علي حسين عبيد
يقول ذوو الشأن وأنا من بينهم، أن نزعة الاستحواذ (المستشرية) تتلبس الشخصية العراقية منذ عقد من السنوات تقريبا، وهناك لهاث مسموع و(مرئي) نحو جمع المال والحصول على المكاسب، ويمكن أن نضع نيسان 2003 كنقطة شروع لانطلاق ظاهرة الاستحواذ بصورة مثيرة للاستغراب، بالتزامن مع أجواء الانفتاح التي حدثت بعد التأريخ المذكور، وتوسعت فجأة على نحو غير مسبوق، لكننا نتفق على ان الاستحواذ المعتدل غريزة طبيعية تدخل في تركيبة الانسان، ولا غضاضة فيها عندما تتميز بالاعتدال، أما ما أتحدث عنه هنا، هو ذلك اللهاث الجماعي نحو تحقيق المكاسب المادية بشتى الطرق، حتى لو كانت مخالفة للقانون الوضعي أو الاعراف أو حتى الاحكام الدينية. علماء الاجتماع يؤيدون وجود هذه الظاهرة لدى العراقيين، ويؤكد بعضهم على أنها تقف وراء حالة الخوف والقلق التي يعيشها العراقي في حياته اليومية ونظرته الى المستقبل، لهذا تعددت الولاءات، وصار الاحتماء بالدائرة الانتمائية الاصغر، بديلا عن الانتماء الى الدائرة الأكبر (الوطن)، فقد اصبح الانتماء القبلي أو العائلي أو الفئوي أقرب الى الفرد العراقي من سواه، وشاعت في المجتمع حالة تعدد الولاءات، وانبثقت كيانات وتجمعات صغيرة وكثيرة توزعت على امتداد العراق، ويؤكد ذلك ظهور عشرات التجمعات المجتمعية والسياسية التي اعلنت تشكيلها، وتأسيسها تحت غطاء قبلي، عشائري، أو ديني، حتى صار الفرد العراقي يجد فيها ملاذا يحتمي به، بدلا من الاحتماء (بالوطن/ القانون).قد يرفض بعض من يهمهم الأمر هذا الاستنتاج، وقد يرونه معمَّدا بالمبالغة وتضخيم الواقع، ولكن يمكننا أن نتأكد من صحة هذا الكلام حين نوجّه السؤال التالي للفرد العراقي: هل أنت قلق على حاضرك ومستقبلك، وهل تخشى المستقبل؟ ثم لماذا هذا الهلع والركض وراء تحصيل المال؟ وعند الاجابة بصدق وأمانة و وضوح، سنلاحظ أن الدافع الاول لحالة الاستحواذ واستشرائها، هي الخوف من المستقبل، أما الاسباب فهي لا تغيب عن المراقب المتخصص والدقيق، لقد كان المجتمع العراقي ولا يزال ضحية منظومة سياسية (شرهة) تفتقر للشخصية والعقلية النموذجية، إذ لم يظهر بين العراقيين العقل المنقذ والشخصية المحورية التي تشبه مثلا (نلسون مانديلا)، نعم نحن نحتاج الى (مانديلا عراقي) ونريده نموذجا حيّا يعيش بيننا، لكن لم يحدث ذلك، حتى بعد أن فُسِحَ المجال واسعا (باطاحة الدكتاتورية) للسياسيين (المناضلين) الذي أمضوا عشرات السنين في المنافي أو سواها، لكن العكس تماما هو الذي حدث، حيث الصراع على السلطة والمناصب والمنافع الفردية والحزبية والجماعية وصل أوجه، لدرجة أننا بتنا نخشى على مستقبل الدولة التي نحلم بها، دولة المؤسسات، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون، لهذا فالمواطن العراقي الذي ظل يعاني عقوداً متواصلة من البطش وسحق الهوية الفردية وحتى الوطنية، وجد في اجواء الانفتاح مبررا نفسيا لتفعيل ظاهرة الاستحواذ، التي فرضت نفسها عليه بقوة، فدفعته الى تحصيل المال (ظنا منه انه يحمي مستقبله) بطرق معظمها لا مشروعة تعتمد الاحتيال والمراوغة والتبرير وما الى ذلك من أعذار، تبرر التجاوز على المال العام، والتجاوز على حقوق الآخرين، لتصبح ظاهرة سلوك مجتمعي مبرَّر وهنا تكمن الطامة الكبرى، حيث تشيع الآن بين الناس جملة (أكوِّن نفسي) باستغلال الوظيفة.وهكذا حين يعجز النظام السياسي الراهن عن طرح النموذج المنقذ، فإن ظاهرة الاستحواذ سوف تتنامى وتستشري باضطراد، يرافقها تعدد الولاءات الصغرى، مع عد تنازلي للولاء الوطني الأكبر، ينتج عن ذلك خوف من الحاضر والمستقبل، يتلبس الفكر والحركة الفردية والجماعية المجزَّأة أصلا، وفقا للانتماء العشائري أو الديني او العرقي أو حتى المناطقي، وهو خطر يحيق بالمجتمع العراقي، يتحمل نتائجه الصعبة والخطيرة النخب وقادتهم، وأولهم وأكثرهم مسؤولية (النخبة السياسية) التي لا تزال تتخبط في مستنقع المنافع والصراعات والحسابات الضيقة التي تضع مصلحة (الأنا) فوق مصلحة الوطن والمجتمع في آن.
التعليقات (0)