مواضيع اليوم

الدكتور محمد حموية ـ تحية حب ووفاء

يوسف رشيد

2011-11-13 19:26:39

0

 1 ـ

 

ربما كنتُ الأكثرَ حظا بين أقراني وزملائي ، بأن حظيت بالرباط الأوثق الذي جمعني بأعز أستاذين صديقين في المرحلة الجامعية .. هما : " أبو خلدون د. فؤاد المرعي ، وأبو وائل د. محمد حموية " ..

و " بين الحبيبَين ، ما قلبي بمنقسِم "

ولئن ما زلت أتهيب الخوض في غمار تلك الوشائج ، إلا أنني ـ مدفوعا بالحب والتقدير والوفاء ـ أرى أنه آن موعدي معهما ، لأستجلي صورة أيام وسنوات مضت ، كان لها عميق التأثير الإيجابي عليّ شخصيا ، وعلى مسيرة حياتي العملية فيما بعدها ..

 

ولعل حديثي ـ أولا ـ عن الراحل د . محمد حموية ، ـ رحمه الله ـ سيكون الأصعب والأقسى في استكشاف واستخراج مكنوناتِ الودّ ونشرها وتعميمها ، لأنها " حالة " لا تـُوَصَّفُ ، ولا يُعَبَّرُ عنها ، ولا حتى بحروف العربية التي استوعبت كلَّ شيء ..

لستُ أبالغ ، وليس من قبيل السائد المعروف بـ " تكريم ما بعد الموت " ..

وليس رثاءً فات أوانه منذ زمن ..

وليس من باب " اذكروا محاسن موتاكم " فحسب ..

إنما هي وقفة احترام لحياته ولرحيله ، وتقديرٌ لعطائه ، ووفاءٌ آجلٌ ومستحق ، وعربونُ محبةٍ خالصةٍ ، وفاتحة الكتاب تتلى مزجاةً له أبدًا ، في غيابه الفاجع ، وفي ذكراه الزكية ..

فلقد كان ما كان .. لكن الغياب أولا ، والرحيل ثانيا ، أرخيا سدولاً قاتمة ، حجبَتْ كثيرًا من الرؤى والمباهج .. ولم يعد ينفع الراحلين سوى الرحمةِ والمغفرةِ ، نطلبهما لهم من العلي القدير ، ليبقى سلام أرواحهم آمنا مطمئنا في علياء الملكوت ..

فـ أبو وائل الإنسان ، ضميمة من ريحان ونور ، وكينونة متفردة ، ذات خصوصية وبهاء ..

لا يشبهه أحدٌ في حلمه ووقاره واتزانه ..

ولا يشبه أحدًا في أناته ورويته وهدوئه ..

اعتاد عليه الصبر الجميل ، فتآلفا كعصفورين في قفص ..

واكتسب من الفارسية ـ التي عَجَمَت لسانه وقلبَه ولم تستحكم بهما ـ طقوسَ الفرح الحزين ، والحزن الغامر ، وذاق طعم السكينة ، ونهل منها حتى الارتواء ..

وبقيت " فوضاه " أقنوما طاغيا عصيّا على التغير .. فما بالك بالزوال ؟! ..

هو مزيج من حضارات شرقية عاش بداياتها على ضفاف الفرات قبل " التشرّق " ، واستكملها بعده ، فسكنت فيه بكل ألوانها وأوجاعها ، وتلازمَا وتساكنا " سُكنى اللون في العلم " الشامي الأصيل ..

ومنذ أن يَمَّم وجهَه للغوص في الآداب شرقا ، ظل الغرب غاربا في مرآته ، ثم رماه وراء خط أفق غروبِ المتوسط ، وظل نَفورا منه ، حتى إذا ما تماسّا لضرورة ، جدّد وضوءَه قبل التوجّه إلى محراب العبادة ..

 

2 ـ

 

 لم أعد أذكر كيف التقينا ، وتصادقنا ، وتحاببنا ، وتعاشرنا ، في لحظةٍ واحدةٍ ، من يوم واحدٍ ، نسيَ التاريخُ ما قبله ، وقفز الحاضرُ نحو غدٍ آتٍ كأنه البراق ..

ولا أذكر كيف تجمَّعَتْ على أبواب الأفئدة كلُّ تلك المحبة والنقاء .. فكأننا كذلك مذ خلقنا ، أو ربما بُعيد البداية ببرهة امتدت اثنين وعشرين عاما ، فانشطر العمر لها شطرين ..

قبل البداية كانت أعداد السنين ضحلة ، وبعدها صارت الأيام ماردا ..

كيف تكوّنتْ ، ولماذا ؟ وأين ؟ ومتى ؟ ..

لا أعرف .. ولا أذكر ..

كل ما أعرفه : أنها وُلِدَت بكاااااامل كمال هيئتها ورونقها وزخرفها .. وازّيّنتْ بكل ما يملأ ربيع الكون ..

كانت ولادتها طبيعية ، وليست قيصرية ..

كانت خِلقة ربانية ، وليست صَنعة ..

كانت جبلـّتُها لحمًا حيا ، وعظمًا صلبًا ، ودمًا قانيا حارًا ..

اكتسبتْ من البراءة طهرًا ، وكساها الصدقُ ألفة ومحبة ، فتنزهَتْ عن كل المدنِّساتِ والموبقات والشكليات المزيَّفة ..

لذاك كله ، كان أبو وائل يؤثر أن يخاطبني بـ " كنيتي " مودة ولطفا وتواضعا .. وأخاطبه بـ " كنيته " تحببا وتهيبا واحتراما ..

كيف لا ، وقد حدث ذات يوم ، أني قصدت مكتبه بعد أدائي امتحان مادة له ، فوجدت عنده طالبا " vip " هو أعلى مسؤول سياسي في حلب ـ وكنت التقيته عرضا في أماكن أخرى أكثر من مرة ـ ، فأردت الانسحاب لظني بوجود حديث خاص ، لكن أبا وائل أصر عليّ ألا أغادر ، ونهض يستقبلني بحفاوةٍ أربكتني ، مما دفع بضيفه أن يحذو حذوه ، وقدمني له على أني : صديق عزيز .. مضيفا : تفضل اجلس يا أبا نضال " نتقهون " معا .. 

 

3 ـ

 

 وإذ تعتريكَ الهيبة من بلوغك أقاصي أسيجة الحِمى ، فكيف السبيل لدخولكَ العرين ؟!

إني ما زلت أتهيَّب عرينكَ أيها الراحل العزيز ، الحاضر الحاضر ..

أ أغبطك على حياتك ، وكانت كدّا وكدحًا وعطاء ؟!

أم على رحيلك ، وكان قاسيا وصعبا وفاجعا ؟!

أ تغبطنا على حياتنا المديدة " الأليمة " بعدك ؟!

أم نغبطك على رحيلك عنا قبل بلوغ شمسك رابعة نهاراتنا المظلمة ؟!

أ نفرَحُ بتطاول أيامنا بعدكَ حتى التلاشي في مستنقعات الأسن والأوبئة ؟!

أم نشمَتُ بعجز الموت عن اللحاق والإمساك بنا من تلابيبنا التي تكاد تمزقها ريحٌ هوجاء ، ما عرفناها ولا ألِفناها ولا تآلفنا معها ؟!

ولأني أعرف أصالتك ـ أبا وائل ـ ونبلكَ ، فقد رأيتُ ، ولمستً ما لم يرَه كثيرون ..

وأشهد أني رأيتكَ غيرَ آبهٍ لما تمسَّكنا ونتمسك نحن به حتى حدود الفناء ..

ورأيتك لم تتشبث بما آثرنا الاهتمامَ به والركوضَ وراءه ، أحلاما مشروعة كانت ، أو خيالا أو سرابا ..

فيا أيها الظاعن عن فضاءاتنا وأنوائنا ودموعنا الحزينة !!

ويا أيها المستكين المتصالح مع الكون وخالقه وخلائقه ، أعلن :

أنني أحببتك واحترمتك وقدّسْت طهرَكَ ونقاءَكَ ، وما زلت ..

أعلن أنني رأيتُ ، نعم رأيتُ ، عقلكَ ، ولامستُ روحكَ ، وشردتُ طويلا مع عبَق دخان سيجارتك الذي يمخر عباب شعث غرّتك في أمداءٍ من الصهيل المموسق ..

وأعرف أن ما فيك ، يظهر على فيك .. فلا يتغيّب ولا يتمظهر ولا يتراءى غمزا ولا لمزا ..

الآن .. أحسُّ بيدك ما تزال تقبض على ذراعي ونحن نعبُر ممرات الكلية ، بين قاعة المحاضرات ومكتبك ، وكنت أتمنى أن تطول بنا الطريق وتطول ..

أعترف ، كم كنت أعشق وأعتز وأفخر بذلك المشوار الذي كثيرًا ما غبطني عليه المحبون ، وحسدني به الحاسدون !!..

وهناك ، في غرفة مكتبك الرائعة الفوضوية حتى الثمالة ، تتغلغل في خياشيمي رائحة القهوة وهالُها ، فأرتشفها حانيا عاشقا ، أو أتنعنش ببخار الزهورات الدافئ ، أو تحلو لي رشفة الشاي في الكأس المذهّبة من يد أحدهم " حمزة أو عرب أو حسن " ..

ولم يكن كل ذلك ليخففَ صقيعَ المكتب ، لولا أنفاسُكَ التي تزفرها بين كفيك ، فيفيض المكان بها دفئًا وأنسًا ..

 

أيضا ، رأيت ارتعاشة رموش عينيك أمام سؤال طالبة لم تأخذ راحتها بالسؤال ، حرجًا مني ـ ربما ـ ، أو بالتأكيد ، من طغيانك الهادئ ..

وتابعتُ قلمَكَ الأحمرَ يمر فوق سطور إجابات طلابك ، ثم يتوقف مستجيبا للرحمة التي يفيض بها صدرُكَ ، ليغيّرَ الدرجة من حال إلى حال ..

 

وإن نسيتُ ، فلن أنسى ، بل ما زلت أسمع ثغاء " أغنام قصتك " التي قرأتَها لي في عددٍ قديم من مجلة " الآداب " ، نبشتَ عنه طويلا ـ بعد إلحاحي ـ حتى عثرتَ عليه مع ثلاث أخواتٍ يتيمات لها ، كنَّ بين أكياس كتب مكتبتك .. وقد نشرت في أيام الصبا ، وهي كل ما تبقى من أقاصيصك الكثيرة .. 

ما زلت أمشي مع ذاك الراعي بين حقول " جرابلس " وعلى شاطئ فراتها ، مصغيا لصوت القطار النازف فراتا وعشقا ..

ما زلت أرى أكياسَ كتبك مكدَّسة في غرفة بيتك في " أقيول " ، فكأن الكتبَ المضمّخة بالعتمة والرطوبة ، تنهض إليك شوقا لدغدغةٍ منكَ ، كدغدغتكَ " وائلك " الوحيد ..

ما زلت أسمع منكَ ذكرياتِك أيامَ الدراسة في " إيران " ، وانسجامك واستشعارك تأثرا بالطبع والطبيعة التي احتضنتكَ وملأتْ عليك كيانك وعقلك ..

رنين ضحكتك ـ بكل رصانته واتزانه وهارمونيته الناعمة ـ يتردد في نجواي كرائحة الخبز الأسمر الساخن في يوم سَغبٍ طويل ..

وأصابعك المعروقة " تلملم " ألوانَ الطيف الفضية عن شعرك الأسبل ، فتتوهج عيناك من خلف زجاج النظارة لتعلن براءتك ونقاءك وصفاء الروح والنفس ..  

تشكو ، فلا تتظلم ..

تهجو ، فلا تقدح ..

تمدح ، فلا تغلو ..

تعطي ، فلا حد ..

ولا تأخذ ما تأباه عِفـّتك ، وهو الأكثر الأكثر ..

تحب ، فلا تكره ..

تعشق الخير والجَمال والحق والحقيقة ..

معبودُكَ ـ يا أستاذي وصديقي ، يا أبا وائل ـ ملأ عليكَ كيانكَ وَجَلا وخشية ومحبة وإيمانا وخشوعا ..

فطيّب الله ثراك ، وغفر لك وجعل مثواك جنان النعيم ..

لك الرحمة والسلام أبا وائل ..

يا ألله .. يا ألله .. يا ألله ..

 

الأحد ـ 13/11/2011

 

 

 د. محمد حموية ـ 10 ـ 01 ـ 1977

 

 

كنا في أمسية أدبية في كلية الآداب ... وتبدو الفنانة رغدة في الصف الثالث من الحضور 10ـ 01 ـ 1977

 

 

أستلم شهادة التخرج من عميد الكلية د. عمر الدقاق وعيني على د. حموية ـ 04 ـ 05 ـ 1978

حيا الحاضرون عناقنا بتصفيق ولا أروع ـ 04 ـ 05 ـ 1978

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !