان نجحت في تحرير لبنان من احتلال دام 30 عاما، اصبح التعطيل الداخلي المزمن يكمن في وجود السلاح بِيَد فريق لا يؤمن بكل تركيبة النظام اللبناني الحالي القائم على اتفاق الطائف.
صحيح ان لهذه الثورة الاستقلالية منجزات تحققت بدماء شهدائها وبنضال قادتها وجمهورها؛ فمِن اخراج الجيش السوري من لبنان، الى اعادة الحرية للقادة المنفيين والمعتقلين، فإنجاز المحكمة الدولية، ونقل العلاقات بين لبنان وسوريا ولو شكليا الى مستوى آخر بعد اقامة العلاقات الديبلوماسية، وصولاً الى تحقيق انتصار ثان للاستقلاليين في الانتخابات النيابية رسّخ خيارات "ثورة الارز"، من دون ان يذهب الى حد اسقاط الخيار اللاإستقلالي الذي استمر قائماً اساساً بفعل امتلاك "حزب ولاية الفقيه" السلاح من خارج الدولة وبحماية قوّة استقطابه للوسط الشعبي الشيعي... الا ان كل هذه المنجزات كانت دون ما طمح اليه جمهور "ثورة الارز" الذي يحاول اقناع نفسه ان تلك المنجزات مثّلت مرحلياً حداً أقصى لم يكن بالامكان تجاوزه.
ثم ان الثابت من جهة اخرى، ان معظم التسويات والاخفاقات التي تمّت حتى الآن، اتت على حساب مسلّمات استقلالية شكلت نقطة الالتقاء بين معظم اللبنانيين في لحظة الانتفاضة على الوصاية السورية عام 2005، تلك المسلّمات التي تنادي بالسيادة والحرية والاستقلال، ومشروع الدولة وحصرية مرجعيتها في قراري السلم والحرب وامتلاك السلاح، والتعددية، وتحييد لبنان عن صراعات المنطقة... مما شكّل ويشكّل تراجعا حتميا لمشروع بناء الدولة، وبالتالي تقدّما حتميا لمشروع استئثار الدويلة.
ولعل الاخفاقات الكثيرة للقوى الاستقلالية التي لا يمكن تجاهلها، تبتدئ من عدم تمكّنها من اسقاط الرئيس اميل لحود الممدّدة ولايته قسرا في الشارع ما بين عامي 2005 و2007، مرورا بعجزها عن الوفاء لجمهورها بالوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسها، سواء ما يتعلق منها بانتخاب رئيس من فريقها بالنصف زائدا واحدا عندما اعتلى الفراغ سدة الرئاسة الاولى من اواخر عام 2007 الى منتصف عام 2008، او فيما خص ممانعتها انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية تحت شعار: "الامر لك في الامن لا في السياسة"، او لناحية رفضها تشكيل حكومة ملغومة بالثلث المعطل... ثم قبولها بذلك كله بعد تسوية الدوحة وتكراره اليوم بعدما فُرِض ذلك الثلث القاتل بشكل مضمر او مموّه في حكومة ما بعد الانتخابات، فضلا عن توزير الراسبين الذي عارضته، واعادة تشريع سلاح الحزب الايراني في البيان الوزاري... وكان الخطأ او الاخفاق الاول في مرحلة ما بعد الانتخابات، اعادة انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب رغم اثباته عدم جدارته بتبوّؤ ذلك المنصب، بعدما حوّل المجلس الى مؤسسة خاصة لطائفته، واقفل ابوابه مدّة عامين تقريبا في وجه نواب الامة، معطِّلا الاستحقاقات الدستورية وعمل الدولة اللبنانية.
وليس سرا، ان ما فرض على القوى الاستقلالية والسيادية تلك التنازلات والاخفاقات والتضحيات، هو الاسلحة الفتاكة التي تمتلكها المعارضة ممثلثة بقائدها "حزب ولاية الفقيه"، سواء ما يتعلق منها بسلاح الغدر، او التكليف الشرعي، او "المال الطاهر"... فتجاه هذه الأسلحة المشهورة في وجه قوى 14آذار، وجدت تلك القوى نفسها عاجزة عن تحقيق الوعود والشعارات الكثيرة التي اطلقتها اثناء حملتها الانتخابية الاخيرة، ولعلها ادركت انها اخطأت برفعها السقف عاليا لطموحاتها وطروحاتها وتعهّداتها اثناء حملتها الانتخابية، في حين كان يجدر بها مصارحة جمهورها الاستقلالي بأمور خطيرة لا ينبغي اخفاؤها:
1- مصارحته بحقيقة ومدى خطورة الاسلحة التي تشهرها المعارضة في وجهها. وان الدعم الدولي المزعوم لقوى 14 آذار، لايتجاوز التأييد الكلامي المفرّغ من اي مضمون عملي، وهو ما يخدم في مواضع كثيرة جهود المعارضة.
