الدور الخفيّ لأجهزة الإعلام في "العالم الحرّ"
يشغل الإعلام حيزا هاما في ظاهرة الهيمنة الثقافية ؛ ذلك أن وسائل الإعلام مدعوة لمواكبة الاستغلال الاقتصادي والتبعية السياسية (وإضفاء " الشرعية" عليها) وتضليل الشعوب المستغلة (بفتح الغين ) بهدف طمس هويتها لمصلحة الايدولوجيا الاستعمارية ، وفي هذا المقال سأحاول إلقاء المزيد من الأضواء على الدور الذي تلعبه أجهزة الإعلام فيما يسمى ب "العالم الحر" في تكريس الهيمنة الثقافية على شعوب العالم الثالث .
من نافلة القول أن الإعلام ليس ظاهرة فكرية فقط ، بل هو أيضا نشاط اقتصادي يستوجب إعتمادات مالية ، وأيدي عاملة ، ويحتاج إلى مواد أولية (كالورق بالنسبة للصحف والمجلات مثلا ) ولذا فإنه يتمتع بنفس الخصائص التي تتمتع بها الأنشطة الاقتصادية الأخرى في الدول الإمبريالية ، وفي التداخل بين رأس المال المصرفي والصناعي والشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات ، وعالمية الإنتاج والاستهلاك أو بعبارة أوضح تصدير رؤوس الأموال .
فعلى سبيل المثال لا الحصر يساهم بنك تشيز منهاتن Chase Manhattan الذي تملكه أسرة روكفيلر Rockfeller وأحد أكبر المصارف التجارية في الولايات المتحدة ، في معظم مؤسسات صناعة وسائل الاتصال : "جنرال اليكتريك" General Electric، "أي بي أم" IBM ، و"شبكة التلفزيون الأمريكية" ABC .
أما في أوروبا الغربية فيكفي أن نشير الى أن ثلاث مؤسسات مالية ضخمة تسيطر على الإذاعة والتلفزيون وهي "بنك الاعتماد الفرنسي" و "دويتشه بنك" و"البنك التجاري الهولندي" ... إن العلاقة بين المصارف الضخمة والمؤسسات الإعلامية مرتبطة ، إلى حد كبير ، بحجم الاستثمارات في هذا الميدان ، وهذا يفسر بدوره ضخامة حجم المؤسسات المنتجة لوسائل الإعلام .
إن الاحتكار هو السمة الرئيسية للنشاط الإعلامي ؛ ففي مجال الإذاعة والتلفزيون والفيديو تشغل شركة فيليبس Phillips الهولندية المتعددة الجنسيات 480 ألف موظف وعامل ، وجنرال اليكتريك الأمريكية 460 ألفا وشركة “سيمنس” Siemensالألمانية 362 ألفا ، وقد بلغت أرباح شركة جنرال اليكتريك في سنة 2009 وحدها 4,2 بليون دولار .
ولإعطاء فكرة واضحة عن حجم مؤسسات الإعلام الدولية نلاحظ أن " شبكة التلفزيون الأمريكية" (CBS ) تشغل وحدها 43 ألفا بين صحفيين ومحررين وفنيين وإداريين ؛ اما "هيئة الإذاعة البريطانية" ( BBC ) فيزيد عدد موظفيها على 35 ألفا.
وفي مجال الصحافة المكتوبة يحصل الشيء نفسه ، إذ تسطر الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات ، وأصحاب الملايين ، على مجمل الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ... ففي المانيا، على سبيل المثال لا الحصر ، تسيطر شركة " اكسيل شبرينغر" Axel Springerعلى 70 % من المطبوعات ، وفي بريطانيا يملك "إمبراطورالصحافة" اليهودي الاسترالي روبرت مردوخ Robert Murdoch 250 صحيفة ومجلة ، وأكثر من 40 محطة تلفزيونية ، وفي فرنسا تملك أسرة "هارسان" Harcane 22 صحيفة يومية (منها "فيغارو" و"فرانس سوار" ) و28 مجلة و30 صحيفة أسبوعية ، ووكالة إنباء محلية ؛ وفي هولندة يمتلك السيد "جيبر داسن" Geber Dassin 22 صحيفة يومية .
إن الاحتكار في السوق المحلية مرتبط بالسيطرة على السوق العالمية حيث نجد أن 97 %من أجهزة التلفزيون و87 %من أجهزة الراديو و95 %من مصادر الإخبار في دول العالم الثالث مستوردة من "العالم الحر" ، ولا تملك دول الجنوب إلا 5% فقط من إجمالي العقول الالكترونية في العالم ، وبناء على هذه المعطيات يمكننا أن نلاحظ ما يلي :
1 - إن الإعلام ، كنشاط اقتصادي، يساهم في تراكم رؤوس الأموال الغربية ويدُرّ على الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات أرباحا طائلة تساهم دول العالم الثالث بنسبة 70 % منها ... وقد بلغت استثمارات الشركات الأمريكية في العالم الثالث في العام الماضي 8.8 بليون دولار .
2 – تميزت حركة هذا النشاط بالتطور من القلة إلى الكثرة ، ومن البساطة الى التعقيد ، ومن الاستقلالية إلى الترابط ... فالصحافة المكتوبة أصبحت تعتمد على الإعلامية ، وأصبح بإمكان بعض الصحف أن تطبع وتوزع في الوقت نفسه في أماكن متباعدة من الكرة الأرضية . فعلى سبيل المثال تطبع صحيفة "وول ستريت جورنال" Wall Street Journal ، التي تعبر عن آراء رجال المال والإعمال والصناعة ووسطاء البورصة في الولايات المتحدة ، تطبع في نيويورك ولندن وباريس وفرانكفورت وسيئول وسنغافورة وطوكيو وكانبيرا...
وأصبح التلفزيون قادرا على أن يبث أكثر من خمسين برنامجا مختلفا حسب اختيار المشاهد ، ولم يعد يفصل سكان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عن التقاط برامج التلفزيون الأمريكية او الأوروبية إلا موافقة الدول المعنية على البث التلفزيوني المباشر بواسطة الأقمار الصناعية .
3 - إن الاحتكار الذي يميز تكنولوجيا الإعلام والاتصال يمتد إلى مؤسسات إنتاج المواد الإخبارية والثقافية ، أي إلى الخطاب الايديولوجي بصفة عامة. والنقطة الأخيرة تقودنا إلى الحديث عن الجانب الثاني للمشروع الامبريالي في مجال الإعلام ، ألا وهو المضمون ، حيث تقوم دول العالم الثالث بدور المستقبل والمتلقي غير الفاعل لذلك المضمون . وبما أن هذه الدول (باستثناء الهند) لا تملك "الاكتفاء الذاتي" في إنتاج الفكر والثقافة لأسباب عديدة (لا يتسع المجال هنا لذكرها ) فإنها تجد نفسها مرغمة على استيراد الصحف والمجلات ، وبرقيات وكالات الإنباء ، والأفلام والمسلسلات الأجنبية .
إن وكالات الإنباء العالمية هي التي تقرر ما يقرأه او يشاهده المواطن في العالم الثالث ، وهي التي تقرر أيضا ما ينبغي ألا يقرأ ولا يشاهد على الأقل في الوقت المناسب ذلك أنها تلجا إلى أساليب عديدة في توجيه الخبر مثل صياغة العناوين ، وتقديم العناصر الرئيسية في شكل ثانوي ، والتغييب الكلي لبعض العناصر ، بل وحتى التقديم على بعض القضايا ، الى جانب استعمال عبارات معينة مثل "الارهابين " لنعت الثوار والمناضلين المقاتلين من اجل حرية بلادهم واستقلالها ..و"الأقلية" ...و"الأغلبية "... و"التعاون الاقتصادي" الى آخره . ، بيد أنه إذا كان بالإمكان مواجهة الإعلام الامبريالي بإعلام مضاد يعتمد الانتقاء والتعليق ، فان وسائل الدفاع إزاء مضامين الإنتاج الثقافي تبدو محدودة للغاية وذلك للاعتبارات التالية :
1 - إن دول العالم الثالث تستورد حوالي 75 %من الأفلام والبرامج والمسلسلات التلفزيونية ، ففي عام 2005 ، على على سبيل المثال لا الحصر ، استوردت المغرب 1500 شريطا سينمائيا وتلفزيونيا ، واستوردت الجزائر 1300 شريطا ، أما الكويت فاستوردت 900 شريط ، هذا بالطبع بالاضافة الى عشرات المسلسلات الأمريكية التي لا تمت للواقع الاقتصادي والاجتماعي العربي بأي صلة .
2 - من نافلة القول أن هذا الإنتاج ، في غالبيته ، يريد التعبير عن مجموعة من الأفكار والمواقف ، وبالتالي ينطلق من مجموعة من القيم يعمل على توزيعها بأساليب فنية راقية ، وبإبداع على مستوى الشكل والصياغة يجعل المتفرج او المستمع في حالة تقبل وتجاوب .
3 - إن تصنيع الإنتاج الثقافي في الدول الرأسمالية وترويجه جماهيريا يجعل تكاليفه منخفضة نوعا ما ، وبالتالي فان استيراد شريط سنمائي او برنامج تلفزيوني ما يكلف الدولة المستوردة أقل بكثير مما لو فكرت الجهات المحلية فيها بالإنتاج .
وفي ضوء هذه الاعتبارات نفهم كيف تقبل شعوب العالم الثالث على استهلاك أفلام رعاة البقر ومسلسلات "الأصدقاء" و " فريزر" ، وملايين الأشرطة والاسطوانات ، والصور المتحركة ، وكيف تؤثر الإعلانات التجارية ل "مالبورو" و "كوكا كولا" وسراويل "الجينز" في سلوكها الثقافي عبر الاستهلاك ...أليست الإعلانات التجارية هي المحرك الرئيسي في عالم النشاط الاقتصادي ؟
إن الممارسة المزمنة لفنون التوجيه الإعلامي وأساليبه ، وتوظيف بعض مُسلمات علم النفس الاجتماعي ، تؤدي إلى تأثيرات لا دعائية ، ورسم الأطر الفكرية التي يفهم من خلالها المواطن تيار الاحداث العالمية . والتجلي المباشر لهذه الملاحظات هو إننا نواكب بالصورة والتعليق نشاط صانعي القرار السياسي في دول الشمال مما يقربهم إلى نفوس المشاهدين ، او على الأقل يخفض شحنات الغضب والاستنكار إزائهم... فصورة الكنيست الإسرائيلي مثلا في حالة نقاش لا يمكن أن يؤدي الا إلى تكوين انطباع بأن الديمقراطية موجودة فعلا في إسرائيل ، وفي هذه الحالة تغيب الصور والتحقيقات عن المواجهة الباسلة التي يقوم بها الفلسطينيون ، او عن الجرائم النكراء التي يرتكبها العدو في في الوطن المحتل ، أو الثورة الشعبية ضد الطغمة الحاكمة في المكسيك او بناء الاشتراكية في فنزويلا .
ان الدول الامبريالية تُحسِّن باستمرار إستراتيجيتها الإعلامية وذلك عن طريق البحث العلمي والميداني انطلاقا من معاينة الجمهور وتطلعاته وخصائصه الثقافية ... ولذلك ، فليس من الغريب أن نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت في السنوات الخمس الأخيرة بإعداد دراسات ميدانية عن "الصورالنمطية "Stereotypes للولايات المتحدة في أوساط الشباب الهنود ، وعن هوايات الطبقة المتوسطة في أمريكا اللاتينية ، وعن عادات القراءة لدى الشباب اليونانيين ، والهوايات المفضلة للمراهقين الأفغان .
وغني عن البيان أن نتائج مثل هذه الدراسات والأبحاث الأكاديمية الميدانية ، التي تكلف ملايين الدولارات ، يتم توظيفها عمليا في البث الإذاعي والإرسال التلفزيوني ... وليس من قبيل الصدفة أن تخصص الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ، وهي التي تملك 90 % من موجات البث العالمية ، أقساما خاصة للتجمعات السكنية والاقتصادية الهامة في العالم تبث إليها القيم ("الديموقراطية" و"الحرية" التي يمارسها "العالم الحر" . ويؤكد باتريس بارا في مقال نشره مؤخراً في صحيفة "لوموند دبلوماتيك" الفرنسية ، أنه "ليس ثمة موضوعية في ميدان الإعلام" ، فخلف كل خبر "تختبئ إرادة سياسية "... وحتى ألان فان غالبية شعوب العالم الثالث هي "ضحية إرادة سياسية غايتها الهيمنة " ... ولهذا ما دام تحرر الشعوب يعني خلق توازن جديد وأوضاع جديدة فان الإعلام في العالم الثالث هو مسار تحرري لا يمكن عزله عن الروابط الاجتماعية سواء كان فنا او لغة او ثقافة او هوية او شرعية او ايديولوجيا .
إن الإعلام يجب أن يرتبط بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية ووسائل هذه التمنية هي أولا ، وقبل كل شيء ، الإنسان... وما دام المواطن مقموعا بواسطة الإعلام السائد المعتمد على التعتيم والتكرار والخزعبلات ، فان طاقات الخلق لديه تبقى مكبوتة ... إن الإعلام الوطني يجب أن يساعد المواطن على اكتشاف مختلف دوائر محيطه (العائلة ،المؤسسة ،المجتمع ) ومختلف مكوناته وفهم ارتباطات تلك المكونات من اجل العمل على تغيرها نحو الأفضل .
إن قيمة الإعلام ليست مرتبطة اليوم بالسيطرة الاقتصادية وبخدمة الدول الاستعمارية والشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات فحسب ، بل وأيضا بالإستراتيجية العسكرية للدول الكبرى ... ولعل أفضل دليل على ذلك هو الحرب العدوانية التي شنتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد العراق ، ودور الأقمار الصناعية الأمريكية في تحديد مواقع القوات العراقية ، و توجيه القاذفات والبوارج لقصف هذه الأهداف... فالمقدرة العسكرية لكل بلد لم تعد تحسب بعدد الجيوش وكثرة العتاد فقط ، ولكن أيضا بإخضاع رقعة الصراع لوسائل المراقبة الالكترونية وأجهزة الرادار التي تحملها الأقمار الصناعية...
وهكذا يتبين لنا كيف إن الإعلام أصبح عنصرا ضروريا في معادلات الهيمنة للدول الكبرى وركيزة خطيرة في إستراتيجيتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية ، الأمر الذي يطرح بإلحاح على دول العالم الثالث التنبه إلى قيمة الإعلام ، وضرورة استعماله كسلاح من أسلحة التحرر الوطني ، والانعتاق الاجتماعي .
إن أول معالم المشروع الوطني في ميدان الإعلام لا بد وان ينطلق من تصور خاص لمفهوم الإعلام ووظيفته ... ففي الدول الرأسمالية ، وبخاصة في الولايات المتحدة ، يعتمد الاتصال على ترويج "قوالب جاهزة" وتنمية العديد من القيم المرتبطة بمصالح رأس المال ، والى التأثير في سلوك الأفراد والمجتمعات بوسائل الدعاية اللينة والناعمة ، ذلك انه رغم تعدد وسائل الاتصال البشري وتنوع مضامينها فإنها تلتقي عند حد ادنى وهو المحافظة على المصالح الامبريالية ... لذلك فان كل مطالبة بإقامة نظام إعلامي جديد لابد أن تكون متكاملة مع المطالبة بنظام إعلامي دولي جديد ،كنقيض للمشروع الامبريالي .
وبعد ؛
لا يكفي أن نصرح بان 80% من الإخبار العالمية تمر عبر نيويورك ولندن وباريس ، حيث تتم صياغتها وإعادة صياغتها حسب اعتبارات صحفية وسياسية ، ولا أن نشتكي من النقص الكمي والنوعي للإخبار في دول الجنوب ، ولا أن ندعو للحذر من الشعارات ("التدفق الحر للإخبار" ) لأنها تخفي إرادة لمواصلة هيمنة وكالات الإنباء ومحاولاتها الدائمة للسيطرة في غياب تكنولوجيا الجنوب ، بل علينا أن ننتقل من واقعنا الذاتي المتميز بارتباط وسائل الإعلام بالسلطة وأهوائها ، وبحرمان الكثير من الشرائح الاجتماعية من حقها في التعبير وإبداء الرأي . و "على قدر أهل العزم تأتي العزائم."
الدكتور عبدالقادر حسين ياسين - مركز الشرق العربي
التعليقات (0)