ثلاثة مواقف كانت فيها الدجيل في موعدها مع القدر..ومرات مثلها كان على هذه المدينة الوادعة الغافية على شطوط الانهار وفيء النخيل ان تحمل على اكتافها الواهنة مسؤولية كفكفة الدموع من مقل العراق المدماة من جور سنين التسلط والارهاب العجاف..
ثلاثة مرات كان على هذه المدينة الطيبة مفتحة القلوب والابواب للضيف ان تمسح فيها الذل عن الجباه المنكسرة لابناء العراق..اولها كانت,في مثل هذا اليوم منذ سنين ,عندما هجر ثلة من خيرة شبابها مضاجعهم وتكفنوا بعراقيتهم متصدين لآلة الشر الدموية الاعنف التي كانت تغيم بظلماتها وظلاماتها على مستقبل العراق والعراقيين مفتدين بدمائهم شرف الامة وتطلعاتها في التحرر والانعتاق وكرامة العيش..
وثانيها عندما اعادت منازلتها وتصديها للطاغية في ساحات الحق والقضاء في وقت عز فيه النصير رافعة في وجهه اصابع الاتهام في محكمة اقرار الحق المغيب بزيف ادعاءات ماكنة النظام الاعلامية التي دثرت جراحات الوطن بغطاء من الكذب المداهن المرائي لمستبد عاق وللغبن التاريخي الذي مكنه من رقاب العراقيين,وثالثة بايمانهم بالقيم التي جبلوا عليها ووفاؤهم للارض التي عرفت اقدامهم طويلا وتحملت معهم تكالب قوى الشر على مائها وزرعها وهواؤها والتزامهم بالمباديء التي تأسس عليها العراق الجديد من خلال وقوفهم في وجه دعاة التشظية والتشتت وتمسكهم بوحدة العراق وسلامته.
ثلاثة مواقف ترتبت عليها ثلاثات متعددة من التبعات التي كان على الدجيل فيها ان تتحمل وطأة الغضب الوحشي من احط شذاذ النظام الدموي,وان تدفع بجراحها ودماء ابنائها ثمن التعطش العضال الملوث بهوس البغاة للتنكيل بالشرفاء وطيبي المنبت من ابناء العراق,اولها عند تعرضها لاجتياج قوى قمع النظام وعسسه الذين استباحوا الارض والعرض والكرامة ولم يرقبوا في اهلها الا ولا ذمة ولا شجرة مثمرة ولم يتركوها الا خرابا غورا وساقوا آمنيها وحرائرها وشيوخها واطفالها الى المنفى اليباب والموت المجاني,وثانية من خلال تعرضها للهجمة الشرسة من قوى الارهاب الناقمة على المدينة التي طوقت رقبة سيدهم بحبل من مسد القصاص الذي لم تهمله عدالة السماء وايتمت عتاته واوغاده الذين استحلوا دماء اهلها وشبابها ومواكب عرسها كجائزة لارضاء حقد القرون وشهوته في الولوغ الآثم بالدم العراقي الطهور,والتي دفعوا من خلالها راضين مرضيين ضريبة صدقهم ما عاهدوا الله والوطن عليه دما وارواحا وكرامة ومقدرات متحدين كل جبروت آلة الموت والارهاب وقوى الظلام والتكفير التي كانت تعيث في ارض واجساد وكرامة العراقيين فسادا دون اكتراث للدموع التي ستنهمر، والدماء التي ستسيل، والمآتم التي ستقام، والقلوب التي ستفجع.
والاكثر ايلاما هي الثالثة الاقسى والاكثر ايلاما والاشد مضاضة وهي ظلم ذوي القربى والمصير من خلال الاهمال وتجريف تضحيات اهل الدجيل واستبدال خيرهم بالذي هو ادنى من اشاحة الوجوه عن معاناة المدينة التي تناهبتها القوى السياسية وتاجرت بآلامها متناسية عظم الدين الذي للدجيل –وغيرها من المدن الجريحة-في رقبة العراق الجديد,وعدم الالتفات الى الضرر الكبير الذي تكبدته جزاء رمزيتها العالية في عملية الانتقال السياسي الذي شهده العراق.
وهنا يكون السؤال عن كل هذا الصمت الذي يطبق على الدولة واجهزتها تجاه معاناة الدجيل وتجاهلها لتداعيات التعرض الطويل لسياسات الابادة الجماعية والتهجير، واغتصاب الحقوق ومصادرة الممتلكات، وتجريف البساتين,متى سيلتفت الى حقوق اهل الدجيل؟ومن يتبنى قضيتهم؟وكيف سيتم اعادة الاعتبار لجراحاتهم وسنوات الاعتقال اللافحة التي استلت ايامهم وعافيتهم وكياناتهم؟
ان الدجيل لا تطالب بالكثير, بل تريد حقها بقدر الآلام التي نزفتها جراحها.فابنائها هم اهل الموقف يوم عميت الابصار وهم اهل الصوت العالي يوم تخرسنت الالسن وبلغت القلوب الى الحناجر,وهم من مارسوا عشق الوطن وكتبوا اسماء شهدائهم بالدم على سفر الحقيقة, الدجيل,وكل مدننا المكلومة,لا تطالب بالكثير,ولكنها تريد الاقرار بالحق بالسؤال المر كيف تنام عيون قادة العراق ونخبته وأمهّات الشهداء يفترشن الارض الخربة و لا عزاء لهنّ سوى دماء احبتهم التي عبدت الطريق لهم نحو السلطة التي يتلاقفونها متناسين الذين ذهبوا دون ان يلتفتوا الى الوراء حسرة على ما خلفوه من دعة وامن وحياة واهل وخلان.
الدجيل لا تطلب منكم الكثير سوى الوفاء,والنظر الى ما يخلد ذكرى من قضى نحبه من الشهداء الابرار وحفظ كرامة من ينتظر منهم وما بدل تبديلا..لا تريد ان تقاسمكم السلطة ,ولا الجائزة ,ولا تمن على الوطن بارواح ابنائها,فانها الفوز والضريبة التي يدفعها ,ولكنها ملفات يجب ان يتم استنطاقها بضمير منصف,ووعي بمدى المعاناة التي عانت منها تلك المدينة الباسلة التي عمدت حريتها بالدم والدموع والسؤال,مجرد السؤال, عن تلك الدماء التي سالت في لحظة فاصلة في عمر الانسانية والتي ستبقى محفورة في ضمير الشعوب الحية المحبة للحرية والخير والسلام..
التعليقات (0)