الدرس التونسي والامتحان المصري
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
فرعون مصر الجديد
بمجرد ما تذكر كلمة "فرعون" تحيل مباشرة على جملة من المعاني والأفكار مثل؛
• مصر باعتبارها السياق المكاني الذي احتضن مملكة الفراعنة، موحدةَ مصر القديمة التي كانت مقسمة إلى جزأين: الدلتا والصعيد، فتناوبت على حكمها واحد وثلاثون أسرة فرعونية عبر ما يقارب ثلاثين قرنا من الزمن (3100 ق. م و333 ق. م)، كما تثبت مصادر تاريخ مصر القديمة.
• والنيل الذي يشكل عامل استقرار الإنسان في تلك المنطقة، ونشوء الحضارات القديمة والحديثة، وقديما أصاب المؤرخ اليوناني هيرودت عين الصواب، عندما قال: "مصر هبة النيل".
• والأهرام بكونها أهم مخلفات الحضارة الفرعونية المعمارية والتراثية، التي أذهلت بعظمة هندستها، وجمال هيئتها، ومتانة بنائها، الإنسان المعاصر، مما جعلته يعتبرها من عجائب الدنيا التي لا تنقضي أسرارها وغرائبها. بصرف النظر عن تفسير معاصر للباحث محمد سمير عطا في كتابه (الفراعنة لصوص حضارة)، توصل فيه إلى أن الفراعنة لصوص حضارة، فليسوا هم البناة الحقيقيين للأهرام، وإنما عاد قوم هود.
• وموسى عليه السلام ليس باعتباره رسول الله تعالى إلى فرعون فحسب، وإنما بوصفه رمز التحدي أمام الرعاء، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} القصص/23، والرعاء في هذا الصدد إشارة لطيفة إلى فساد المجتمع وتعفن الأخلاق وسيادة الأنانية والاستئثار، ورمز العدالة ضد الطغيان والعلو، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} طه/24 والنازعات/17، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} القصص/4، ورمز الخلاص من قبضة الاستبداد الفرعوني، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} البقرة/49.
• وبنو إسرائيل باعتبارهم قوم موسى عليه السلام، الذين بعث فيهم نبيا، لهدايتهم إلى الطريق القويم، وإنقاذهم من العذاب والتذبيح والاستحياء الذي كان يمارسه عليهم فرعون، غير أنه رغم هذه التضحيات الجسام كلها، فإنهم {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} المائدة/70.
• إلى غير ذلك من المعاني التي تستدعيها كلمة "فرعون".
وارتباطا براهن الأحداث، التي يأتي على رأسها ما يجري اليوم في مصر، يعود مصطلح "فرعون" إلى واجهة الواقع اليومي والإعلامي والسياسي، حيث صار مفهوم الفرعونية أو الفرعنة يحضر بشكل مكثف في تفاصيل الحياة اليومية، إذ يتردد تشبيه "رئيس مصر بفرعون" على ألسنة العوام، ونراه على لافتات الاحتجاج والتظاهر، ونقرأه في مقالات وتحليلات الإعلاميين، ونلتقطه من تصريحات الفاعلين السياسيين، وغير ذلك. كأن فصلا من فصول تاريخ مصر القديمة يكرر نفسه، ليس الآن، وإنما منذ إحكام حسني مبارك قبضته الحديدية على زمام الأمور في مصر، منذ 14 أكتوبر 1981، أي ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة هو:
لماذا تأخرت انتفاضة الشارع المصري هذا الزمن الطويل كله؟ لماذا استغرق رضوخ مصر (وهذا ينطبق أيضا على معظم الدول العربية والإسلامية) لفرعونها الجديد هذه العقود الممتدة كلها، وهي مركز ثقل الأمة العربية وقلبها النابض، ليس ديموغرافيا فحسب، وإنما تاريخيا وثقافيا وسياسيا واستراتيجيا كذلك؟ فهي، كما عبر شاعر النيل حافظ إبراهيم، ذات يوم "(أنا) تاج العلاء في مفرق الشرق". وأكثر من ذلك، لماذا لم تفلح النخب المصرية المتنوعة في تشكيل جبهة سياسية أو فكرية أو إعلامية موحدة ضد هذا النظام الديكتاتوري، رغم أنها كانت تملك الوقت الكافي للتفكير والتخطيط العميقين لذلك؟ ألا يعني هذا أنها بهذا التهاون أو التباطؤ ساهمت في صناعة الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي آلت إليه مصر، ومن ثم مساعدة النظام على الاستمرارية والصمود؟ وهي بذلك، أي النخب، لا تختلف كثيرا عن ملأِ فرعون، الذين اتبعوا أمره وهم يعلمون أنه على ضلال، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} هود/97. ووحدها الفئات المغضوب عليها من علية القوم وسواده، كانت ترزح تحت نير الجور والطغيان والتنكيل، وفي صلبها كانت تتشكل نواة الانتفاضة الشعبية بأيد الشباب المقهور والمستضعف، بعيدا عن تحليلات الإعلاميين ومقاربات المفكرين وتوقعات السياسيين، لذلك كانت مفاجأة الثورة عظيمة، ليس للنظام وحده، وإنما لمختلف التنظيمات السياسية المؤيدة والمعارضة والمحظورة.
الدرس التونسي العظيم
في الحقيقة أن تونس فاجأت العالم بثورتها المجيدة، التي لم تكن مطلقا في الحسبان، إنها اللامتوقع وغير المتفكر فيه، ليس بلغة الأدب والنقد، كما تؤسسه نظرية القراءة أو سيميوطيقا التلقي، عند هانز روبير ياوس أو فولفغانغ إيزر أو ستانلي فيش، وغيرهم. وإنما بلغة الواقع المعيش والمشهود، حيث كان يُنظر إلى تونس باعتبارها أفضل بؤرة للاستقرار السياسي والاستثمار الاقتصادي والحرية الاجتماعية في العالم العربي، لذلك ظلت طوال أكثر من عقدين من الزمن محجّا للمستثمرين وملاذا للسياح. غير أنه بين عشية وضحاها لاح في الأفق ما لم يكن متوقعا، ليس من الآخرين، بل من التونسيين أنفسهم، الذين لم يصدقوا أن رياح التغيير حلت ببلادهم، فلم يكن أمام الدكتاتور إلا أن يشد رحاله إلى حيث لا رجعة! لم يُصدق أبدا أن حفنة من شباب الفايس بوك والماسانجر والموبايل، سوف تقود يوما ما ثورة التغيير بهذا الشكل السلس والجميل. ولم لا؟ والشاعر يقول:
كل صعب على الشباب يهون /// هكذا همة الرجال تكون
إن الدرس التونسي كان عظيما بكل ما تحمله الكلمة من معنى، علّم الشعوب العربية والإسلامية في زمن قياسي، ما لم تعلمه إياهم، لا جحافل المفكرين والمنظرين والمحللين، ولا التنظيمات الحزبية والسياسية والنقابية، ولا دروس الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يجلدون بها صباح مساء، عبر مئات القنوات الأرضية والفضائية. وأكثر من ذلك كله، لقنهم أن التغيير سوف يتحقق، لا محالة، إذا حضرت إرادة الشعوب التي لا تقهر.
فها هي فراسة شاعر الخضراء؛ أبو القاسم الشابي، التي ضمنها قصيدته المشهورة (إرادة الحياة)، وقد طبقت الآفاق، رغم أنه أبدعها وعمره لا يتجاوز الرابع والعشرين، وتحديدا في 16 سبتمبر 1933.
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ /// فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وها هو القدر يستجيب للشعب التونسي عندما أراد أن يعيش في كرامة، وينفلت من إسار الاضطهاد والجور، كأنه فجأة أدرك مغزى الإرادة التي تتكرر باستمرار في نشيده الوطني، إلا أنه لم يستوعبها إلا لحظة أن انطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة من جسد البوعزيزي، الذي اشتعلت روحه ثورة وياسمينا، فلم تخبُ نارها كما هو الحال بالنسبة إلى النار الطبيعية والفيزيقية، وإنما انتقل لهيبها إلى باقي الأجساد والأرواح، داخل تونس وخارجها، كأنها جذوة بروميثيوس الأسطورية التي سرقها من الآلهة ليمنحها للإنسان، كما تحكي الميثولوجيا الإغريقية.
ترى هل الانتفاضات الشعبية التي بدأت تعتري مدن الوطن العربي وعواصمه، من الجزائر، إلى القاهرة، إلى عمان، إلى صنعاء، إلى... مردها إلى ثورة الياسمين التي كانت تونس معقلا لها؟ هل حقا اِستفاد الشعب المصري في امتحانه العسير الذي يخوضه منذ أسبوع من الدرس التونسي العظيم؟ بعبارة أجلى؛ هل يمكن اعتبار أنه لولا ما حدث في تونس، ما تحرك الشارع المصري وهو يسعى جاهدا بكل مكوناته الاجتماعية وأطيافه السياسية إلى إسقاط رأس النظام، أو "قطع رأس الأفعى"، وهي استعارة جميلة أطلقها الرئيس مبارك قبل شهر، في خطاب له على خلفية تفجير الإسكندرية، وهو يقصد بها الإرهاب، دون أن يعي أن تلك الاستعارة تنطبق على نظامه الاستبدادي أكثر؛ فالنظام هو الأفعى، ورأسها هو الرئيس!
أجل، إن ثورة تونس المجيدة شكلت عامل تحفيز للشعوب العربية والإسلامية عامة، والشعب المصري خاصة، مانحة إياها القابلية للوعي بدل الخمول، للتعبير بدل الصمت، للحركة بدل السكون، للانتفاضة بدل الانكماش، للثورة بدل انتظار الذي يأتي ولا يأتي... غير أنها شكلت في الوقت ذاته سيفا بحدين، أو درسا بمغزيين؛ المغزى الأول تجلى في الاستيعاب الجيد لما جرى في تونس من قبل الرئيس مبارك، فعرف كيف يواجه الأزمة التي ألمت به ولو مؤقتا، حتى يخرج من قمقمها بخسارة أقل. أما المغزى الثاني فقد تمثل في استنهاض الشارع المصري، وإيقاظ الهمم، وحضها على أن تثور.
أبجدية الثورة
الثورات تختلف من حيث مقدماتها، آلياتها ومقاصدها، إلا أنها لا تختلف من حيث مواقيتها، فهي تشبه فيما تشبه العاصفة، التي لا تنذر بأوان وصولها أو وقوعها. يحكي ميشليه في كتابه (الثورة الفرنسية) عن بعض إرهاصات تلك الثورة: "كانت الساعة الخامسة والنصف، وارتفعت صيحة من ميدان الجريفGreve "الساحل". ضجة كبرى تصاعدت: بدأت أولا بعيدة، ثم ارتفعت واقتربت بسرعة. بقعقعة العاصفة. صيحة مدوية تقول: الباستيل سقط!!". (نقلا عن كتاب لويس عوض: الثورة الفرنسية، ص 10). والباستيل هذا كان بمثابة سجن أقيم في فرنسا خصيصا للمعارضين السياسيين للدولة، كما كان رمزا للجور والاستبداد، ويرى المؤرخون أن الشرارة الأولى للثورة الفرنسية انطلقت منه، وذلك في 14 يوليو 1789، وقد أصبح هذا التاريخ اليوم عيدا وطنيا يحتفل به الفرنسيون كل عام.
إن سجن الباستيل الذي كان أول ما استهدفته الثورة الفرنسية، لا يختلف كثيرا من حيث الدلالة الرمزية عن البنايات التي سعى الثوار، سواء في تونس أم في مصر، إلى الإطاحة بها، كمباني وزارات السيادة، ومقرات الحزب الحاكم، ومصالح الشرطة، والسجون. وقد رأى الجميع كيف تمكنت جموع المتظاهرين في مصر على سبيل المثال، من تدمير عشرات مصالح الشرطة الموزعة على مختلف المقاطعات والمدن، وإحراق مقر الحزب الوطني الحاكم الضخم في القاهرة، الذي كانت تعد فيه استراتيجيات الطغمة الحاكمة، قصد الاستحواذ الشرس على خيرات البلاد، وممارسة الإذلال للمواطنين الأباة والعزل، فكان بذلك أهم رمز للطاغوت، استطاع أن يصمد ثلاثين عاما كاملة، غير أنه بمجرد ما هبت رياح الثورة، انهارت أركانه أمام إرادة شباب الثورة، كما انهار سجن الباستيل قبل أكثر من قرنين، الذي كان يقبر فيه المناضلون والمعارضون للسلطة، كما هو الحال لسجون الجلاد المصري، التي كانت محطة العديد من الضحايا والأبرياء، ليس المصريين فحسب، وإنما الفلسطينيين كذلك، الذين لم يسلموا من بطش النظام، وقد تواطأ مع العدو الصهيوني على حساب المقاومة الفلسطينية الباسلة، وهكذا تمكنت الثورة المصرية في لحظاتها الأولى من تسريح الكثير من السجناء، كما تمكن ثوار فرنسا من تحرير معتقلي الباستيل، ليكرر التاريخ نفسه بقوة.
اعتاد احتجاج الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج أن يتخذ طابعا اجتماعيا واقتصاديا، وكثيرا ما كان يطلق عليها الإعلام أسماء تحيل على معاني الجوع والحاجة والفقر، كثورة الجياع مثلا. غير أن هذا الطابع التقليدي للاحتجاج العربي، استحال إلى طابع آخر ذي منحى سياسي بحت، يطرح مطلب التغيير الجذري لا غير، في تركيبة الأنظمة الحاكمة كلها، رئيسا وحزبا وحكومة. وهذا لعمري تحول جوهري في أبجدية الثورة لدى الشعوب العربية، التي كانت تكتفي بالمطالبة ببعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وإن هي تعدتها، وقلما يحدث ذلك، استغاثت بالنظام ليغير وزيرا معينا أو يقيل الحكومة الفاسدة، أما الرئيس فهو الحكَم وإن كان مستبدا، وهو المقدس وإن كان مدنسا.
هذا إن عبر عن شيء، فإنه يعبر عن الكيفية التي تغير بها مفهوم الاحتجاج لدى الشعوب العربية، منذ أن تلقت الدرس التونسي، فاستطاعت أن تستوعبه بسرعة تامة، وها الآن نرى تداعياته تترجم على أرض الواقع العربي، في أكثر من صقع وحيز، غير أن المخاض المصري يمر هذه الأيام بامتحان عسير، تنشدّ إليه أنظار العالم بشيء من الإعجاب وكثير من التخوف؛ الإعجاب بشعب عرف كيف أن يدير زمام معركة حامية الوطيس بين الحق والباطل، بين التسامح والطغيان، بين الاعتدال والفرعنة. والتخوف اللامبرر من ثورة تحرق ما زرعه الطاغوت من سلام مزيف، وتطبيع خبيث، ومفاوضات فاسدة، وخرائط طريق ضالة!
ثم إن الدرس التونسي وجد التربة المصرية مهيأة أكثر لاستنبات نموذج ثوري مماثل، لاسيما وأن الشارع المصري كان قد شهد بوادر أولية للثورة، منذ نشوء حركة كفاية عام 2004، التي تزعمها عدد مهم من المثقفين والإعلاميين، ثم تلتها حركات شبيهة بها، كشباب من أجل التغيير، وعمال من أجل التغيير، ومصريون من أجل التغيير، وصولا إلى حركة شباب 6 أبريل، التي شكلت منعطفا رئيسا في تاريخ مصر الحديثة، عندما دعت إلى مظاهرة 25 يناير الأخيرة، دون أن يعلم الجميع أنها سوف تمتد رقعة شرارتها إلى الأيام الموالية، عبر جمعة الغضب، والمسيرة المليونية، والاشتباكات الميدانية للثوار مع "بلطجية الرئيس".
يتبع...
التعليقات (0)