علي الرغم من تلك السنوات الطويلة من خبرة التعامل مع الاسرائيليين من خلال الاحتكاك المباشر سواء في شكله الصراعي والتقابلي عبر العديد من الجولات والمعارك أو في شكله الدبلوماسي من خلال المفاوضات والمؤتمرات والموائد المستديرة فمازلنا في حاجة إلي المزيد من الوقت لفهم تلك العقلية الاسرائيلية التي طابعها المراوغة والمناورة وعدم الصدق وهذا أحد المحددات التي يجب أن نضعها نصب أعيننا عند التعامل مع الكيان الصهيوني إلي جانب بعض المحددات الأخري وهي هنا علي سبيل المثال لا الحصر.. يأتي علي رأس هذه المحددات البعد العقائدي والخلفية الدينية فهي تعد المحور الرئيسي لفهم العديد من التصرفات والممارسات والقرارات الاسرائيلية والتي قد تبدو غريبة بالنسبة لبقية دول العالم والسلوك الطبيعي المألوف بين وحدات النظام الدولي.. إذ ان اسرائيل تعد الدولة الأصولية الوحيدة في العالم التي تسير سياستها وفق مجموعة من النصوص التوراتية قد قامت في مرحلة متقدمة بتحويلها إلي مجموعة من الأهداف السياسية العليا وقد وضعت لها العديد من الآليات للوصول إليها بناء علي ذلك المبدأ الميكافيلي الشهير وهو الغاية تبرر الوسيلة إذ ان ذلك المبدأ قد وجد التطبيق العملي له في نموذج الكيان الصهيوني في تعامله مع العرب والدول الأخري التي تصير بالنسبة لهم بمثابة الأمم وذلك تمييزا لهم عن الشعب اليهودي المختار من قبل الله.. وطالما انه شعب الله المختار فلابد أن تصبح استثناء عن بقية شعوب العالم الأخري التي تعتبر بالنسبة لهم رجساً وانهم لا يجوز لهم الاختلاط بهم أو العيش معهم والسبب هو ان اسرائيل نقصد الشعب اليهودي قد خلق من الدائرة الالهية أما بقية الشعوب الأخري فقد خلقت من الدائرة الشيطانية لذلك ذكر التوراة ان شعب اسرائيل شعب يسكن وحده ومع الشعوب لا يجب أي ان المعايير التي تنطبق علي سائر الشعوب لا ينطبق ولا يجوز تطبيقها بالنسبة للشعب اليهودي لذلك فإن حياة اليهودي أثمن بكثير من حياة أي فرد ينتمي إلي الشعوب الأخري وانه لابد أن يضحي بأية فرد في سبيل الابقاء علي حياة اليهودي ذلك التمييز نراه أيضا يبرز في الناحية العددية حيث يذكر التوراة ان الواحد ويقصد الشخص اليهودي بألف شخص من غير اليهود وان الاثنين يساويان ربوة "10 آلاف" من الأشخاص الذين ينتمون إلي شعوب أخري لذلك فإن من ضمن ما يجري في عملية المبادلات للأسري انه يتم استبدال اليهودي "جلعاد" بألف سجين فلسطيني والمغزي ليس فقط في كثرة اعداد من يعتقلهم الاسرائيليون من الشعب الفلسطيني ولكن ايضا في طبيعة التمييز التي نص عليها التوراة والتي أكدتها القيمة العددية التي ذكرت في النص التوراتي.. لقد استاء البعض من تصريحات نتنياهو أمام الكنيست بمناسبة الذكري ال 15 لاغتيال اسحق رابين حيث قال ليس مع الدولة الفلسطينية بالمعني الذي يريده الفلسطنيون وانه لا يوافق علي العودة لحدود "67" فنتنياهو يعبر ليس فقط عن وجهة النظر الخاصة باليمين الاسرائيلي المتطرف ولكن في هذه الحالة فهو يعبر عن وجهة النظر الاسرائيلية بمختلف الاطياف والتيارات والانتماءات السياسية التي لا تريد بالفعل قيام دولة فلسطينية مستقلة حتي وان اختلفت طرق وسبل التعبير عن ذلك ما بين الصراحة والمباشرية التي تصل إلي حد الوقاحة مثلما هو الحال في تصريحات نتنياهو أحد الصقور وما بين تصريحات حزب العمل والحمائم.. بمناسبة هذه الذكري اثيرت قصة طريفة لها مغزي عميق قد لا يتسع المجال هنا للابحار فيه وذلك عندما أعاد شيمون بيريز طرح خطة إقامة دولة فلسطينية بالكيفية التي طرحها بها صاحب الفكرة أو المقترح وهو زيفي وزير السياحة الاسرائيلي الذي تم اغتياله علي يد أحد الفلسطينيين وان ذلك المقترح هو عبارة عن أربع صفحات موجودة في أرشيف وزارة الخارجية الاسرائيلية ويقال انه قد تقدم بذلك المقترح في أعقاب حرب الأيام الستة ولم يلاق أية قبول بل قد اعتبره الاسرائيليون وقتها إحدي الخطوات التي من شأنها أن تفرق اسرائيل وقد كان مسمي هذه الدولة هو الاسماعيلية وذلك نسبة إلي سيدنا اسماعيل أخو سيدنا اسحق وهنا نري مرة أخري الخلفية العقائدية تبرز في الفكر الاسرائيلي الذي قد يراه البعض بالمعتدل ولكنه لم يكن يريد دولة بالمعني المتعارف عليه في القانون الدولي وهو يقوم علي ثلاثة أركان أساسية وهي الشعب والاقليم. الأرض والسلطة السياسية والأرض قد احتلتها اسرائيل وهي لا تريد أن تعطي فيها موضعا للفلسطينيين والشعب قد تم تصفيته أي معظمه ومازالت عملية التصفية مستمرة والسلطة السياسية بالنسبة لها هي مجرد سلطة إدارية والدولة التي في مخيلة اسرائيل هي مجرد وحدة حكم ذاتي.. لقد كان الدافع وراء مقترح زيفي الذي كان يلقبه الاسرائيليون بغاندي هو أن يتجنب زيادة الكره من جانب الشعب الفلسطيني للاسرائيليين عندما يكون في ظل الاحتلال الاسرائيلي وهو قد رأي أيضا ان الوقت - أي بعد حرب الأيام الستة - مناسب قبل أن يلتفت المجتمع الدولي إلي حقيقة الوضع بالنسبة لاسرائيل وهو الاحتلال وامكانية التعرض للضغوط الدولية ولعل ذلك المقترح وهو دولة اسماعيل قد قصد به أن يحدث نوع من التقريب ما بين الدولة اليهودية وذلك بالعودة إلي سيدنا اسحق وبين الدولة الاسماعيلية وليس الفلسطينية بالعودة إلي سيدنا اسماعيل وان ذلك الغرض منه هو التقريب وان كليهما اخوة وأبناء عمومة علي النحو الذي يمكن أن يمتص غضب العالم وفي ذات الوقت يري ان ما يحدث هو أمر وشأن داخلي يخص شعبين متقاربين.. نفس المقترح قد أعاده أولمرت ولكنه لم يلق قبولاً من قبل الصقور.
التعليقات (0)