2- واعلامه جهارا ان فوز القوى الاستقلالية في الانتخابات على اهميته البالغة، لن يؤدي بلبنان الى "العبور الى الدولة" على نحو الشعار الذي خاضت على اساسه الانتخابات، بل كل ما في الامر واقصى ما يمكن تحصيله، هو ان ذلك الفوز سوف يؤخّر بعض الشيء مشروع "العبور الى الدويلة" الذي بات الغاؤه شبه مستحيل، بسبب الاشواط الكبيرة التي قطعها منذ زمن موسى الصدر في الستينيات والسبعينيات، وصولا الى تسلّمه من قبل "حزب ولاية الفقيه" الذي يعمل على تحقيقه بخطى جادّة ودعم اقليمي منذ العام 1985.
3- كان ينبغي ايضا مصارحة الجمهور الاستقلالي: ان في لبنان وضعا شاذا كان قبل الانتخابات النيابية وسيستمر بعدها، يكمن في وجود خلل في التوازن الداخلي بين أكثرية عزلاء مستعدة للتضحية والتنازل من اجل لبنان ومن اجْل تمديد واطالة أجَل لبنان، تحت شعار:"لبنان اولا"، واقلية مسلحة مستعدّة لان تضحي بكل شيء من اجل مصالحها ومصالح من يسيّرها على حساب لبنان، ولا فرق عندها ماذا يحل به، بل تهمّها مصالحها اولا ومصالح داعميها وتحقيق اهدافهم في لبنان والمنطقة، ما سيعجّل بأجَل لبنان، تحت شعار: "ايران اولا".
فكم كانت صدمة الجمهور السيادي كبيرة نتيجة للسقف العالي من الالتزامات والشعارات التي تردّدت على مسامعه يوميا على مدى ثلاثة اشهر سبقت موعد السابع من حزيران، عندما وجد القوى الاستقلالية تضطر الى تقديم انتصارها وإرادة الناس الذين محّضوها الثقة وانتخبوها برغم كل شيء، الى الخاسرين، وعندما رآها تتراجع عن بعض برامج عملها الانتخابية، تحت شعار انها "أم الصبي" الحقيقية. وكم كانت خيبة الامل قاسية، عندما وجد الجمهور قادته يقبلون "الثلث المعطل" ويشرّعون السلاح الميليشيوي، او يتخلّون عن بعض الوزارات الأساسية، وعن شعار "الحكومة لتحكم"، مبرّرين ذلك انه من باب "حقن الأزمات".
لقد غاب عن المغالين في التفاؤل بعد انتصار 7 حزيران التاريخي، ان البلاد تواجه للمرة الاولى وضعا شاذا لم تواجهه من قبل، هو قيام تحالف مذهبي احادي القرار ومسلح يضع الاكثرية والمذاهب الاخرى بين خيارين: اما توتير الشارع وتعطيل عمل المؤسسات وإحداث فراغ فيها، بامتناع هذا التحالف عن المشاركة في الانتخابات وفي تشكيل الحكومات، فتصبح عندئذ بزعم ذلك الفرق الانقلابي (بعد اعطائه الفقرة (ياء) من مقدمة الدستور، التي تنفي الشرعية عن اي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، تفسيرا مذهبيا مغلوطا) غير شرعية وغير ميثاقية، ما سيجرّ البلاد الى ازمة نظام تفرض اعادة النظر في دستور الطائف، وذلك اذا ما اصرّت الاكثرية على ممارسة حقها الديموقراطي في حكم البلاد...وإما ان تسلّم الاكثرية بما تريده الاقلية المسلّحة بهذا التحالف، اذا كانت تهمّها "مصلحة الوطن" وحمايته من السقوط في الفوضى وفي المجهول... وبناء على هذه المعادلة، تمادت القوى التعطيلية في فرض شروطها على قوى الاستقلال، لانها تعلم ان الخطر عندما يصل الى حد تهديد الكيان والهوية والنظام والسلم الاهلي...فإن الاكثرية سوف تتراجع عن مواقفها وتتنازل... والدليل على ذلك ما حصل منذ عام 2005 الى اليوم. هذا، مع العلم ان كثيرين من الجمهور الاستقلالي، يفضّلون استكمال المواجهة المشرّفة على كلفتها الباهظة وان انتهت بانهزام، بدلا التنازل المخزي مع العيش باستقرار ممزوج بذل واستسلام.
ومع ذلك، فإننا إذا سلّمنا ان ما فرض ذلك كله هو السلاح الميليشيوي الذي يشكل خطرا على النظام، فبالتأكيد لا يمكن تحميله مسؤولية ما حصل مع الكتائب في تشكيل الحكومة الجديدة، كما لا دخل له بتلك البلبلة داخل الفريق الواحد المتزايدة منذ فترة، وان كان ذلك السلاح قد نجح في اخضاع النائب وليد جنبلاط للواقع السياسي الجديد بعد حوادث 7ايار الارهابية في بيروت والجبل، وفصله بطريقة او بأخرى عن قوى 14 آذار، وان ادعى بقاءه في الاكثرية.
هذا الواقع الذي يدعو الى الاسى على ما وصلت اليه قوى 14آذار، يدفعنا الى طرح اسئلة صريحة تعكس قلق الجمهور السيادي على مستقبل حركته السياسية: هل ستبقى 14 آذار موحدة بمسلميها ومسيحييها وفاء لقضيّتها والتزاما بقسم جماهيرها الشهير مع جبران تويني، ام سنشهد انكفاء للطرف الاسلامي وثباتا من الطرف المسيحي؟! ثم، هل سيتم تنظيم تظاهرة او تجمّع شعبي في 14 شباط هذا العام (عام 2010)، في الذكرى السنوية الخامسة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري واندلاع "ثورة الأرز"؟ ام بحجة الحفاظ على اجواء الاستقرار في البلاد، سيتم الاقتصار هذا العام على وفود شعبية تزور الضريح، حفاظا على ماء الوجه وخوفا من الانكشاف الشعبي بعد الانقلاب الجنبلاطي، والتململ الجماهيري بسبب التراخي الذي يبقى لدى كثيرين غير مبرّر، خصوصا لناحية طريقة التعامل حيال المعارضة، التي كان يُتوقع أن تكون اكثر صرامة وأن تتم مفاوضتها من موقع قوّة لا من موقع ضعف؟ واذا كان مِن تظاهرة هذا العام، فعلى اي مبادئ سيتحدث القادة؟! أعن الثلث المدمر الذي اعطوه؟! ام عن السلاح الميليشيوي الذي شرّعوه؟! ام عن تغيُّر لهجة بعضهم تجاه النظام السوري؟! ام عن خلافاتهم غير المبرّرة كالتي احدثتها المعاملة السيّئة للكتائب اثناء تشكيل الحكومة، والانقسام المعيب حول السلاح الميليشيوي؟!
ومن هنا، ندرك اهمية الخطوة التي اقدمت عليها "الكتائب اللبنانية"، بطرحها مشروعا اصلاحيا لتجمع 14 آذار، يمثل فرصة انقاذية في مرحلة غاية في الدقة من تاريخ لبنان ومسيرة "ثورة الارز"، تلك الثورة التي جسدت انتفاضة شعب خرج من "سجنه الكبير" الى رحاب وطن يناضل من أجل حريته وسيادته واستقلاله... وذلك في محاولة من الكتائبيين لإعادة "شد عصب" ثورة الارز وجمهورها، والمحافظة على حقيقة روحية تلك الثورة التي يجب ان تبقى راسخة وعابرة لحواجز الطائفية والحزبية.
فاليوم، بات التقدّم بأي مشروع اصلاحي حاجة ملحة، بعدما خسرت الاكثرية النيابية فرصة تطبيق الديموقراطية في لبنان، ولم تحسن استثمار الربح الذي منحها اياه الشعب اللبناني في الانتخابات، بالتزامها للمرة الثانية باتفاق الدوحة و"دَوْحَنَتها" دستور الطائف من خلال الاصرار على التوافق في عملية تشكيل الحكومة (وهو التوافق عينه الذي فُرض عليها في انتخاب رئيس للجمهورية ولمجلس النواب)، واعتمادها صيغة 15-10-5 التي استعمل السلاح لفرضها وكخلفية لفرض توزير الراسبين، ثم شرعنتها السلاح الايراني في البيان الوزاري، ما نسف قيمة الانتخابات، واطاح بنتائجها، وبدّد انتصار 7 حزيران، حيث باتت سلطة السلاح هي التي تفرض الأمور كلها، وعاد لبنان يُحكم من سوريا وايران بالوكالة عبر الثلث المدمر المملوك من حلفائهما...
بعد كل ذلك، لعل الخطوة الانقاذية التصحيحية التي دعت اليها الكتائب اقل ما يمكن تقديمه تجاه "ثورة الارز" والشهداء الذين ضحوا بأنفسهم لبقاء لبنان، والذين تجلت شهادتهم بأبهى حلة لها في انتفاضة الاستقلال عام 2005 وفي ذكرى 14 شباط من كل عام، فمن حقهم علينا أن لا نفرط بشهادتهم ودمائهم، عبر اطلاق مسار جديد يحافظ على ما تبقى من وجه لبنان ونظامه ودستوره المتغير تدريجيا يوما بعد يوم واستحقاقا بعد استحقاق تحت شعار "التوافق" الذي يتناقض والنظام البرلماني الديمقراطي، مسار جديد متجدد بروحية متوقدة كما عهدناها، تعيدنا الى اصالة الحدث التاريخي الذي صنعناه وشهدناه في 14 آذار 2005، روحية تؤكد نبض الشعلة الاستقلالية وتوهّجها في الثبات على المشروع الأساسي، وفي التضامن السياسي المتجرّد عن المصالح الخاصة والفئوية والحزبية والمناطقية، وفي اعتماد العدالة في الحياة السياسية، فلا استئثار ولا استبعاد ولا تهميش لبعضنا البعض، لأن لا انتصار بدون حس المشاركة ومبدأ الشراكة، فالمهم أن ننتصر معاً لنكمل مسيرة بناء الدولة اللبنانية القوية والجامعة والمستقلة عن كل تدخّل أو وجود لقوى خارجية على أراضيها، دولة ذات نظام ديموقراطي حيث إرادة الشعب هي الأعلى وحيث ممثلو الشعب المنتخبون بكل حرية يقرّرون الحرب والسلم، واخيراً دولة سيدة تحصر السلاح بمؤسستها العسكرية وتبسط سلطتها الوحيدة على كامل أراضيها.

                                                                      

                                            كلمة اخيرة وتوصية

ثمة خطّة لزعزعة قوى 14 آذار، لأنها العامل الأساسي لمشروع الدولة؛ فرغم اخفاقاتها الكثيرة، أمّن جمهور 14 آذار أو شعب 14 آذار لقواه السياسية النجاح الكاسح في الانتخابات النيابية الاخيرة، حيث كان الفريق الآخر والنظام السوري على يقين بأنها ستخسر، وإذا بهم يصدمون بنتائج الإنتخابات، التي لو كانوا يعلمون انها ستسفر عن هذا الانتصار التاريخي للخيار الاستقلالي، لما سمحوا بإجرائها في السابع من جزيران الماضي. لذلك، بعد نجاحهم في ضرب مفاعيل الإنتخابات عبر شكل الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري، ها هم يحاولون اليوم التشكيك أو بلبلة الجسم الضامن للبنان بوجهه وكيانه ودستوره وهويته... الذي اسمه 14 آذار.
ولابد عند الحديث عن قوى 14 آذار، أو الحركة الاستقلالية اللبنانية، من التنبيه على انها تتألّف من شقّين متكاملين:
الشق الاول (الظاهر في الواجهة يوميا): هو الجسم السياسي الذي يضم مجموعة من القوى والأحزاب والشخصيات المستقلة، التي قادت "ثورة الارز" وحملت لواءها.
اما الشق الثاني (الذي لايظهر الا عند الاستحقاقت على تنوّعها): فهو حركة الشعب اللبناني التوّاق لبناء الدولة الحرة السيدة المستقلة التي تجمعه -بكل أطيافه وانتماءاته- في الإطار الوطني الواحد... الشعب الذي فجّر انتفاضة الاستقلال في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، من أجل التحرر من الاحتلال السوري وأدواته "اللبنانية" بعد أن عاثوا إرهابًا وفسادًا بالبلاد والعباد طيلة ثلاثة عقود، منهيا بذلك حقبة مريرة من الذل والاهانة.
وبناء على ما تقدّم نقول: لا خوف على تفكّك 14 آذار على الصعيد الشعبي، فلانتفاضة الاستقلال حماتها وحراسها الحقيقيون، وهؤلاء هم شعب 14 آذار: جمهور نوعيّ، طليعيّ، ليس مجرد اعداد وارقام وجحافل سيارة تحرّك بالريمونت كونترول عن بعد وتسيّر بالتكليف الشرعي، وهو نفسه الجمهور الذي ملأ الساحات منذ 14 آذار 2005، وهو يعيد الكرّة كلّ سنة في 14 شباط، جمهور نخبوي آمن ويستمر في التمسّك بلبنان.
أما الجسم السياسي لقوى 14 آذار، فالامور بالنسبة لتماسكه تبقى مفتوحة على جميع الاحتمالات، وان كان لهذه القوى قادتها الحقيقيون الصادقون في نضالهم، الذين لا يبدّلون مواقفهم المبدئية واقتناعاتهم الراسخة، التي تمنعهم من التفريط بمكتسبات تحقّقت بالنضال، والدم، والدموع، والفرح، والتعبير الديموقراطي السلمي، والانتخابات، مهما تبدلت الاحوال وتغيرت الأوضاع الداخلية والخارجية. وبمعنى أوضح، لن يقبل هؤلاء القادة المخلصون بعودة العصر السوري إلى لبنان، ولن يقبلوا تفريطاً بأي ذرّة من مكاسب دفع لبنان والشعب الاستقلالي ثمنها دماً وشهداء، تأكيداً لحقيقة أن شعب لبنان هو أقوى من كل قمع وترهيب واحتلال ووصاية.
والوصول الى اليوم الذي ينتهي فيه دور 14 آذار كحركة سيادية-استقلالية مرهون بتحقّق جميع اهداف ومبادئ هذه الحركة، التي يمكن تلخيصها بالأمور الاساسية التالية: تدعيم أسس الاستقلال السياسي والجغرافي، وانجاز بسط السيادة الكاملة للدولة اللبنانية بقواها العسكرية والأمنية الرسمية على أراضيها كلها، بدءا من مزارع شبعا مع ما يتطلبه ذلك من ترسيم للحدود، مرورا بإنهاء ظاهرة السلاح غير الشرعي، وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، واقفال المعسكرات الفلسطينية الموالية لسوريا في الناعمة وقوسايا وغيرها، وضمان المرجعية الحصرية للدولة اللبنانية على الصعيدين العسكري والسياسي عبر مؤسساتها الدستورية والامنية.
ان حماة 14 آذار الحقيقيين هم ناسها وشعبها المتمسّكون بقيمها، بدليل انهم لم يتخلوا عنها يوما ولم يخذلوها في احلك الظروف واشدها مصيرية، سواء على صعيد التظاهرات او الانتخابات النيابية والنقابية والجامعية... وها هم اليوم على الرغم من حالة التشرذم التي تصيب الجسم السياسي لقواهم، ينجحون في اكتساح اكثرية المقاعد في انتخابات جامعة سيدة اللويزة، وفي الجامعة الأميركية في بيروت، وفي جامعة القديس يوسف، وفي الجامعة اللبنانية الاميركية في جبيل، وفي نقابة محامي الشمال، ونقابة محامي بيروت، ونقابة أطباء أسنان لبنان، ونقابة الصيادلة...
ولكن، ما ينقص ذلك الجمهور السيادي الوفي، هو الترجمة السياسية لكل انجازاته وتضحياته؛ فصحيح اننا استعدنا استقلالنا، واستعدنا حرياتنا، و أجزاء من سيادتنا، الا ان النضال السياسي يجب ان يستمر بهمّة اللبنانيين لإستعادتها كاملة والمحافظة على ما تحقّق، لا ان يبدأ بالتقهقر وهو لا يزال في بداية الطريق.
لا نريد الاستسلام، ولا التسليم لأهل الظُلْمة واعداء الحرية والسيادة والاستقلال، بأنهم نجحوا باغتيال ثورتنا وحلم الشباب باغتيالهم خيرة قادة انتفاضة الاستقلال، وفي مقدمّتهم سمير قصير وجبران تويني وبيار الجميل وغيرهم من الاحرار، الذين آمنوا بأن الديموقراطية لن تزهر حقيقة في لبنان ما لم تزهر في سوريا، وبأن ربيع بيروت لن يكون ما لم يكن ربيع العرب...وان كنا نعترف بفداحة الخسارة التي منيت بها الثورة الفتية بعد اغتيالهم، لأن قيادة الحركة الاستقلالية من بعدهم لم تكن دائماً على قدر التحديات؛ وها هي اليوم متعثرة، ضائعة، مترددة، آخذة في الشتات.
ان جمهور التيار الاستقلالي الذي برهن، في مختلف الاستحقاقات الوطنية، انه متمسّك بثوابته الوطنية بصلابة وعناد، وانه مصمِّم على متابعة مسيرته مهما بلغت المصاعب والتحديات، وانه على العهد باق، يردد قسم جبران الذي لاتزال اصداؤه تسمع في ساحة الحرية، بمزيد من التصميم والعزيمة لمواجهة كل التحديات والمخططات...هذا الجمهور
الذي لا يعرف المساومة ولا الحسابات الصغيرة، ولا الانهزام امام تسلّط القوة، ولا الاحباط امام التحديات...يستحق قيادة تكون على صورته، وهو في امس الحاجة اليوم الى جرعة ايجابية تأتي من القيادات، التي لا تزال تتصرّف حتى الآن بانهزامية غير مبرّرة.
لذا، من مصلحة قوى 14 آذار المبادرة فورا الى كسر جدار الخوف الذي يعرقل مسيرتها، والدفع في اتجاه اعادة الاعتبار الى "ثورة الارز"، واعادة تفعيل رأيها العام الاستقلالي عن طريق المصارحة والمصالحة، ووضع خطة واضحة المعالم لكيفية التعامل مع الواقع السياسي الجديد في المرحلة المقبلة، مع التعهّد بالعمل على اعادة رصّ الصفوف، والانخراط مجدداً، يدا واحدة، مسلمين ومسيحيين، في المسيرة الوطنية التي سقط على دربها جمع من الشهداء، حفاظا على ما تبقى من وجه لبنان وكيانه ونظامه. على ان يشمل الحوار مختلف قوى 14 آذار السياسية وجمهورها على تنوّعه، من اجل اعادة رسم طريق السيادة التي أضاع بوصلتها البعض، وانقاذ التيار الاستقلالي الذي جسّد تحالف قواه الحزبية والمستقلة اوسع قاعدة شعبية في تاريخ لبنان على قاعدة عابرة للطوائف والاحزاب، من محاولة الاغتيال السياسي والمعنوي التي يتعرّض لها اليوم.

                                                                    
في 10 كانون الاول 2009، قبل ساعة من منتصف الليل، نالت "حكومة الدوحة الثانية" برئاسة سعد الحريري ثقة 121 نائبا من اصل 128 تغيّب منهم خمسة، وذلك بعد ست جلسات لمناقشة البيان الوزاري تحدّث خلالها 66 نائبا، واستغرقت 26 ساعة، ليعطوا في الجلسة المسائية الاخيرة ثقة عدّت سابقة في تاريخ حكومات ما بعد الطائف، ما جعل لبنان شبيها بدول المنطقة، انظمة الحزب الواحد والعائلة الحاكمة، بحصول حكامه على نسبة 99% من التأييد.
وعند الساعة الرابعة الا ربعاً عصر السبت 19/12/2009، من دون دعوة رسمية ولا جدول اعمال صادر عن مجلس الوزراء، وصل الى مطار دمشق الدولي على متن طائرته الخاصة، رئيس وزراء لبنان سعد رفيق الحريري، في زيارة قيل انها رسمية، فرض عليه منصبه القيام بها قبل انجلاء نتائج التحقيقات في قضايا الاغتيالات، "متجاوزا –كما وصفه البعض- مشاعره الخاصة، ووجعه، ووجع اوساطه وشارعه، وربما الشارع اللبناني، من باب وجوب تصحيح العلاقات مع سوريا، وبَحْث المواضيع العالقة، كرئيس حكومة كل لبنان وكل اللبنانيين".
وقد اتت تلك الزيارة التي استمرّت يومين، وسط حفاوة لافتة احاط بها الرئيس السوري ضيفه، الذي فضّل التوجّه الى دمشق برفقة مدير مكتبه فقط بلا وفد رسمي او خاص، بعد نجاح النظام السوري بتجريده من حاشيته واقرب معاونيه، عبر استنابات قضائية ومذكرات توقيف سياسية بامتياز، اصدرها بحقهم القضاء السوري في 7/12/2009، على خلفية قضيةٍ رَفَعَها ضدهم اللواء جميل السيّد في المحاكم السورية... لكن، مع ذلك، عُدَّ ذلك الحدث بمثابة مصالحة تاريخية بين الحريري الابن والقيادة السورية، التي اتهمها الحريري يوما باغتيال والده؛ وهي زيارة (او مصالحة) تمثّل في مطلق الاحوال نكسة لقوى 14 آذار، ونقطة "ذهبية" ثمينة، سجّلها الاسد الابن في مرمى التيار الاستقلالي، في وقت لاتزال تحوم حوله وحول نظامه شبهات كبيرة في التورّط بالجرائم الكثيرة التي شهدها لبنان على مدى سنوات.
وعلى الرغم من الاشارة المهمّة التي اطلقها الحريري باختتامه زيارته بمؤتمر صحافي عقده في مبنى السفارة اللبنانية بدمشق، التي ترمز وتدل على ان العلاقة هي من دولة لدولة...كان لافتا ومقلقا تجاوز الاصول المعتمدة في زيارات رؤساء الحكومات، الذي تمثّل بعدم اصطحاب الحريري معه وفدا وزاريا وجدول اعمال رسمي، ما ناقض منطق التعامل من دولة الى دولة، وأزعج الجمهور الاستقلالي ازعاجا شديدا وخيَّب آماله، لانه لم يجد تبريرات مقنعة للطريقة التي تمّت بها الزيارة، فقد كان ينتظر زيارة ذات طابع رسمي شديد، يعكس الندية التي يجب ان تحكم العلاقة بين البلدين لاعادتها الى سكّتها الصحيحة، خصوصا بعد المآسي والارهاب الذي عانى منه الشعب البناني، والانجازات الكثيرة التي تحقّقت في السنوات الخمس الماضية على صعيد استعادة لبنان حرية قراره.
اضف الى ذلك، الشكوك التي اثيرت حول مغزى الحميمية الشخصية وتغليب الطابع الخاص، اللذين حرص عليهما الرئيس السوري في استقبال الحريري، مما يوحي بإمكان توظيف سوريا هذا الطابع في اعادة فرض انماط قديمة على تعاملها مع لبنان، سيّما ان العلاقات الديبلوماسية بين البلدين ظلّت شكلية ولم تحتل مكانها المطلوب على نحو صحيح، خصوصا من جهة دمشق. فحِرص سوريا على ان لا تتّسم تلك الزيارة بطابع رسمي، اوحى بأنها تريد وضعها في خانة الزيارات التي شهدتها الايام والاشهر السابقة لافرقاء لبنانيين من دون صفة رسمية، بل انطلاقا من علاقة شخصية ثنائية، ما ينذر بإعادة انتاج العلاقات التي سادت منذ عام 1992، بحيث تستكمل سوريا ما درجت عليه من تجاوز المؤسسات لمصلحة علاقات ثنائية مع مسؤوليين لبنانيين،حتى مع مَن تعلم انهم يرفضون السير في فَلَكها، فتوظّفها وفق مصالحها، بحيث تقوّيهم احيانا وتقوّضهم احيانا اخرى بواسطة احزاب وشخصيات لبنانية حليفة لها تتحرّك وفق توجيهاتها او بما يتلاءم معها، الامر الذي يخوّل سوريا التدخل في الشؤون البنانية الداخلية والخارجية والضغط على الدولة عندما تشاء لتبقى متحكّمة بقرارها.
من هنا، وتفاديا لوقوع التيار الاستقلالي مجدّدا ضحية خطأ السقوف العالية في الآمال والمواقف التي سرعان ما يتبيّن انها غير قابلة للتطبيق، لا بد عند التعامل مع الملف اللبناني-السوري، ان نأخذ في الحسبان ثلاثة امور:
1- واهم من يظن ان سوريا ستبتعد بسياستها عن ايران وعن حزبها في لبنان، او ان الاسد سيغيّر مجرى نظامه مع لبنان، فيتخذ القرار الاساسي النهائي بتقبّل لبنان فعلاً دولة مستقلة ذات سيادة، متخليا نهائياً عن حلم استعادته واعادة ربطه بسوريا ولو سياسيا على الاقل...وهو الذي لايزال متمسكاً حتى اليوم بـ"معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق" الموقّعة عام 1991، والتي أدت الى انشاء وحدة أمر واقع بين لبنان وسوريا والى تشكيل مجلس اعلى مشترك، يتخذ القرارات الاساسية المتعلّقة بادارة شؤون البلدين.
2-ان العلاقات الطبيعية الكاملة والصحيحة بين سوريا ولبنان، تتطلب من نظام الاسد ان يتخذ قرارات سياسية كبيرة امتنع عن اتخاذها حتى الآن، تعتبر مكمّلة للاعتراف الديبلوماسي بوجود لبنان دولة مستقلة، وهي: الموافقة على الغاء "معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق" و"المجلس الاعلى اللبناني السوري"، واعادة النظر في عدد كبير من الاتفاقات الموقعة بين البلدين خلال سني الهيمنة السورية على لبنان. كما تتطلب العلاقة الصحيحة بين البلدين: ان يحترم نظام الاسد سيادة لبنان وسلطته الشرعية، فيتوقف عن ارسال الاسلحة الى "حزب ولاية الفقيه" وتنظيمات فلسطينية متحالفة معه، كذلك تتطلب ترسيم الحدود نهائياً بين سوريا ولبنان وتكريس لبنانية مزارع شبعا، وكشف مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، وحصر العلاقات بين البلدين في اطار المؤسسات الدستورية بما يكفل عدم التدخّل في الشؤون اللبنانية، والتعاون الكامل مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
3- ان أي لبناني لا يمكنه أن يرفض علاقات طبيعية وندية بين لبنان وسوريا، ولا يمكنه أن يعترض على قمم وزيارات ضمن الاطر الرسمية تفرضها المصالح المشتركة بين البلدين. لكن الصفحة القاتمة السابقة في هذا الملف، التي تعبّر عن تجربة مريرة وتاريخ أسود مع نظام أمني له في ذاكرة اللبنانيين سيرة عاطلة، تفوح منها روائح التسلّط والفساد والهيمنة والاستغلال والاستقواء... تستوجب حذراً كبيراً في كل خطوة يقدم عليها المسؤولون الاستقلاليون، لمقاربة تلك العلاقة. مع التأكيد والتشديد، على اننا نميّز بين النظام السوري وبين الشعب السوري الذي يعاني بقدر ما نحن نعاني من هذا النظام، المسؤول عن فقدان لبنان أبرز قادته، من رؤساء، ورجال دولة، وقادة، ومفكّرين، ورجال دين، ونواب، وصحفيّين.
ومن هذا المنطلق: لا شك ان زيارة الحريري لدمشق تستحق ان توصف بالزيارة المفصلية التي تشكّل بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، الا ان حصولها بعد انتصار كبير (وربما نهائي) لحلفاء المحور السوري-الايراني في لبنان، تمثّل بتشكيل حكومة شرّعت سلاحهم ومنحتهم الثلث القاتل، اضافة الى الطريقة التي تمّت بها الزيارة سواء من الجانب اللبناني او الجانب السوري، مع الاستنابات القضائية التي رافقتها، وكذلك الزيارات غير الرسمية التي سبقتها...كل ذلك يعطينا انطباعا ان المرحلة الجديدة قد لا تكون مرحلة تصحيح شوائب الماضي، وفتح صفحة جديدة تاريخية في العلاقات بين البلدين تقوم على حسن الجوار وعلى التعاون الحقيقي بما يؤمّن المصالح الحيوية المشروعة للبنانيين وللسوريين معاً...بل ظروف الزيارة ومجرياتها تؤشِّر الى اننا مقدمون على مرحلة اعادة احياء فصول الماضي، وعودة النفوذ السوري الى لبنان، الذي سيتكامل مع النفوذ الايراني الموجود اصلا (والاعظم تأثيرا لكونه يملك شعبا وجيشا في لبنان)، لضرب مفاعيل "ثورة الارز"، وانهاء التغيير الكبير الذي تحقق بعد اعوام من المرارة والصراع منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005. 

                                                  عبدو شامي
                                           بيروت: في 1/1/2010

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !