مواضيع اليوم

الدكتورة وجدان الصائغ تكتب عن الشاعر

قصائده تضيء الوجه الآخر للواقع


الشاعر محمد بن خليفة العطية

ومزج التراجيديا بالكوميديا في الشعر


بقلم: الكاتبة والناقدة العراقية

الدكتورة وجدان الصائغ

حين يسير المتخيل الشعري علي وجع اللحظة الراعفة ويقبض علي جمر اليومي المخضل بالهزائم والانكسارات كيف ستكون القصيدة - التي هي بالضرورة مرايا الراهن والشاهد الاصدق علي عصر كسرته الهزائم والشعارات المستوردة المزركشة بحقوق الانسان -؟! هل سيصوغ الشاعر المعاصر قصيدة منبتة عن جذرها الحضاري ملبدة بالترميز حد التلغيز بحثا عن يوتوبيا شعرية تقيه جحيم الآني نائيا عن امكنة مرمدة ومستباحة ؟! ام ينسج بنية تراجيكوميدية يمتزج فيها الضحك بالبكاء والسخرية بالمرارة تعكس شروخ الراهن وتجبر المتلقي علي البحث عن حلول لواقعه المأزوم عبر التمترس الواعي بالذاكرة الشعرية والطقوس الحماسية للقافية وبالارث الثقافي الجمعي؟! كل هذه التساؤلات قفزت الي ذهني وانا اتأمل قصائد مجموعة (ذاكرة بلا ابواب) للشاعر القدير محمد بن خليفة العطية - الصادرة عن بيسان للنشر، بيروت 2002- المتمترسة بالقاموس الكلاسيكي للوزن لتضيء وجع الراهن المكتظ بالعزاءات وعبر بنية شعرية يمتزج فيها التراجيدي بالكوميدي والفلسفي بالشعري، لتكون وجها لوجه مع تشظيات الذات المتكلمة والمكلومة التي تعي محنة الانسان العربي في خضم عارم من التحديات، تأمل مثلا قصيدة (فلك يدور ..، ص 95)، ولاحظ كيف تغيا المتخيل الشعري الفكاهة ليضيء الوجه الاخر للواقع الحزين البائس:

 

فَلَكٌ يَدورُ فلا تَسَل

عَمَّن تراجع أو وَصَلْ

ما بادَ عادَ بكل ما

وَضَعَ الزَّمانُ وما حَمَلْ

فإذا انقضي عَهدٌ فما

يُجْدي التأسي بالعِلَلْ

إنَّا إذا طغت الدول

ورمي المُهيمنُ بالثِّقَلْ

مِلنا بأوجهنا الغِضاب

إلي التوعدِ بالجَدَلْ

وتَنَفَّخَتْ أوداجنا

خَجَلاً وأعْيَتنا الحِيَلْ

ثوبُ البطولةِ رَثَّ مِنْ

أجسادنا حتي اضمَحَلْ

بَعُدَ الطريقُ وقد طوي

أحلامَنا طولُ الأملْ

قُلْ لي بربك هل تَرى

في الاعوجاج - سوى الخَلَلْ

 

اليس امرا ذا دلالة ان تتم بايقاعية كلاسيكية مناقشة الاحداث التراجيدية التي تعصف بالكرامة العربية والذاكرة الحضارية ؟! ان هذه الدلالة ببساطة تكشف توق محمد بن خليفة العطية الي ان يعيد الي افق التلقي تفاصيل الجرح العربي الناغر من سقوط الاندلس ودخول التتار بغداد بغية خلق حركة دائرية مغلقة للزمن العربي (فلك يدور العنونة + فلك يدور المفتتح ) فمأساة الامس هي مأساة اليوم ،وهو بذلك يطرح اشكالية تراجيديا الكلمة التي تقف عاجزة وهي تشهد حمامات الدم التي تتحرك صوب القدس تارة وصوب بغداد وبابل اخري ومنطق الدبابة في بلورة تراجيديا عربية لم تعرف لها البشرية شبيها من قبل !!. ومثل هذا الوعي الحاد بالمحنة الجماعية يصدق علي مناخات قصيدة (أذان الفداء ، ص99) ، تأمل الآتي:

 

سلام علي أمّةٍ أيقظتْها

نوايا العُداةِ وبَغْيُ العَداءْ

علي أُمَّةٍ أو جَدَتْ في بنيها

ابْتعاثَ الحياةِ قُبيلَ الفناءْ

…………….

وعَينا التجاربَ حتي عَيِينا

فصرنا لكل القضايا وِعاءْ

لقد أدركت أُمَّةُ العاجزينَ

- أمام العواصف - معني البقاءْ

وكيف يُقيمُ انتفاضُ الطموحِ

هُزالَ القنوطِ ويُحي البناءْ

لنا كَرَّةُ المجدِ باللهِ حتماً

فَقُلْ للْمَدينِ هناك الوفاءْ

غداً سوفَ يأتي وعيدُ السماء

بما قد قضاهُ إلهُ السماءْ

 

مما لاشك فيه ان المخيال الشعري قد عالج البؤر التراجيدية بدمويتها معالجة كوميدية تعكس بدقة الوعي الحاد بغرائبية مايحصل جراء التناقضات السياسية (لقد أدركت أُمَّةُ العاجزينَ - أمام العواصف - معني البقاءْ) وهو انعكاس يفضح ميكانيزم الكوميديا السوداء التي تدين الضعف العربي (لنا كَرَّةُ المجدِ باللهِ حتماً - فَقُلْ للْمَدينِ هناك الوفاءْ)، بل ان المتخيل الشعري يستدعي الحملة الفرنسية علي مصر وحركة اناملنا التي جعلتها اشارة لانطلاق النهضة الثقافية في العصر الحديث (سلام علي أمّةٍ أيقظتْها نوايا العُداةِ وبَغْيُ العَداءْ) ليكون المتن برمته بيانا ثقافيا يدين الاتكاء الاعمي الي الغرب والعجز العربي الذي افرغ الذاكرة العربية من امجادها فغدت (ذاكرة بلا أبواب - عنونة المجموعة -). وقد يرسم المتخيل الشعري صورة تراجيكوميدية تدين الراهن المعاش، تأمل مثلا قصيدة (فجر البشائر، ص112).

 

حتي شكونا لغير اللَّه كربتنا

وما استطعنا خلاصاً من مخازينا

ثم انثينا إلي الأيامِ نسألها

في أي وادٍ سحيق سوف تلقينا

……….

وكلما زادت الأقدار حدتها

زدنا ضلالاً فما ندري مرامينا

 

مما لاشك فيه ان هذه البلورة الشعرية الباذخة الدلالة تتحرك وفقا لمستويين : الاول: كوميدي منطوق به بدءا بالعنونة المشاكسة (فجر البشائر) وانتهاء بوجوه الانوات الحائرة المتحركة علي مسرح النص، ومستوي تراجيدي مسكوت عنه يحيل الي تراجيديا الراهن المأزوم، اضاءته الخاتمة التي اشتغلت علي صوت طرفة بن العبد وهو يزأر مفتخرا بنفسه وبقومه: (ستبدي لك الايام ماكنت جاهلا - وتأتيك بالاخبار من لم يزود؟) لتتكشف معاناة الذات التي تقف في عذاباتها عزلاء في مواجهة الذاكرة الشعرية المخضلة بالعنفوان وهي تبصر عبثية الراهن (ثم انثنينا الي الايام نسألها…) زد علي ذلك فان تكرار ضمير الجماعة المطل من (شكونا + كربتنا + انثنينا +تلقينا + مرامينا + زدنا + مخازينا ) يؤكد الفجيعة الجماعية، ليكون المتن برمته مرايا تعكس الموقف الشعري الذي يري في الكتابة رسالة تنويرية تضيء الوجه الكالح للراهن.

قد يشتغل المتخيل الشعري علي تراجيديا المثقف العربي اذ يعكس عبر بوحه النازف الواقع العربي المأزوم بادواته العاجزة عن انتشاله مما هو فيه من هزائم وعزاءات متلاحقة، تأمل مثلا قصيدة (من اجل قيصر ! ، ص10) ولاحظ كيف جعل الحوار الداخلي الساخر فضاءً درامياً متوتراً يفضح عذابات غير قابلة للانتهاء:

 

صُمٌّ فمَنْ ذايستجيب ويَسمعُ

ولكلِّ صوتٍ - في الحوادث - مرَتَعُ

ولكلِّ سمعٍ في النشازِ مطيةٌ

وهوي عليه من الضغائنِ بُرقعُ

جَمعُ العروبة - والتشتت قِبلةٌ -

أنَّي اتجهنا فالمصائرُ تُفْزِعُ

نخطو خُطانا والتقهقر عادةٌ

حال التقدم والتراجع مَرجِعُ

…………..

مأساتنا عند الشعوبِ فُكاهةٌ

 

أود أن أشير هنا إلي أن المتن الذي ترد فيه مأساتنا عند الشعوب فكاهة للشاعر محمد بن خليفة العطية يشتغل علي نسقين، الأول كوميدي منطوق به ويضيء الوجوه التي تحركت علي مسرح الحياة لتسلبنا زمنا متوهجا وذاكرة مخضلة بالزهو، ونسق تراجيدي مسكوت عنه يفضح وجوه الانوات التي تمترست بالضغينة (هوي عليه من الضغائنِ بُرقعُ) حد الانغلاق علي الذات (صُمٌّ فمَنْ ذايستجيب ويَسمعُ) وحركتها المتعثرة (ونخطو خُطانا والتقهقر عادةٌ) الرافعة للشعارات المزركشة (حال التقدم والتراجع مَرجِعُ) . زد علي ذلك فان تكرار ضمير الجماعة (اتجهنا + نخطو خُطانا + مأساتنا) يعكس الاحساس العارم بالانتماء للجماعة والرغبة في إيقاظها وإيقاد هممها المرمدة.

وقد ينتقل المتخيل الشعري من الهم الذاتي الي الهم الجماعي، لاحظ مثلا قصيدة (كرامة، ص35)، وتأمل كيف شغل العنونة لتكون لافتة تهكمية تكرس موقف النص إزاء اليومي المعاش:

قاضيتُ في خَلَدي انتفاضَ مشاعري

 

بمباديء الأخلاقِ والإيمانِ

فوجدتهُا انحرفتْ كغايةِ أُمَّةٍ

مُنِيتْ بكل هزائمِ الإنسانِ

تلوي عنان المجد منكسراً علي

كبواته في وثبةٍ وحِرانِ

لَمّا رأتْ أن السيوفَ نَبَتْ وعن

صَهواتها خَرَّتْ دُمي الفرسانِ

حَسْبي بأعطابِ القرونِ قرائناً

لِمُخَلَّفاتِ العَصْرِ والأقرانِ

فالعُربُ شَرْخٌ في الحضارةِ واسعٌ

ينهار عند تطورِ الأزمانِ

تبتاعُ من تَرَفِ الطغاةِ فجورهم

وتبيعهم مُسْتَقْبَلَ الأوطانِ

إذْ شيَّعوا التاريخَ في زمن الردي

دفنوا حضارتهم بلا أكفانِ

فأُنيطَ بالعجز الكسيحِ نهوضُهم

وأُنوفهم طَوْعٌ لكلِّ بَنَانِ

جرعوا المهانة فاستساغوا عارها

إذْ أَعدموا الإحساسَ بالإدمانِ

 

أنت بالضرورة إزاء نسقين الأول كوميدي منطوق به يرتكز الي اكثر من مرتكز دلالي يخز عبر تشكيلات الصور المحتشدة افق التلقي ليخلق خلخلة في قناعاته ويحرك الساكن المرمد بدءا ب(أُمَّةٍ مُنِيتْ بكل هزائمِ الإنسانِ) ومرورا ب(دمي الفرسان) و(دفنوا حضارتهم بلا أكفانِ) وانتهاء ب(أُنوفهم طَوْعٌ لكلِّ بَنَانِ) و(جرعوا المهانة فاستساغوا عارها إذْ أَعدموا الإحساسَ بالإدمانِ)، وإزاء نسق تراجيدي مسكوت عنه تعكس مراياه اكثر من وجه فثمة وجه الشاعر وحركة عينيه وهي ترصد عتمة الزمن العربي الكسير، وثمة وجه المتنبي الرامز لأنفة الانسان العربي واعتداده بذاته وهو يصرخ بالذات المستباحة والمهدورة الكرامة: (من يهن يسهل الهوان عليه / ما لجرح بميت إيلام)، وثمة وجه حسان بن ثابت الرامز لعنفوان المجد العربي الاسلامي وصوته المترنم بكبرياء الانسان العربي: (بيض الوجوه كريمة أحسابهم / شم الأنوف من الطراز الاول) () إلا أنها أصوات تبقي حبيسة المتن المسكوت عنه ليعلو صوت محمد بن خليفة العطية مجرحا منددا بعتمة الراهن وعبثية الأحداث ولا منطقيتها الراهن . ليكون المتن صرخة مخضلة بالدمع والأنين المكسور، وقد عزز هذا التأويل قافية النون المكسورة، بل ان ضمير الجماعة المتكور في (فجورهم + وتبيعهم + شيَّعوا + دفنوا حضارتهم + نهوضُهم + أنوفهم + جرعوا + استساغوا + أَعدموا) قد أضاء انفصال الذات المأزومة عن الجماعة التي طمست ملامح الماضي لتعبر علي جدث الآني صوب الضياع.

وقد يشكل المتخيل الشعري من العنونة لافتة اشارية مشاكسة تقترب في مناخاتها من التورية إذ تظهر خلاف ما تكتم، تأمل مثلا قصيدة (الحلم العربي!، ص 75)، ولاحظ قدرة العنونة علي أن تغدو إشارة تهكمية وامضة، قارن الآتي:

 

سيفُ العروبة صار من أوتارِ

والمطربون جحافل الثوارِ

والأغنيات نشيد كل (مجاهدٍ)

في مسرح الطنبورِ والمزمارِ

أين الأساطين العظام وأين ما

تسمو به الهاماتُ من آثارِ

تركوا بني الدنيا علي أوكارهم

نهبَ الرياحِ وسُخْرَةَ الأشرار

 

بالضرورة فإن العنونة (الحلم العربي) تنجح في أن ترمد فراشات الحلم ونوارسه التي بقيت حبيسة علي ضفاف النص والتي ما أن تدخل رحابه حتي تترمد بوهج الصرخة التي غلفها المتخيل الشعري ببنية كوميدية هيمنت علي النص المنطوق به ليبقي المتن المسكوت عنه متخما بتراجيديا الراهن الملفع بتقاعس الهمم واستنامتها، بل انه يسحبك من فضاء الغناء الجماعي لحناجر المنشدين ل(الحلم العربي) الي عمق الذاكرة العربية حيث مجالس الانس العامرة بالطنبور والمزمار والاوتار الا انها مجالس شاعت حين كانت الدولة العربية في اوج ازدهارها العسكري وذروة فتوحاتها الحربية وقد عزز هذا التأويل التساؤل المرير الحائر (اين الأساطين العظام 44) مؤكدا علي ان نشيد الحلم العربي سيبقي يتيما اذا لم يتحول الي واقع محسوس.

وقد يدين المتخيل الشعري وعبر بنية ساخرة ومريرة المكان وأناسيه، تأمل مثلا قصيدة (وطن الرياح، ص 77):

 

وتَمرٌ يا وطنَ الرياح بك العواصُف كالنسور

تهوي علي جُثثِ الخطايا والمباديء والعصور

ويَظلٌ أهل الكهف في حَلَكِ المخاوف والصدور

يستنطقون ظنونهم فَيُميتهم صَمتُ الشعور

من ذا يُحِسُّ بهم وقد هجروا الحضارة والقبور

سكنوا الضَياعَ وليس في سُكني الضياعِ سوي الثبور

الموجُ يلفظهم علي صُمِّ الجوارح والصخور

وطَنُ الرياحِ أليس في وجهِ العواصف من يثور؟!

 

بالضرورة فان ثلاثة مرتكزات تؤكد الوعي الشعري في ترسيم صورة كوميدية للراهن المعاش اولها: العنونة (وطن الرياح) التي قرنت المكان الحميم الرامز للانتماء بالفوضي والبعثرة تارة وتارة أخري صيرورته نسرا الا انه منزوع دلالات الانفة والسمو ليتموضع في ثقافة افتراس (جثث الخطايا + المباديء + الذاكرة العصور ) وثالثها: اقتران الانسان الراضخ للعتمة ب(أهل الكهف)، إلا أن التساؤل المرير الذي ختم به النص: (وطَنُ الرياحِ أليس في وجهِ العواصف من يثور؟!) قد أضاء البؤرة التراجيدية لذروة الاغتراب عن المكان وانواته المتحركة ببلادة علي مساحة النص ومسرح الحياة معا.

وقد يرسم المتخيل الشعري لوحة لدونكيخوته معاصر، لتكون وجها لوجه مع البطولة المنزوعة الذاكرة والدلالة وربما تكون قبالة anti- hero، تأمل مثلا قصيدة (عملاق، ص33):

 

لا تُدِرْ وجهَكَ وافخرْ

أنتَ إنسانٌ مُقدّرْ

لك تاريخٌ ومجدٌ

وحضاراتٌ تُسطّرْ

فاشرب الشاي المُعطّرْ

وتهتلرْ وتعنترْ

وكفي عقلك شُغلاً

أنّهُ للكونِ مِحْورْ

فأدِرْ خداً لكسري

وامنح الآخرَ قيصرْ

واشحذ السيف المُدَلَّي

بين فكيك لِتَظْفرْ

واشتُمِ الأعداء جهراً

ودعِ الإعلام يثأرْ

………….. .

……………..

أنت عملاقٌ عظيمٌ

لا تُري إلا بمجهرْ!

كل فعلٍ كل قولٍ

أنت منه الآن أكبرْ

مَنْ يري فضلك عارآً

فهو من عارك أحقر

كل أيامك فخرٌ

وعدَا ذاكَ مُزَوَّرْ

نادرُ أنتَ بِعَصرٍ

- بات في التاريخِ - أندرْ!

 

أنت بالضرورة إزاء تضاد حاد بين العنونة (عملاق) والمنجز اللاحق يقودك الي التناشز الحاد بين الحلم والواقع المرير، وقد عكس مرايا النص وعبر حشد افعال الامر (اشرب + تهتلرْ + تعنترْ + كفي + أدِرْ خداً + امنح الآخرَ + اشحذ + لِتَظْفرْ+ اشتُمِ + دعِ) والأفعال المجزومة (لا تُدِرْ + لِتَظْفرْ) و الضمير المخاطب (أنتَ + أنت + أنت + أنتَ) وكاف الخطاب (وجهَكَ + لك + عقلك + فكيك + فضلك + عارك + أيامك) الوجه الكالح لهذا (العملاق / القزم) ليكون صورة كاريكتورية تعكس سوريالية الراهن.

وقد يتلبث المتخيل الشعري عند الهموم الكونية للانسان أني كان، تأمل مثلا قصيدة (اليوبيل الذهبي، ص 16) والتي يصدرها بعبارة: (الأمم المتحدة .. ذكري نصف قرن علي إنشائها..)، تأمل الآتي:

 

خَمسون عامْ ..

خمسون جارحة ً تُريدُ الإنتقامْ ..

مِن كُل مَنْ أَلفَ السلامْ

مِنُ كل غُصنٍ بات يأوي فوقه بِيْض الحَمامْ

فَسما الدُّخانُ وأصبح الموتي ركامْ

خمسون عامْ

في هيئةِ الأممِ اللئامْ

اللحم للدولِ العُظامْ

والعالم (النامي) يُغَذَّي بالعظامْ

 

بالضرورة فأنت أمام ثقافتي الموت و الجوع اللتين سادتا الكون، وقد رمز للاولي ب(غُصنٍ بات يأوي فوقه بِيْض الحَمامْ) وهو بالضرورة يحيل الي غصن الزيتون وحمامة السلام، إلا أنه غصن يكاد ينكسر وحمامة غادرت عشها، وقد شكل من ثقافة الجوع لوحة كوميدية تتكيء الي صورة ذوقية توقد الرؤية الاستعلائية لهموم الانسان، ليكون المتن برمته مرايا مشروخة لراهن يضج بغياب القيم وانقلاب الموازين .

وخلاصة القول، فإن مرايا قصائد مجموعة (ذاكرة بلا ابواب) التي شكلت بانوراما شعرية للاحداث التراجيدية التي تعصف بالمشهد الانساني العربي بل والكوني، قد عكست رومانسية جديدة لا تعني - كما هو شأن الرومانسية الأوروبية - الفرار من جحيم المدينة المكتظة بدخان المعامل وضوضاء الآلة التي تسحق نبض القلب صوب الريف بحثا عن الفطرة والنقاء، بل تعني الفرار من جحيم الراهن صوب النص لخلق بنية تراجيكوميدية تدين لامنطقية الاحداث تهز قناعات التلقي وتوقد في افقه التوق العارم الي الانفلات من سكونية الوحشة وقيود العتمة.

 

الهوامش:

جعلتني الهندسة الواعية لخرائط قصائد العطية استعيد وجه الشاعر الاثيني اريستوفانس() المؤسس الاول لفن الكوميديا ودوره التنويري في استصراخ الهمم المرمدة وايقادها عبر نصوصه التي تجعلنا نضحك علي ضعفنا، علما بأن اريستوفانس (445- 385ق . م) يعد من اهم كتاب الكوميديا، وقد كان من طبقة ملاك الاراضي في اثينا، وكان يمتلك مزرعة في جزيرة ايجينا القريبة من اثينا، وأحس مع طبقته بالتدهور السريع الذي أصاب اثينا بعد الحروب المتتالية التي شكلت ضربات قاصمة للمجتمع الاثيني الذي كسرته الحاجة والفاقة وانقلاب موازين القيم، لذا أراد من خلال نصوصه الكوميديا ان يعيد الي ذاكرة الجمهور الاثيني العصر الذهبي لأثينا والذي حققت من خلاله النصر علي الفرس بسبب نظامها السياسي الديمقراطي، كما انه من خلال النصوص هاجم النسق السياسي الذي قاد البلاد الي الهاوية، وهاجم شعراء التراجيديا وأبرزهم يوربيدس لأنهم أبعدوا التلقي عن مواجهة الواقع متكورين داخل الأساطير، وهاجم الفلاسفة وأبرزهم سقراط لأنهم افسدوا الفكر اليوناني وروجوا الأباطيل، وللاستزادة: ينظر: د. محمد حمدي ابراهيم، نظرية الدراما الاغريقية، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان 1994، ص 92 وما بعدها.

ويعد اريستوفانس من أبرع الكتاب في التندر والاقتباس الساخر، وخاصة فيما اقتبسه من الشعراء التراجيديين وتحديدا يوربيدس: فأحيانا كان ينقل منه بيتا يغير فيه كلمة واحدة فقط، وأحيانا كان يغيره بحيث يصبح كوميديا، وللاستزادة: ينظر: نفسه، ص 95 وما بعدها.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !