الدولة الدموية.

       قبل سنتين ونيف، عرفت عدد من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط حراكا شعبيا كبيرا حرك كثيرا من المياه الراكدة، وبدا أنه كان مقدمة لنهاية عقود من الديكتاتورية والإستبداد. لكن ما اعتبر نجاحا للربيع الثوري في دول بعينها، وعلى رأسها مصر، يبدو اليوم سرابا يتقدم نحو المجهول. فالأحداث الأخيرة التي شهدتها أرض الكنانة تنذر بمزيد من الأوقات العصيبة التي تنتظر المصريين، وترهن معها مصير شعوب بأكملها، بالنظر إلى الدور الإستراتيجي لمصر ومكانتها في المنطقة.

    لقد استشعر قسم من المصريين الخطر بعد سنة من حكم الإخوان، وأدركوا أن مكتسبات "ثورتهم" باتت مهددة، وأن رهانهم على المشروع الإسلامي حينما انتصروا في الإنتخابات الأخيرة للشيخ على حساب الجنرال لم يغير من واقعهم شيئا، فقد بدا واضحا أن الحكام الجدد - المفتقدين لرؤية واضحة تمكنهم من مواجهة التحديات الإقتصادية والإجتماعية التي تواجهها البلاد - اختاروا تنفيذ أجندة الجماعة من خلال الإسراع في تفعيل برنامج أخونة مؤسسات الدولة، لذلك تجند المصريون الرافضون لحكم الإخوان للخروج إلى الشارع من جديد يوم 30 يونيو 2013. والتقطت قيادة الجيش تلك الإشارة جيدا، فأنهت نظام المرشد من خلال تدخل عسكري يصفه أنصار مرسي بالإنقلاب، بينما يعتبره معارضوه انتصارا للإرادة الشعبية. وهكذا عادت مصر من جديد إلى مربع الصفر، وانتقل بعد ذلك القلب النابض " للثورة المصرية " من ميدان التحرير إلى ساحة رابعة العدوية - التي أصبحت رمزا للنضال ضد الذين اختطفوا "الشرعية" - إلى أن تدخلت قوات الأمن لفض الإعتصام، فكان ما كان...

    عزل محمد مرسي من منصبه بدا ظاهريا أنه نزول عند الإرادة الشعبية، ذلك أن موجة الرفض العارمة التي واجهت حكم الإخوان كان لها تأثير واضح في مسار الأحداث خلال الشهرين الأخيرين، والذين يدافعون عن الشرعية ينسون ( أو يتناسون) أن الشرعية الإنتخابية لا معنى لها إذا قررت أغلبية الشعب الإنقلاب عليها عبر الاحتجاج في الشارع. لذلك فإن عودة العسكر إلى الواجهة في مصر كان لها ما يبررها على هذا المستوى، لكن تداعيات الإنقلاب (سواء سميناه شعبيا أم عسكريا)، وخصوصا المشهد الدموي الذي لون تفاصيل فض اعتصام رابعة في ما بات يعرف ب"الأربعاء الأسود"، عندما تدخلت قوات الأمن المصرية لإجبار أنصار مرسي على وضع حد لاعتصامهم الذي تواصل لأكثر من أربعين يوما. هذا التدخل الذي لقي تنديدا واسعا لدى صانعي القرار الدولي أثار مزيدا من التخوفات، وأثبت أن الطريق نحو الديموقراطية  في دول المنطقة مازال بعيد المنال، وأن ماحدث في مصر ومعها تونس وليبيا وغيرهما لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالأحداث والوقائع تثبت (على الأقل في الحالة المصرية الأكثر نضجا) أن الربيع الثوري استحال شتاء قاسيا يعيد عجلة التاريخ إلى الخلف، ويبقي على طبائع الإستبداد نفسها بآليات وتبريرات جديدة تتغذى على الهاجس الأمني، وتستغل التسويق الإعلامي المجمل لصورة الدولة العسكرية، لتقنع الشعب المصري بالتطبيع مع خيارات العسكر والتصفيق لها.

    الثورة منعطف يحقق التحول ويتجاوز الماضي، وما يحدث في دول المنطقة ليس منعطفا ولا مرحلة جديدة تقطع مع سابقتها. نحن فقط أمام تطورات (مهمة ومثيرة حقا) تعبر عن وعي اجتماعي بالحاجة إلى التغيير، لكنها لا تؤسس لمسار جديد، لأن الأطراف الفاعلة في ما يجري - وإن كانت متفقة على ضرورة الإنعتاق من الديكتاتورية وتحقيق الكرامة و الحرية الإنسانيتين- مازالت غير قادرة على بلورة نموذج ديموقراطي يحقق هذه الأماني واقعيا بدون وصاية دينية أو عرقية أو إيديولوجية. واختزال الديموقراطية في صناديق الإقتراع وما تفرزها من أغلبية عددية هو أس المشكلة وأصلها. فقد أنتجت صناديق مصر نخبة حاكمة جديدة، لكنها ظلت وفية لعقلية الإستبداد باسم الدين هذه المرة، وعندما عاد الحنين بالمصريين إلى ميدان التحرير من جديد سقط استبداد الإخوان، وعادت المشروعية لاستبداد العسكر ولمحاكم تفتيش الدولة البوليسية.

    إن الحاجة إلى دولة مدنية بمعايير حقوق الإنسان الكونية باتت مسألة ملحة، فلا ديموقراطية بدون دولة مدنية، وإذا طال المخاض المصري وفشل الفرقاء السياسيون في الوصول إلى توافقات تؤسس لمرحلة جديدة، فإن اليأس سيظل جاثما على أنفاس الشعب المصري ومعه كل شعوب المنطقة، وسيتقوى نظام الإستبداد أكثر فأكثر، وسيبقى نموذج الدولة الدموية قائما حتى إشعار آخر. أما الخاسر الأكبر من كل هذا فهو الشعب الذي اكتسب جرأة التمرد، لكنه لم يمتلك أسباب الحفاظ على مكتسبات هذه الجرأة، والمضي بها قدما إلى تحقيق مطلب الحرية والكرامة اللتين ضحى من أجلهما.

    محمد مغوتي. 25 – 08 – 2013.