مواضيع اليوم

الدرويش (قصة قصيرة)

أيمن عرفان

2011-03-21 04:53:32

0


دائما ذلك المكان يسحرني ، منطقة الأزهر والحسين وخان الخليلي ، حيث أشم هناك عبق التاريخ ، وأتنسم هواء مصر المحروسة صافيا وقد امتزج برائحة البخور الشرقي التي تتصاعد هنا وهناك بين الحين والآخر .

تخيرت إحدى المقاهي التي تشرف على الساحة الواسعة أمام المسجد الحسيني وسحبت مقعدا لأجلس فتنال العين حظها من التمتع بجمال المنظر ؛ المسجد وقد بدأت مصابيحه في الإضاءة قبيل الغروب ، الساحة وقد امتلأت بالمارة يمينا ويسارا من طلاب جامعة الأزهر أو مصلين يقصدون المسجد أو زوار من رجال ونساء وأطفال أتوا لزيارة المسجد والضريح ، الوجوه مختلفة ، الثياب مختلفة ، المقاصد مختلفة ، ولكنهم جميعا يكملون بهاء تلك اللوحة الشرقية المصرية المتميزة .

بدأت في ارتشاف كوب الشاي الذي أحضره لي النادل وعيناي تسبحان في المكان ، وقعت عيناي عليه ، للوهلة الأولى أهملته ، إذ أنني قد اعتدت على رؤية أمثاله من المتسولين كثيرا في هذه الأماكن ، ولكن حينما وقعت عيناي عليه في المرة الثانية استوقفني شيء ما ! فأخذت في تأمله لأكتشف ذلك الشيء .

كان يجلس على الأرض مسندا ظهره على أحد جدران المسجد وقد مد رجليه أمامه في مواجهة الساحة الواسعة ، عيناه شاردتان ، إحدى يديه إلى جواره على الأرض بينما الأخرى تمسك بعصا غليظة قد انتصبت واقفة إلى جواره ، لحيته سوداء طويلة وكثيفة ، تناثرت فيها بعض الشعرات البيض ، جسمه نحيل ، يبدو في الأربعين من عمره تقريبا ، أما ما استوقفني فهو أنني قد اعتدت من هؤلاء قذارة ملابسهم وسوء هيئتهم ، أما هذا فكانت لحيته ممشطة ، شعره اختفى معظمه تحت عمامة خضراء وما ظهر منه كان نظيفا لامعا ، ثيابه على الرغم من أنها بالية وقد أعاد ترقيعها في عدة أماكن إلا أنها أيضا كانت نظيفة ، وقد افترش قطعة من قطيفة خضراء أشبه بسجادة الصلاة .

راودتني فكرة ، هذا الكائن الغريب عني والذي لا أعلم عنه شيء ؛ لماذا لا أحاول التعرف عليه ، وصلت بي حالة الفضول وحب الاستطلاع إلى أقصاها ، ولكن ماذا أفعل ؟

تركت كوب الشاي وقمت من مكاني لأتجه نحوه ، وما هي إلا بضع خطوات حتى كنت أقف أمامه مباشرة ، ولكنه بعد لم يفق من شروده ، ألقيت عليه السلام فانتبه ، تطلع إلى من أعلى إلى أسفل ثم رد السلام وأعقبه مباشرة بقوله : " ماذا تريد ؟ " .

شملني الصمت لحظات ثم أجبته وقد انتابني شيء من الرهبة لا أدري سببه :" إن لي ذنوبا كثيرة وحياة طويلة بعدت فيها عن طريق الله ، ولما رأيتك توقعت أن أجد ضالتي عندك فترشدني إلى طريق العودة والتوبة إلى الله " .

كانت هذه العبارات هو كل ما تفتق عنه ذهني لأجعل هناك موضوعا للحوار بيني وبينه يمكنني من خلاله التعرف على مكنون نفسه .

سحب رجليه الممددتين ونظر إلى الأرض قليلا ثم رفع بصره إلي وقال :" قبل أن أجيبك عليك أن تخرج عشرة جنيهات وتعطيها صدقة لأفقر إنسان تراه ".

زادني ذلك فضولا لكي أعرف ما وراء هذا الرجل ، أدرت ظهري إليه وتأملت في وجوه الناس من حولي وفي صورهم ، وكأن الساحة الواسعة قد خلت من فقير واحد فكلهم لا تبدو عليهم أمارات الفقر والحاجة ، ثم خطر لي أنه ربما يكون ذلك أسلوبا جديدا للتسول وأنه يريد الجنيهات العشر لنفسه ، فأخرجت النقود من جيبي وتوجهت إليه قائلا :" يا سيدي ، إنني لا أرى أمامي من هو أفقر منك فأرجو أن تقبلها مني ".

أصابني الذهول حين وجدته قد انفجر في الضحك دون مقدمات ، وعلا صوته بالضحك حتى أخذ المارة ينظرون إلينا بتعجب ، طال انتظاري ولكنه لم يكف عن الضحك ، خاطبته بحدة :" إن لم تكف عن الضحك الآن وتخبرني عن سبب ذلك الضحك تركتك وانصرفت ".

توقف عن الضحك ونظر إلي نظرة المعلم إذا أراد أن يوبخ تلميذه ثم قال :" يا هذا ، الله هو الغني ونحن الفقراء إليه، لن تستطيع أن تدخل على الله من باب التوبة إلا إذا استشعرت احتياجك إلى عفو مولاك، ووقفت بين يديه موقف الفقير الخاضع الذليل".

ارتفع صوت المؤذن يدعو لصلاة المغرب فهب واقفا وقد اتجه ليدخل من باب المسجد ، ثم التفت إلي قائلا :" يا هذا ، لو كنت صادقا في طلبك ، لرأيت نفسك أحوج الناس إلى هذا المال ". ثم غاب عن عيني وسط جموع المصلين ، وقد ترك برأسي العشرات من علامات الاستفهام .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !