كتب الدكتور- نجيب الكيلاني (ترجمة ذاتية) ثرة وافية، أسماها (لمحات من حياتي) أثبت فيها حياته منذ مولده في قرية شرشابة(إحدى قرى محافظة الغربية، حتى خروجه من محنة سجنه السياسي في أوائل الستينيات، وقد نشر عام م الجزءان الأول والثاني، ثم نشر الجزء الثالث عام م (لمحات من حياتي، لنجيب الكيلاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، هـم (الجزءان الأول، والثاني)، والقسم الثالث، نشر دار النشر نفسها، عام هـم، والجزء الأول في صفحة من القطع المتوسط.في الجزء الأول، سجل مراحل الطفولة والصبا ومطلع الشباب، ما بين قريته وقرية (سنباط) حيث تلقى تعليمه في المدرسة الابتدائية، ثم انتقاله إلى (طنطا) عاصمة مصر الثالثة، حيث تلقى تعليمه الثانوي، وبدأت مواهبه الأدبية تتفتح، ويقرض الشعر في المناسبات، وكانت قد ظهرت بوادر موهبته الشعرية في أواخر دراسته الابتدائية. وكانت أولى قصائده بين أيدينا، التي نشرها عام م عن فلسطين، منفعلا بأحداث تلك الفترة، (عندما رأيت أفواج المتطوعين، تجوب شوارع طنطا وهم يرددون هتافاتهم قبل سفرهم للجهاد في أرض فلسطين، وعندما رأيت الصدام المروع بينهم وبين حكام تلك الفترة) (المصدر نفسه،ج، ص)، ويستطرد فيه مسجلا ذكريات كثيرة تتداخل في ذكريات الصبا ومطلع الشباب وفيها تسجيل لمنعطفات حياته في تلك الحقبة، وبعض من تأثر بهم من مدرسيه في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ومن تأثر بهم من الكتاب والأدباء وأعلام الفكر أو من حضر مجالسهم ومناقشاتهم وقرأ كتاباتهم من أمثال العقاد وأحمد أمين وطه حسين، إلى جانب ذكريات سياسية يقفز فيها من ذكرياته حول أصداء السياسة في مدرسته الثانوية، إلى تسجيل الحالة السياسية في مصر، ونجاح الوفد في الانتخابات بعد فترة سقوط حكم (الحزب السعدي)، وهو من حزب الأقلية التي فتحت السجون والمعتقلات، لتزج فيها بالعائدين من الفدائيين الذين كانوا قادة الجهاد ضد اليهود في فلسطين( المرجع السابق، ج، س). ويستطرد إلى الحديث عن تآمر الإنجليز مع الملك السابق (فاروق) في حل الإخوان، إذ حدث اجتماع في قاعدة (فايد) البريطانية، على ساحل قناة السويس، حضره السفراء الثلاثة لبريطانيا وفرنسا وأمريكا، ونجم عن هذا الاجتماع، تقديم النصيحة للحكومة المصرية وللملك فاروق، بحل جماعة الإخوان المسلمين، تحسبا لمخاطر أكيدة، ثم يشرح في هذه الصفحات أحداث تلك الحقبة، وما كانت تغص به من الاضطرابات والفتن، وما حدث من تغييرات في صفوف جماعة الإخوان بعد عهد منشئها ومجيء عهد جديد بتولي واحد من أشهر رجال القانون قيادتها، ثم يقف وقفة عند دور هذا القائد، وتحمله أعتى الأعباء وأشدها هولا، وما كان من صموده لأقسى محاولات القمع، حتى لقد كان بحق (رجل الأقدار). وكانت كل تلك المحن والتجارب الجسام التي تعرض لها في ساحات السجون أو قبل ذلك قد أثبتت أصالته ونفاذ بصيرته، وصلابة إرادته، وأعظم الأمثلة على ذلك كله، حين ثارت الخلافات الهادرة بين أتباعه خلف الأسوار، وانشق عن الجماعة، جماعة التكفير والهجرة (أعلن صيحته العلمية الصادقة المدعمة بالأدلة والبراهين وقال في كتابه الشهير نحن (دعاة لا قضاة) وبذلك الرأي الحاسم، رفض التطرف، ورفض فكرة تكفير المجتمع وهجرته( المرجع نفسه، ص ).وفي الجزء الثاني (يقع في صفحة من القطع المتوسط)، يسرد حياته حين انتقل إلى القاهرة، وسكناه في المدينة الجامعية، بعد حصوله على شهادة التوجيهية (الثانوية العامة) عام م. ويكتب فصلا عن (مأساة الأقلام) الحرة التي كانت ضحية الحملات من جانب الذين نافقوا على عهد عبد الناصر، وما تعرض له الصحفيون والمعلمون والمحامون وغيرهم من عقاب وإرهاب وتطهير، مما عكس أصدق شاهد على الجور والتضليل. ثم يكتب فصلا عن (أشواق قلب) مفعم بالرغبة في التفوق في كلية الطب، والبحث عن المحافل والأندية الأدبية للتزود منها، ويتخلله رصد لذكرياته العاطفية الخاطفة في القرية وفي القاهرة، ثم لا يلبث أن ينتقل إلى الأحداث العامة الصاخبة، ومشاركته في هذه الأحداث، من خلال فصول: اللواء محمد نجيب يتصدر الحركة و(الحل الأول) للإخوان عام م ثم (زيارة وداع إلى القدس) وهو تسجيل لرحلة قام بها مع فريق الجوالة بكلية الطب في صيف م، ونزل مع الفريق شاطئ مدينة (ليماسول) بقبرص، كما زار مدينة (بيروت) و(عمان) و(القدس) حيث شاهد كنيسة (المهد) في (بيت لحم).ثم ينتقل إلى الأحداث الجسيمة التي كانت منعطفا جادا في تاريخ مصر وتاريخ المنطقة العربية كلها، فيكتب فصلا بعنوان (الحادث) وهو محاولة اغتيال عبد الناصر في حي المنشية بمدينة الإسكندرية، في اكتوبر م وما تبع ذلك الحادث من إجراءات الاعتقال والقمع، حتى لقد سادت موجة من الرعب لا مثيل لها في تاريخ مصر، حيث سيق الألوف إلى المعتقلات، وبدأت ممارسات القتل والتعذيب في السجن الحربي وغيره، وأخذت الصحف تنشر صور المتهمين حليقي الرؤوس، وبطريقة يحاول فيها صانعوا(الرتوش) إبرازهم في أشكال مخيفة قبيحة، وتشكلت على الفور (محكمة الشعب) برئاسة جمال سالم قائد الجناح (المرجع السابق نفسه ج، ص ).. ونالت الأحاديث والندوات في وسائل الإعلام من رجال الدعوة الإسلامية في مصر، حتى عم الخوف، وخشي الناس من التردد على المساجد، بل إن بعض الناس أنكروا قرابتهم لمن يتهمون بالانتماء إلى هذه الجماعة، وصاحب ذلك كله، حركة تطهير وعزل في مختلف المؤسسات والدواوين الحكومية، وأحرق الناس ما لديهم من كتب تمت من قريب أو بعيد للفكر الإسلامي، قديمه وحديثه، كما قامت أجهزة الأمن بتمشيط المكتبات ودور النشر والصحف، للتخلص من كل المطبوعات التي لها أدنى صلة بالفكر الإخواني الإسلامي، وقام (علوي حافظ) الضابط المدلل آنذاك، بإحراق المركز العام للإخوان المسلمون، بالحلمية.. كانت محنة، ليس مثلها محنة(المرجع نفسه، ص).ثم يصور اعتقاله لحظة وصوله إلى قريته في سيارة أجرة من(زفتي)، وينقل إلى (التخشيبة) في قسم طنطا، ليحجز مع اللصوص والمجرمين، ثم ينقلونه في حراسة مشددة، إلى السجن الحربي بالعباسية أو البوابة السوداء، حيث حفلة الاستقبال! الاستقبال الدموي بضرب بالسياط على الرؤوس والوجوه، ثم الفصل الأخير عن المحاكمة، وهي محاكمة صورية، بتحقيقات سريعة تنتزع الاعترافات تحت التعذيب الوحشي، وعقدت المحاكمة برئاسة (اللواء صالح حتاته) بتهمة جمع تبرعات لمساعدة أسر المعتقلين في أغسطس م، ويصور أهوال السجن الحربي الذي قضى فيه ما يقرب من ثلاثة أشهر، من أغسطس إلى أواخر أكتوبر من العام نفسه، ثم ترحيله إلى سجن القاهرة(قرة ميدان) ومنه إلى (سجن أسيوط) (المرجع نفسه، ص ).وفي الجزء الثالث في أسلوب أدبي حافل بعناصر الفن الأدبي، من تصوير وشاعرية وعاطفة، يصور الحياة في السجون المصرية، في قره ميدان، وفي (أسيوط) يصور ليالي السجن القاتمة؛ كيف يعاقب من يحكم عليهم (بالتكدير) من المسجونين بالحسب الانفرادي، ويصور نماذج ممن التقى بهم من المذنبين المحكوم عليهم في جرائم، ممن صار بعضهم أصدقاءه، ويسجل نماذج من صمود (نساء مجاهدات)، ممن تحملن أعباء الحياة وشظف العيش وكفالة الأبناء بعد اعتقال أزواجهم أو سجنهم، ثم يقف موقف المحلل لموضوع التنظيم الخاص، وقد ناقش مع إخوانه ملف هذا التنظيم في صراحة ووضوح، وشكلوا لجنة لتقصي الحقائق ومساءلة أعضاء الجهاز المحكوم عليهم، وكشف لنا هذا الفصل عن حقائق داحضة منها أن جمال عبد الناصر وثمانية من أعضاء مجلس قيادة الثورة، كانوا.. جزءا من هذا الجهاز الخاص، أو التنظيم السري أو الجهاز السري كما يحلو للبعض أن يسميه، وظل الجهاز السري الخاص، يعمل بعد ضربة الإخوان في عام م، وكان عبد الناصر، هو المسؤول المباشر، لكنه طور الجهاز وفتح بابه على مصراعيه لنوعيات مختلفة من الضباط، لا صلة لها بالعمل الإسلامي، وكان هو وحده الذي يمسك بخيوط هذا التنظيم، والذي لم يبلغ المائة، إلى أن قامت الثورة..).ثم يكتب عن حادث (طرة) المفجع في يونيو م، الذي سقط فيه واحد وعشرون شهيدا من شباب الإخوان، وينهي هذا القسم الثالث من ترجمته الذاتية، بشعاع من نور يتسلل إليه في غياهب ذلك السجن، حيث بدأ يكتب (رواية الطريق الطويل) التي استوحي أحداثها من واقع قرية مصرية، استجابة لإعلان عن مسابقة تقيمها وزارة الثقافة والإرشاد يقول: ( وقد استطعت بحمد الله إنجاز الرواية في فترة لا تزيد عن ثلاثة أسابيع). وكانت هذه الرواية التي كتبها وهو سجين، مفتتح إنتاجه القصصي (المبني على أسس فنية، إذ أتاحت له الشهرة، بعد أن فازت بالجائزة الأولى، تقدير الأعلام من الأدباء والكتاب، من أمثال طه حسين، ويوسف السباعي، وفتحي رضوان، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ونقل وهو سجين لحضور الاحتفال بتسليم الجائزة من الدكتور طه حسين.ثم ينهي هذا الجزء، بالإفراج عنه إفراجا صحيا، وعودته إلى قريته استقبله حشد هائل من أهلها.وهكذا ينهي الدكتور الكيلاني (ترجمته الذاتية) التي جاءت في صورة مذكرات تختلط فيها الذكريات، سجل فيها حياته منذ نشأته الأولى، إلى فترة نضوجه الأدبي، التي بدأ يكتب فيها أولى أعماله الروائية على أسس فنية، وقد اعتمد في كتابة هذه الترجمة الضافية المسهبة على التذكر، دون أن يصرف عناية كبيرة إلى إثبات أمثلة من يومياته، أو الوثائق المسجلة لنقاط التغير ومراحل التطور على تعاقب حياته، فلم يثبت مثلا أمثلة أو نماذج من رسائل متبادلة بينه وبين الآخرين، أو التواريخ الدقيقة للأحداث التي قام بسردها وتصويرها، عن أسماء الشخصيات التي كانت بينه وبينهم مشاركة، سواء من بيئته الصغيرة من أفراد الأسرة وشخصيات القرية، أو الشخوص الكثيرين الذين التقى بهم في السجن الحربي أو سجن مصر أو سجن القناطر، وغيرهم من صرح بأسمائهم، وسجل انطباعاته عنهم.ولم يكشف عن أمثلة من شعره الذي ذكر أنه كان في ثلاثة دواوين، ج ص ، وإن كان قد نقل إلينا أمثلة منه ( ص ) وقصيدة له في أهوال السجن في (قره ميدان) ج ص وأخرى ج ص .ولذا، فإن ترجمته الذاتية برغم ثرائها، تفتقر إلى مزيد من التوثيق، لأن كاتب الترجمة الذاتية، لا بد أن يكتبها معززة الوثائق، وبالكشف عن الحقائق التاريخية، إلى جانب أنه اعتمد كثيرا على تصوير الوقائع الخارجية، على نحو أكثر من اعتماده، على تصوير واقعة الذاتي.إن الترجمة الذاتية الحقة ليست هي تلك التي تكتب على صورة (مذكرات) يعني فيها صاحبها بتصوير الأحداث التاريخية وتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي، وليست هي المكتوبة على نحو متقطع غير رتيب، في صورة (يوميات)، وليست في آخر الأمر (اعترافات يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لصاحبها، فكل هذه الأشكال، فيها ملامح من الترجمة الذاتية، وليست هي، لأنها تفتقر إلى كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية.لقد بنى هذه الترجمة على التذكر القائم على التزام الحقيقة فيما ينقله من ماضي حياته، والتذكر ليس أمرا سهلا ذلولا، وليس هو عملية آلية يسيرة، قوامها التداعي الحر للمعاني بل هو عملية شديدة التركيب والتعقيد، لأن عملية التذكر، تعني تحويلا إلى الداخل، تعني تغللا متواصلا لكل العناصر من حياتنا الماضية، ولذا فإن الترجمة الذاتية، شكل من أشكال الذاكرة الرمزية، إذا يضفي الإنسان معنى رمزيا على قصة حياته، إلى جانب المعنى التاريخي، ورواية الحقيقة المحضة عن حياة الإنسان أمر بعيد التحقيق، بل هو أمر يكاد يكون مستحيلا، مهما حرص كاتب الترجمة الذاتية أن يلتزم الحقيقية فيما يكتبه عن نفسه.لكن هذه الترجمة توافرت لها ميزات بارزة، أولها، التزامه الصدق الممثل لواقع حياته وحياة أسرته، كالتصريح بأن جده لأمه (الحاج عبد القادر الشافعي) برغم أنه كان من كبار تجار القطن، وكان من وجهاء القرية، فقد زوج بناته الثلاث بسهولة ويسر في أسر متواضعة( لمحات من حياتي، ج ص )، ومن صدقه تصريحه بأن نشأ في أسرة متواضعة، وأنه مجرد ابن رجل فقير يشتغل بالزراعة(لمحات من حياتي، القسم الثالث، ص )، وأنه كان في دراسته بالمرحلة الابتدائية، من قرية (سنباط) المجاورة لقريته، يقتات هو وأترابه وأقرباؤه على (الخبز والجبن والخس الأخضر أو البصل (يحمل كل منهم منديله وعند الفسحة يخرجون من المدرسة، ويفك كل منهم عقدة منديله)، وفي الغالب نخلط الطعام كله، ونأكل سويا.. إن شعورنا بالجوع يجعلنا نلتهم الطعام التهاما برغم تواضعه، كنا كمن يأكل لحما مشويا، نشرب الماء العذب من (طلمبة) المسجد ( المرجع نفسه، ص) إلى آخر الأمثلة التي تعكس صدقه وصراحته وتجرده، حين يصور وقائع حياته، وخاصة تلك الجوانب التي يحاول الكثيرون من كتاب الترجمة الذاتية، أن يخفوها، أو أن ينقلوا ما يخالف الحقيقة عن واقعهم، وما يتصل بالنشأة المتواضعة، والبيئة الفقيرة التي نشأوا فيها.كما أنها ترجمة تكاد تخلو من (تمجيد الذات) وتلك مثلبة غلبت على بعض الكتاب، حين يصورون قدراتهم الخارقة، ومواهبهم العبقرية، فما أكثر ما يتغنون بتلك القدرات والمواهب، إلى حد يخالف الحقيقة، ينبو عن الذوق، ويجفوه المتلقي حين يطالع ما كتبه عن نفسه.على أن الميزة التي تميز بها الدكتور (نجيب الكيلاني) وجعلته صاحب سمات خارقة فذة بين كتاب الترجمة الذاتية، ما نجده في هذه الترجمة من إشارات إلى الدوافع التي كانت وراء كتابته بعض رواياته أو قصصه القصيرة، والأحداث التي انفعل بها، وحركت في نفسه صياغتها في صورة قصصية، ولعل أعظم إفادة لنا في ذلك، ما نجده في الأجزاء التي أكمل بها ترجمته لنفسه، والتي قصرها، على الكشف عن تجاربه الذاتية، ومحاولاته الخاصة، في كتابة الأدب الإسلامي، والقصة الإسلامية، وذلك في كتاب (تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية) ( نشرته دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بمدينة بيروت، سنة م)، وكتاب (حول القصة الإسلامية) ( نشرته مؤسسة الرسالة م، بيروت).فهو يكشف في الأول عن تأثير نشأته في تفجير تجربته القصصية، إذ تأثر بقصص القرآن، وقصص الربابة، والسيرة الشعبية، وقصص الجن والجنيات والعفاريت، ثم قصص الواقع المعاش، وقصص الوعاظ، ثم يصور اتصال أدبه بحياته الواقعية، وبهموم هذا الواقع وعقيدته وأفكاره، فقد بدأ شاعرا حوالي سنة م، ثم انتقل إلى القصة بعد أن حوكم في إحدى القضايا السياسية عام م، وصدر ضده حكم بالسجن عشر سنوات، وارتبط بالأدب القصصي، رأيت أن القصة أنسب لأن أعبر بوضوح وقوة بعيدا عن الفحوص والتهويمات والأحاجي والألغاز، ولهذا غلب على قصصي فيما بعد الطابع السياسي، وامتلأت قصصي الطويلة والقصيرة بأحداث السجون والمعتقلات وما فيها من إهدار للإنسانية والكرامة والحرية، حتى أطلق على النقاد المرموقون بأنني أديب السجون والمعتقلات (تجربتي الذاتية، بيروت، دار بن حزم، ، ، ص )، وصاغ تلك الأحاسيس والهموم والوقائع من خلال رؤية إسلامية.ومن ثم كتب رواياته الإسلامية، فكان من رواد هذا الفن في أدبنا الحديث، ومن كبار المساهمين في تنميته وازدهاره، ولعل أشهر رواياته الإسلامية المعاصرة، ليالي تركستان، عذراء جاكرتا، وكتب قصة (دم لفطير صهيون)، ورايته (عمر يظهر في القدس)، و(رحلة إلى الله)، صور فيها مأساة المتعقلين في السجن الحربي وكان هو واحدا منهم، ومدير السجن الحربي (عطوة الملواني)، وهو يعكس من خلال شخصية (حمزة البسيوني) مدير السجن الحربي آنذاك، وما كان يتسم به من غلظة وقسوة وقدرة على التنكيل بالإنسان.وكذلك شرح دوافعه في روايات (قاتل حمزة) و(اعترافات عبد المتجلي، و(ليل وقضبان) دوافعه حين كتب مجموعاته القصصية، وكان دائما يلح على الطريقة المثلى، حتى تؤدي القصة دورها في نشر الدعوة الإسلامية.وكان في كل ذلك، متميزا بين كتاب الترجمات الذاتية العربية، إذا وقف كثيرا، خاصة في كتابيه الأخيرين، متأملا ذاته مستوحيا مبادئ الإسلام وعقيدته السمحة الغراء، التي تضيء لنا ظلمات الطريق في هذا العصر المترع بالشرور والتقلبات والمبادئ المعادية لروح الإسلام.إن الترجمة الذاتية لنجيب تقف بين ترجماتنا الذاتية العربية، متميزة فذة، إذ ليس لدينا في أدبنا الحديث، إلا قلة من الأعمال الفنية التي رصدت تجارب الحياة المتعددة، لصاحبها، خاصة، تجاربه في الإبداع الأدبي، وأعظم كتابنا المحدثين، لم يتركوا ترجمات ذاتية تعنى العناية التي ننشدها، بتصوير تلك التجارب، وتحليل الدوافع والملابسات التي حفزتهم على كتابة أعمالهم القصصية أو الدرامية، وليس معنى ذلك، أنهم أغفلوا تسجيل تلك التجارب ولم يلتفتوا إلى تحليل الدوافع الكامنة وراءها، أو أنهم أقصوها، ونحوها جانبا. من الحق أن كبار أدبائنا التفتوا إلى تسجيل جانب من تلك التجارب التي استوحوها في رواياتهم أو مسرحياتهم أو أشعارهم، ولكنهم لم يقفوا عند كثير منها، هذه الوقفات المستأنية التي وقفها (نجيب الكيلاني) في ترجمته لنفسه.لقد كتب (توفيق الحكيم) كلا من (سجن العمر) و (زهرة العمر)، عكس فيهما تأملا واعيا عميقا لذاته، ومافعلته الوراثة، وعوامل البيئة المكتسبة في تكوين شخصيته، وما كان لهذه العوامل من تأثير في تركيبته الشخصية، لقد سجل (الحكيم) في (سجن العمر) ما كان للوراثة في تكوينه من تأثير، وحلل تفضيله (الفن الدرامي) وتفوقه فيه على الفن الروائي، وأرجع ذلك إلى تأصل عادة (البخل) في أسرته، ووراثته عن أبيه، فورث البخل الذي دفعه إلى كتابة (الفن الدرامي) الذي يقوم على الشح، إذ أنه من بخيل يكتب المسرحي عمله في حيز محدود، والأحداث مصورة من خلال كلمات محدودة، موجزة، تتمثل في الحوار القائم على الإيجاز الموحي، والعبارة الداخلة، أما (كتابته للفن الروائي (عودة الروح) وعصفور من الشرق، مثلا، فإنه استجاب لطبع أمه التي كانت سخية الكلام، والمال والعواطف وتردد بين الفنين، وغلب الفن البخيل على طبعه.والأمثلة كثيرة عند العقاد في كتابيه (أنا) و(حياة قلم). لكن (ميخائيل نعيمة تميز بين كتاب ترجماتنا الذاتية بتسجيل أمثلة عديدة من إبداعه الشعري والنثري، وإن كان (نجيب الكيلاني) قد تميز بينهم جميعا بأنه قصر حياته الفنية على الإبداع في مجال القصص الإسلامي، ليكون في حياته الأدبية المثل الذي ندعو شباب العرب المبدعين أن يحتذوا سبيله المستنير.نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(-)بتاريخ(هـ)
التعليقات (0)