الدستور الأمريكي يحول بين ترامب والبشير
مصعب المشرّف
20 مايو 2017م
قرار الرئيس عمر البشير بإيفاد مدير مكتبه إلى قمة الرياض العربية الإسلامية الأمريكية لم يكن موفقاً ..
وبدأ واضحاً أنه يندرج في خانة "جلد الذات" ؛ أكثر منه قرار سياسي حكيم ..... وحيث كانت الحكمة هنا تستلزم إيفاد نائب الرئيس ورئيس مجلس الورزاء ...... أو أحد نواب الرئيس على أقل تقدير .
الرئيس عمر البشير أراد بإيفاد مدير مكتبه رد الصاع صاعين إلى الإدارة الأمريكية ... وتوجيه إهانة إلى دونالد ترامب ...
ولكن الشاهد أن ترامب كان مقيداً ، ومكبلاً من رأسه حتى أخمص قدميه بنصوص ومواد وبنود الدستور الأمريكي .....
إن الدليل على براءة ترامب من كل ما جرى . أنه كان يعلم منذ شهور بأن البشير سيكون من أول المدعويين ..... ولم يعترض في حينه ... ولكنه كدأبه في قراراته ومواقفه ؛ فوجيء في اللحظة الأخيرة أن مواد وبنود دستور بلاده تحول بينه وبين مصافحة البشير واللقاء به والتحدث معه ... أو الجلوس إليه جمعاً أو إختلاءاً تحت سقف واحد....
في الواقع فإن السعودية الشقيقة لم تقصر . وأدت ما عليها حين أصرت على توجيه دعوة رسمية معلنة موثقة إلى الرئيس البشير ؛ للتأكيد على حرصها على العلاقات المميزة بين البلدين وتقديرها لشخص الرئيس البشير.
دونالد ترامب من ناحيته كان مهذباً بالمقارنة مع أسلوبه المعاكس المطبوع .... وبالمقارنة مع تصريحات العديد من رؤساء الولايات المتحدة والعالم الغربي السابقين والحاليين لجهة مصافحة الرئيس البشير ، والجلوس معه تحت سقف واحد . ومنهم على سبيل المثال الرئيس الفرنسي السابق سيركوزي الذي لم يتردد في التصريح علنا ذات مرة بأنه لن يصافح البشير ، ولن يجلس معه في داخل قاعة واحدة .....
دونالد ترامب لم تصدر منه تصريحات مباشرة أو غير مباشرة بعدم قبوله مصافحة البشير أو الجلوس معه تحت سقف واحد .. ولكن الرجل (ترامب) فوجيء في آخر لحظة بتصريحات دبلوماسية أمريكية تستند إلى مواد في الدستور الأمريكي ، الذي لا يستطيع ترامب أو نظامه الحاكم إختراقه وتجاوزه ...
وقد كان فحوى ذلك التصريح الدبلوماسي أن الإدارة الأمريكة قد جرى إبلاغها رسميا بأن الدستور الأمريكي ، لا يسمح لرئيس الولايات المتحدة بالإلتقاء والجلوس مع شخص مطلوب للمثول أمام المحاكم الجنائية لمواجهة تهم بإرتكاب جرائم.
المسألة إذن كانت وستبقى خارج إرادة الرئيس ترامب الشخصية .. وخارج إرادة طاقمه .... وخارج إطار نظرية المؤامرة ... ومن ثم يجب عدم الغضب منهم .. لا بل ولا يجب أن نغضب من الدستور الأمريكي. ذلك أن من حق الدساتير أن تحترم... ولكننا قوم لم نعتاد على إحترام الدستور.
إذا كان خرق رئيس الدولة أو وزوجته أو حتى عشيقته للدستور ؛ وتغيير وتعديل بنوده في بعض الدول المتخلفة يظل أسهل من تبديل الجوارب . فإن مثل هذا الحال ليس وارد تماماً في الولايات المتحدة ، والدول الأوروبية الغربية العظمى .... وغيرها من قلاع وواحات ديمقراطية مؤسساتية راسخة.
الرئيس عمر البشير والنظام الحاكم والسودان بإمكانياته الإقتصادية والعسكرية .. إلخ المتواضعة ليس في وضع يؤهله لمعاقبة الولايات المتحدة والتضييق على مجلس الأمن .
ولا أدري هل إتخذ البشير قراره بإيفاد مدير مكتبة لتمثيل السودان في قمة الرياض الإسلامية العربية العالمية .. لا أدري هل كانت بقرار مباشر منه أم بعد جلوسه إلى مستشاريه؟
على أية حال فإن البشير بقراره هذا قد أضاع على السودان فرصة عظيمة كان يمكن أن تتحقق بتمثيله دستوريا في هذه القمة على مستوى نائب الرئيس على أقل تقدير.
وكذلك فإن البشير بقراره هذا قد ضيع على نفسه وعلى السودان جني ثمار مجهوداته هو شخصياً لإعادة السودان إلى الأسرة الدولية . وتلك القرارات الصعبة التي إتخذها في هذا الشأن ؛ من قبيل إعادة السلام إلى ربوع دارفور وعقد مؤتمر الحوار ؛ والمشاركة الفاعلة المباشرة في عاصفة الحزم.
في كل مرة وتلو الأخرى لا يزال المخلصون لهذا الوطن يذكرون الرئيس البشير عبر وسائط المعلوماتية الحرة بأن لا يستمع إلى مشتسارين وفقهاء قانون يرغبون في إرضائه مؤقتا فحسب ، حين يزعمون أن بإمكان القنوات الدبلوماسية تفادي مذكرات المحكمة الجنائية الدولية .
وإذا كانت الإرادة السياسية في الدول العربية والأفريقية وبعض دول آسيا تستطيع تجاوز طلبات وقرارات المحكمة الجنائية الدولية . فإن الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي والبلدان التي تحكمها دساتير وقوانين محترمة ومرعية لن تستطيع التجاوز ؛ حتى وإن كان ذلك بالتضاد مع المصالح الإقتصادية والسياسية أو تتعارض مع رغبة حكامها وقياداتها السياسية.
حتى التفكير في إمكانية إلغاء المحكمة الجنائية الدولية من الوجود لن يفيد في حالة التعامل مع تلك الدول المشار إليها .. فأي قاضي لم يتجاوز عمره الثلاثين عاماً في محكمة جنائية صغرى داخل أرياف بلجيكا وغيرها من مدن وأرياف أوروبا الغربية ؛ يستطيع بعد حل المحكمة الجنائية الدولية أن يطلب (مباشرة) من شرطة بلاده أو شرطة أي دولة من دول الإتحاد الأوروبي التحفظ داخل أراضيها على متهم بإرتكاب جرائم إنتهاكات وإبادة ضد البشرية . والنظر في تقديمه إلى محكمته المتواضعة.....
وطالما كان إقتراح بأن يمثل الرئيس البشير طواعية أمام المحكمة الجنائية الدولية والدفاع عن نفسه ، والحصول على البراءة من التهم الموجهة إليه غير وارد على الإطلاق في ذهن البشير ومستشاريه ..... وطالما كانت مصلحة السودان تتطلب خلال الفترة القادمة تحركات دبلوماسية . وإعادة ترميم وصيانة لعلاقاته التي تمزقت مع جذع الاسرة الدولية الفاعلة المتمثلة في الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة . فالأجدى والحال كذلك أن يفصل الرئيس البشير ما بين شخصه و مصلحة بلاده .... وعلى هذا الخيار يتم وضع الخطط والإستراتيجيات التي تكفل إستفادة السودان في هذه المرحلة ولأقصى درجة ممكنة من ثمار علاقات شراكته الإستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي من جهة وإتفاقية التكامل بينه وبين الجارة القلعة المسيحية الأفريقية أثيوبيا.
وبالإمكان كمقترح في هذا المجال . أن تتكون لجنة برئاسته لإدارة العلاقات السياسية العليا (بالريموت كنترول) مع دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. تتكون من نوابه ووزير خارجيته.
وتلافيا لما ذهب إليه المعارض ياسر عرمان من أن الرئيس البشير يخشى تقديم من يمكن أن يكون بديلاً له (على الساحة الدولية) كرئيس للسودان.... ومع التحفظ على هذا المذهب الذي ذهب إليه ياسر عرمان .. فإن الإحتياط واجب ومكفول ومشروع للرئيس البشير ..... وبإمكانه كحل وسط أن يضم إلى عضوية هذه اللجنة رئيس جهاز المخابرات.
وأما فيما يتعلق بإدارة العلاقات الرئاسية ، والزيارات المتبادلة ، والمشاركات على مستوى القمة ما بين السودان والدول العربية والأفريقية ، وبعض البلدان الآسيوية ... فإنه يظل بإمكان البشير التعامل معها مباشرة بنفسه.
كل شيء ممكن ، وقابل للحل والإختراق بأسهل مما يتوقع البعض ؛ طالما كانت مصلحة الوطن هي العليا .... وهي التي يفكر فيها ويعمل حكامها ومواطنوها لأجلها.
يبقى أخيراً الإشارة إلى مماحكات الكاتب الفلسطيني المقيم في لندن عبد الباري عطوان . الذي كتب في صحيفته (القدس) مقالاً حاول فيه لي عنق الحقيقة . والإيحاء بأن دونالد ترامب هو الذي فرض وإشترط على السعودية عدم حضور الرئيس البشير..... وذهب في ذلك إلى ما مؤداه أن الولايات المتحدة هي التي أسست هذا الحلف العربي الإسلامي الأمريكي وهي صاحبة الكلمة العليا .....
وكذلك حاول بخبث دق إسفين بين السعودية والسودان ، عل وعسى يخدم مصالح الممولين له.
واقع الأمر وكما هو معلوم لدى الكافة في عصر حرية المعلومة ؛ كان ولا يزال الدستور الأمريكي هو الذي حال بين إجتماع عمر البشير ودونالد ترامب تحت سقف واحد.
والمواطن السوداني تفهم ذلك الأمر لعدة أسباب ؛ ليس أقلها أنه يثق في حسن نوايا السعودية .. وأن السوداني هو الشعب الاكثر ثقافة وحضارة وذكاء وسط الشعوب العربية قاطبة.... لا بل هو الشعب الوحيد الذي إستطاع صنع ربيعه الخاص به عبر الحوار والتوافق مع حكومته.
ولكن الفلسطيني عبد الباري عطوان (إيش فهمه في الدساتير) بوصفه ثمرة في شجرة الشعوب والأنظمة المتخلفة ؛ لا نتوقع منه أن تكون لديه ذهنية تفهم في معنى الدستور وإحترام الدستور .. ثم وواقع أن الولايات المتحدة تضع الدستور في مقدمة العربة..... وان ترامب لم يستطع حتى فرض قيود على الهجرة إلى بلاده ؛ لأنها كانت قرارات تناقض مواد الدستور الأمريكي.... وأن قاضية محكمة ولائية مغمورة هي التي أفلحت في ما خاب فيه ترامب.
التعليقات (0)