أربكت الدراما الإيرانية حسابات السلطات المغربية التي تخوض حربا ضروسا ضد تنامي التغلغل الشيعي في الأوساط المغربية. ففي ظل ولع المغاربة الشديد بمتابعة قناة الكوثر وقناة العالم الإخبارية الإيرانيتين وقناة المنار التابعة لحزب الله وقناة الحرية العراقية بدت مهمة الدولة المغربية جد صعبة في الحيلولة دون تأثر مواطنيه بالخطاب الشيعي الديني والسياسي المبثوث عبر فضائيته المتعددة.
ومعلوم أن السلطات المغربية تعمل منذ تفجر علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تم إغلاق سفارتها على خلفية اتهامها بالتورط في أنشطة لتشييع المغاربة. وأغلقت المدرسة العراقية بعد توجيه الاتهام لها بأنها كانت تقدم دروسا حول التشيع للتلاميذ، وكذلك تم إغلاق قسم اللغة الفارسية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط. وواصلت السلطات المغربية حملتها على كل ما هو شيعي، فقامت بمصادرة الكتب والمنشورات الشيعية من المكتبات وصادرت الأقراص المدمجة والأشرطة السمعية.
عدد من المهتمين بالشأن الديني والإعلامي أكدوا أن قوة خطاب القنوات التابعة للشيعة، جعلت هذه القنوات تحظى بنسبة مشاهدة قوية، فارتفع التشيع داخل المملكة، في وقت لم يفلح فيه الإعلام المغربي على مجابهة هذا التحدي، وهو ما ولد حالة من ذعر لدى الجهات الرسمية على المستقبل الديني للمغاربة.
ومما يزيد من ارتباك المؤسسات الرسمية المغربية، كونها ترى في تنامي الفكر الشيعي بالمغرب تهديدا خطيرا على إمارة المؤمنين وعلى الملكية والأمن الأخلاقي لدى المغاربة والاستقرار السياسي. ولذلك تَشَكَل هاجس المؤسسات الرسمية المغربية في تحصين إمارة المؤمنين ومنه المؤسسة الملكية أحد دوافع وضع استراتيجية جديدة لإعادة تأهيل الحقل الديني، بعدما كانت قد جعلت التطرف والجماعات الإرهابية عدوها الاستراتيجي الأول، ثم أعادت صياغة استراتيجيتها الدينية من جديد بعد الإحساس بخطورة المد الشيعي داخل المغرب، وترتب عن ذلك عقد لقاءات تكوينية وتأطيرية محليا وجهويا لفائدة الوعاظ والأئمة للتذكير بثوابت المذهب المالكي والعقيدة السنية الأشعرية التي يستهدي بها المغرب.
ولقد استطاعت القنوات الشيعية أن تستقطب الكثيرين من المشاهدين من المغرب، بفضل قوة عملها الدرامي، بأعمال سينمائية تاريخية ودينية، تلقى تجاوبا منقطع النظير لدى المغاربة، ومن هذه الأعمال: مسلسل يوسف الصديق "يوزرسيف"، مسلسل الإمام علي عليه السلام، مسلسل الإمام الحسن عليه السلام، مسلسل الإمام الحسين عليه السلام، مسلسل غريب طوس، مسلسل أصحاب الكهف، مسلسل الواقعة...، ومن الأفلام: فيلم موكب الإباء مسيرة السبايا من كربلاء إلى الشام، فيلم النبراس...
إن الدراما الإيرانية لها من إمكانيات القوة اليوم ما يشفع لها لاستقطاب الكثير من المشاهدين، حيث تتميز مسلسلاتها بجودة الفكرة والحوار وروعة الإخراج الاحترافي. ويجمع نقاد السينما أن إيران باتت تعد من الدول الرائدة في مجال صناعة الدراما العالمية، تحظى بنسب مشاهدة كبيرة، تعززت بانفتاحها على العالم العربي والإسلامي بعدما دبلجت أفلامها في لبنان إلى لغة عربية رصينة ومعبرة تفرض سلطتها في التأثير على المشاهد المغربي.
وهو ما يبقي تخوف السلطات المغربية من صولة وقوة الدراما الإيرانية واردا بكل جدية، حتى أنها تبدو معها الإجراءات الصارمة التي قامت بها لاجتثات المذهب الشيعي غير ذات جدوى، ما دام المغاربة اليوم يتفاعلون بقوة منقطعة النظير مع المسلسلات الإيرانية الدينية الحاملة لإيديولوجيتها الصفوية.
ويبقى التغلغل الإيراني في وجدان المغاربة قائما حينما يندس مع الفكر الديني في غالبية الأفلام والمسلسلات التي يثابر المخرجون الإيرانيون إلى صناعتها بتقنية ومهنية احترافية عالية لا تكاد تَبْرُز إلا في سينما هوليود. وواقع هذا الاحتفاء بالمسلسلات الدينية لا يمكن أن يكون بريئا براءة الذئب من دم يوسف في مسلسل يورزسيف ومسلسل مريم المقدسة ومسلسل الإمام الحسين ومسلسل الإمام الحسن وغيرهما...
إن تفسير التطور الدرامي التلفزيوني والإعلامي الإيراني بهذه القوة، يأتي مساوقا لما أكدته تقارير سياسية من أن الدولة الصفوية في إيران تخطط لتصدير ثورتها إلى الخارج، وبرر محللون سياسيون ذلك بالدعم الإيراني للحوثيين لإقامة دولة لهم بين اليمن والعربية السعودية.
ولذلك كان لابد للمهتمين بالسياسة الإعلامية في الدول العربية السنية من التفكير في آليات لتشديد الخناق على الايديولوجيا الصفوية التي يتم الترويج لها في الفضائيات الإيرانية، فقاموا بتوجيه إشارة تحذيرية إلى المؤسسات الإيرانية عبر إيقاف قناة العالم الإخبارية عن البث من على القمرين الاصطناعين "نايل سات" و"عرب سات" لأسباب منها: الإساءة إلى "تقاليد البث الفضائي والإساءة إلى الأخلاقيات الدينية.
والأكيد أن يبقى هذا التحليل قائما، في ظل تركيز الدراما الإيرانية على إعادة إنتاج المسلسلات الدينية والتاريخية التي يشترك حولها كل المسلمين في العالم، وكثيرا ما وقعت سجالات حول كيفية التعاطي مع وجوه الأنبياء والرسل في مشاهد الدراما الإيرانية.
إن تفرد الإيرانيين في إعادة إنتاج مشترك العالم الإسلامي من زاوية نظرهم يرجح فرضية محاولتهم صياغة التاريخ الديني والإسلامي وفقا للمذهب الشيعي، وهو ما يجعل الدراما الإيرانية غير حيادية، وإنما مفعمة بحمولة التشيع، الذي تمارس عبره تأثيرا قويا، يمتلك قدرة على الانسلال إلى اللاوعي المغربي بدليل حالات تماهيه القوي مع أحداث المسلسلات الدينية، مما يهدد عقيدته السنية الأشعرية.
ويعتبر عدد من النقاد أن الدراما التلفزيونية الدينية الإيرانية تضع السم في العسل، وهي تلج كل البيوت المستهدفة من بابها الواسع عبر فضائيتها، مصدرة مضامين مذهبها الشيعي، يؤهلها في ذلك جودة الأعمال إخراجا وأداء وحوارا ولغة، في وقت تعيش فيه السينما العربية أحلك أيامها كما ونوعا، حيث تشيع أعمال الميوعة والابتذال.
ويتذكر الجميع أن بعض الفتاوي ذهبت إلى حد تحريم مشاهدة بعض الأفلام والمسلسلات الإيرانية، على اعتبار أنها لا تحترم عرف عدم إظهار وجوه الأنبياء والرسل، ونبهت هذه الفتاوي إلى كون السينما الإيرانية وهي تحرص على عدم إظهار أئمتها في مشاهد سينمائية، إنما تعيد ترتيب المراتب بين الأنبياء والصحابة وفق منظورها المذهبي. والحق أن هذه الفتاوي لا ترتبط بهذه الحيثيات فحسب، وإنما بحيثيات أعمق من ذلك بكثير منها تخوف السياسات الإعلامية في الدول السنية كالمغرب من الامتداد الإعلامي والفني للفكر الديني، في مقابل سياسات إعلامية لهذه الدول لا تنسجم وواقع مجتمعاتهم.
إن خلاصات استقراءات رأي عدد من المشاهدين المغاربة وبعد تنبيههم إلى معادلة اختلاط مشاهدة الأفلام الدينية التاريخية بسم إيديولوجيا التشيع، تذهب إلى التأكيد بأنه على الرغم من ذلك فإنهم يحسون بالزمن الأخلاقي الجميل الذي تدعوا إليه قيمهم الثقافية والدينية الإسلامية، وأكدوا أنه من الأفضل لهم التأثر بقيم الإسلام الأصيلة كما يتلقونها من الدراما الإيرانية على أن يتأثروا بقيم مسيحية يروج لها في المسلسلات المكسيكية. وأكدوا أنه أهون عليهم متابعة المسلسلات الإيرانية على القنوات الشيعية بدل متابعة أفلام تحمل قيما مسيحية، تعمل القناة الثانية المغربية على دبلجتها باللهجة العامية لتضمن لها نسبة مشاهدة في محاولة تأليب المواطنين على قيمهم الثقافية والحضارية الأصيلة.
أما إلى أي حد يمكن أن يدس السم الشيعي ضمن الأعمال السينمائية فأكدوا أن ذلك ما هو إلا سوء نية، لا تحس بها وأنت تتابع الأعمال الإيرانية، مذكرين بأن ذلك الهاجس يحكم المشاهد المغربي لضمان متابعة حيادية، إلا أنهم أكدوا أن الأفلام تأسرك حلقاتها وتشدك إلى عوالم الأنبياء والصالحين وصراع الخير والشر دون أن تحس أن هناك نيات معينة، وأكدوا أن المسلسلات الإيرانية مرتبطة بشكل كبير بالنص القرآني وأن لا مخالفة من مشاهدتها بدليل أن جمالية أداء ممثليها ومخرجيها تستطيع أن تشدك شدا بليغا.
ثمة سؤال بديهي يطرح نفسه لو خيرت بين اثنين ماذا تختار؟ أن تتابع مسلسل ديني يحكي قصة أحد الأنبياء مثل مسلسل يوسف الصديق عليه السلام أو تتابع مسلسل مكسيكي يحكي غراميات الخيانة الزوجية والحب المزدوج وعلاقات غير أخلاقية، ويفرض قيما مسيحية الغاية منها التنصير.
إن ما يعبر عنه المغاربة حيال الدراما والأعمال المقدمة على قنوات بلادهم التلفزيونية، إنما يعيد طرح أسئلة جوهرية حول أي سياسية إعلامية يمكن للمغرب إتباعها لحماية أمنه الأخلاقي والديني، وهو أمام فرضيتين خطيرتين، أبدبلجة أفلام مكسيكية حاملة لقيم تنصيرية باللهجة العامية لا نعرف تأثيراتها المستقبلية على مجتمع نصفه يرزح تحت الأمية أو بترك الباب مشرعا على مصراعيه لمشاهدة مسلسلات إيرانية شيعية.
التعليقات (0)