كثرت الأحاديث وتوالت البيانات التي تشجب ما يقع بمدينة الخميسات المغربية من انفلاتات أمنية تجلت في تكرر حالات السرقة بأنواعها والسطو المسلح على الأشخاص والمحلات التجارية وتزايد معدلات الجريمة حدا جعل ساكنة هذه المدينة الصغيرة "يخشون عودة عهود السيبة" كما جاء في بيان للفرع المحلي لأحد الأحزاب السياسية.ولعل الاعتداء الذي تعرض له مؤخرا الفنان" يونس الهري" من طرف عصابة مسلحة كان القشة التي قصمت ظهر البعير وزكت مخاوف الساكنة والهيئات السياسية والجمعوية على حد السواء.
ولغاية وضع الأصبع على الداء، أو لنقل ،محاولة تبيان الأسباب الكامنة وراء تفشي بعض السلوكات الإجرامية واستفحالها، فقد جهزنا عدتنا السوسيولوجية وأشهرناها في وجه ذلك الغول الذي يخشى الجميع الاقتراب منه : إنه الواقع، وما أدراك ما الواقع. وقد توصلنا إلى تحديد خمسة أسباب مرتبطة بالواقع المعاش على جميع المستويات غير مكتفين بالتركيز على الجانب الأمني من منظور أحادي ضيق الأفق.وقد يقول قائل أننا نستخف بهذا الركن الأساسي الذي لا محيد عنه لضمان سلامة المواطنين وأمنهم وأمن ممتلكاتهم،ونحن لا ننكر ضرورة توفير منظومة أمنية متطورة ومجهزة عدة وعددا،لكن تبقى شروط العيش الكريم هي اساس الأمن الحقيقي وخير ضمانة لتحقيق السلامة النفسية والبدنية للمجتمع برمته،وهنا نتحدث بالضبط عن ظواهر يجب دراستها ومن ثم طرح الاسئلة المناسبة في سبيل وضع مقاربة شمولية تستوعب الاسباب العميقة لتفشي السلوك الإجرامي بعيدا عن الدعوة لتعميم منطق القمع الذي حتى وإن أدى إلى انتفاء الجريمة بشكل نهائي فإنه لا محالة منبثق عن قواعد مغلوطة في التعاطي مع مثل هذه الظواهر الإجتماعية،لذلك فإنه بات من الواجب معالجة المشكل من الجذور بغية ضمان حق العيش الكريم لجميع أفراد المجتمع،ولا يجب أن نتناسى كون أولئك الذين ننبذهم وننعتهم بالمجرمين هم بالضرورة نتاج للسياسات الإقتصادية والإجتماعية السائدة،وهم بذلك إفراز من إفرازات هذا المجتمع الذي نتعايش داخله.ولا مجال لتغطية الشمس بالغربال كما يقال.
1-الفقر والبطالة : أمهات الخبائث
تعيش مدينة الخميسات أسوة بالعديد من المدن المغربية المهمشة،على واقع قلة فرص الشغل،والسبب هو غياب دينامية اقتصادية قادرة على استيعاب النمو السكاني المطرد "521.815 نسمة حسب إحصائيات سنة 2004، 198.000 منهم يقطنون بالمجال الحضري " نسبة كبيرة منهم مكونة من الشباب نجدها تعيش أسوأ ما يمكن للعقل البشري تصوره ألا وهو العطالة.
فبعد إغلاق جل الوحدات الإقتصادية بالحي الصناعي، اتجه شباب المدينة إلى مناطق أخرى قصد تحسين وضعيتهم المادية ومساعدة أسرهم،وهكذا شهدنا كيف غادرت أفواج من الشباب صوب مدن أخرى(طنجة،أكادير ،بركان..)،لكن ذلك لم يكن ليقضي على أثار البطالة بشكل نهائي وهو ما يمكن أن نسميه بطالة مقنعة إذ أن فرص الشغل تكون في الغالب موسمية و سرعان ما يعود هؤلاء الشباب ليلتحقوا بطابور البطالة رفقة أجيال أخرى.. وهكذا دواليك إلى أن أصبحت المدينة مجالا للموت النسبي والتقاعد المبكر بامتياز.
وليس بالغريب إذن، والحالة المأساوية هذه ، أن يلجأ الشباب إلى حلول أخرى لمواكبة إكراهات عصر العولمة، وهو ما يعرف في حقل السوسيولوجيا بالحالات اللامعيارية ،أي عندما يصطدم الفرد باستحالة تحقيق أماله وتطلعاته بالوسائل المتاحة أمامه.
إن الإفلاس الإقتصادي / المادي، يؤدي إلى انحراف الفرد عن المسالك الضيقة التي تتراءى أمامه ،فيلجأ بشكل ضارب في العشوائية إلى فرض منطقه الخاص وفقا لما قد يراه حلا لإشكالاته المستعصية،إشكالات إذا تغذت بالتفكك الأسري وانتشت بانتشار المخدرات فإنها لا محالة تصير بلون المأساة التي تدمر الفرد والمجتمع على حد السواء.
لقد قالها أبو ذر الغفاري قبل أربعة عشر قرنا، ولو أن الزمن أسعف هذا الصحابي الثائر ليعاصر مدينة كالخميسات لكررها مجددا :
عجبت لمن لا يجد القوت في بيته / كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه.
2-فشل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية :
اعتبرت هذه المبادرة بمثابة القمقم السحري الكفيل بإيجاد حلول ناجعة لأشد المعضلات إنتاجا للجريمة والانحراف، وعلق عليها الفقراء كل ما تبقى لديهم من آمال لعل وعسى تقضي على أمهات الخبائث الأنف ذكرهما،وكانت شعارات المبادرة رنانة تخلب الألباب كما يقال ،لكن لكل شيء في المغرب نقصان، وهذه المبادرة اغتيلت في المهد وفق العديد من الحقائق المتعلقة بالمشاريع المبرمجة في إطار المبادرة والتي لم تر طريقها إلى النور،و منها على سبيل المثال ذلك "المنزل" الذي قيل انه كلف 87 مليون سنتيم وشيد ليحتوي أنشطة الصناع التقليديين والحرفيين الصغار القاطنين بحي أحفور المعطي الغارق في كل أشكال الفقر المذقع،لكن لا شيء من ذلك حصل وبقيت دار لقمان على حالها إلى يومنا هذا ولازالت البناية المليونية مغلقة الأبواب باهتة الواجهة كأنها أثر معماري قديم.
مثال آخر للمشاريع الموقوفة التنفيذ يتجلى في المركب التجاري "المعمورة" والذي يستحق بكل جدارة أن يدخل كتاب "غينيس" للأرقام القياسية من أوسع الأبواب باعتباره أبطأ مشروع عرفه التاريخ.فقد تمت بداية الأشغال به في مطلع تسعينات القرن الماضي ولازال إلى يومنا هذا مغلقا لا تستفيد منه سوى الكلاب الضالة وطوائف سكارى الليل. والأغرب انه عند انتخاب المجالس البلدية المتعاقبة يتم تبليطه بأرخص أنواع الجير والله وحده يعلم كم يكلف ذلك ومرة أخرى تبقى دار لقمان على حالها مهجورة تثير الفزع في النفوس حارمة شباب المدينة من فضاء تجاري يحتوي فراغهم وعطالتهم.
إن هذين المثالين ليسا سوى فيضا من غيض عشرات المشاريع الوهمية أو الموقوفة التنفيذ والتي سنعود إليها في تحقيق مفصل قادم .لكن الرسالة التي يجب أن يستوعبها المسئولون المباشرون عن إهدار أموال الفقراء هي أنهم السبب الرئيسي في فشل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لكونهم المشرفون المباشرون على تنفيذها أسوة ببعض الفعاليات الجمعوية التي اغتنى أصحابها بفضل أموال الفقراء ولم يروا في المبادرة سوى كعكة اقتسموها(...).
لقد انقلب السحر على الساحر والمبادرة التي أتت لتحل المشاكل المستعصية لم تزدها إلا استعصاء والآن لا يسعنا إلا أن نقول : فكها يا من وحلتيها.
3-القرقوبي :
"أذكر أنه قبل أشهر قليلة وصل ثمن حبة القرقوبي إلى أدنى مستوياته،وقد بيعت ألاف الأقراص المهلوسة بثمن رمزي يساوي ثمن علبة بسكويت"
هكذا تحدث أحد الذين استجوبناهم من العارفين ببورصة المخدرات القوية، ولنا أن نتساءل :بما أن القرقوبي يدخل من الحدود مع " جيراننا" الشرقيين،فكيف تجتاز هذه الكميات من السموم عشرات الحواجز الأمنية لتدخل وتروج داخل مدن بعيدة كل البعد عن المنطقة الشرقية كمدينة الخميسات مثلا؟؟
إن مدمني القرقوبي يعدون قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في كل حين، ومن المعروف أن الحالة النفسية والعصبية للمدمنين يصعب التحكم فيها فتجعل المستحيل ممكنا وقد يأتون جرائم شنيعة دون أن يشعروا بشيء ،والمأساة تزداد تعقدا إن لم يتمكن المدمن من توفير المال اللازم لسد حاجياته من المخدرات ،وفي كلتا الحالتين فإنه خطر على خطر،والإحصاءات تشير إلى أن أغلب حالات الإجرام، خصوصا العنيفة منها، تتم تحت تأثير أقراص الهلوسة،والإحاطة بملف شائك كهذا يعد من الأمور الصعبة(...) لكن ذلك لا يمنع بحال من تكرار التساؤل عن كيفية دخول هذه الكميات الهائلة من الأقراص المهلوسة إلى الأسواق السوداء بالمدن الداخلية؟وعن دور وزارة الصحة في توفير فضاءات موازية تأوي المدمنين وتعالجهم بشكل فعال كفيل بإعادة إدماجهم بشكل طبيعي في الحياة..
4-المجتمع المدني والنخب السياسية ؟؟
يقصد بالنخب السياسية تلك الهيات المنتخبة سواء على مستوى المجالس المحلية أو المركزية وهذا ما سيجرنا حتما إلى جدلية العلاقة بين السياسي والمواطن والتي تتحدد وفق الميثاق الذي يربط بينهما والمحدد حسب البرامج الانتخابية.. وهلم ما جر من المسائل المعروفة.
وداخل مدينة كالخميسات،تتكرس القطيعة بين مسئولين لا يرون في المواطنين غير حشاشين وعاطلين يستغلونهم كل خمس سنوات قبيل الانتخابات "النشاط الوحيد الذي يقوم به - رجالات- السياسة على صعيد المدينة يكون أثناء الحملات الانتخابية" كما قال أحد العاطلين قبل أن يضيف "أما الوعود فإنها تذهب جفاء والمرشح الذي كان بالأمس القريب يمشي على رجليه بين الشوارع يستجدي أصوات الناخبين ويعدهم بالخير الوفير إن هو نجح في الإنتخابات تجده اليوم منغمسا مشغولا بتعداد مشاريعه ومشاريع أبنائه وبناته وسياراته وسيارات أصهاره.." .
إن الغياب الكلي للإرادة السياسية في محاربة الفقر وغياب المحاسبة المباشرة للمسئولين عند نهاية فترات مكوثهم على كراسي التسيير ساهمت بشكل مباشر في بلوغ اليأس والإحتقان الإجتماعي أعلى الدرجات، وهو ما يهدد في الصميم شعارات الواجهة من قبيل الدمقرطة والتحديث..ويؤدي بشكل رئيسي إلى فشل المخططات التنموية الخماسية والسباعية وغيرها من شعارات الواجهة...
أما المجتمع المدني فإن دوره الموازي لعمل الهيات السياسية يظل حاسما من منطلق موقعه كقوة اقتراحية تبادر إلى تسمية الأشياء بمسمياتها عوض الاختباء في جلابيب السياسيين والركض خلف منح الدعم وتبديدها فيما لا يعود على السكان بشيء.
لقد كان من قبيل التهكم على دور الجمعيات القول بأنها،في الواقع،لا تفعل شيئا. لكن الواقع يجعل هذا التهكم حقيقة مرة يتجرعها الجميع،واليوم من منطلق تشخيصنا للواقع، نقول أن الكرة في ملعب من يريد لهذه المدينة إصلاحا لأن تردي الأوضاع الأمنية هو مسؤولية وإعادة الطمأنينة مسؤولية الجميع ايضا.
5-الحلول الأحادية :
الحل الأمني ضروري لاجتثاث الجريمة وهو أمر معمول به في كل بلدان العالم لكنه لوحده لا يكفي لاقتلاع الجذور التي تتغذي باستمرار عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ودور رجل الأمن أشبه ما يكون يمن يقتلع أغصان الشجرة في الوقت الذي يغذي المسؤول الفاسد جذورها ، وهكذا سندخل حتما في دوامة الدجاجة والبيضة ومن يسبق من،في وقت أضحت فيه المؤسسات الإصلاحية مرتعا لتفشي كل أشكال الانحرافات التي قد تجعل من يدخل السجن نظيفا يغادره مدمنا خبيرا باستعمال كل أنواع الأسلحة البيضاء وهو ما يعيد بشكل أوتوماتيكي صياغة الجريمة في قوالب أكثر خطورة وهو ما يعني بالضرورة أن الإصلاح يتم عن طريق توفير بدائل حقيقية تمتص البطالة وتوفر للشباب حضنا آخر غير حضن الجريمة.
لقد اتضح بالملموس أن الاليات العقابية المعمول بها لا تزيد الجريمة إلا استفحالا، والواجب في مثل هذه الحالات هو توفير تكوين متكامل يضمن تأهيل السجين من جميع المناحي النفسية منها والعملية في أفق إدماجه داخل المنظومة الإجتماعية بعد مغادرته للسجن وإلا فإن صورة السجين السابق لن تزداد إلا سوداوية سواء في ناظريه أو من منظور المجتمع الذي لا يرى فيه غير شخص خطر يجب تفاديه وهو ما يعمق الهوة ويكرس صورة السجين الإجرامية.الأمر الذي يجعله مرتبطا وجدانيا بالسجن وما إن يغادره حتى يعاوده الحنين إليه مرة أخرى بأي وسيلة وهنا مكمن الخلل بالضبط خصوصا وأن العديد من الجرائم يرتكبها أشخاص لهم سوابق سجنيه.
لقد حاولنا من منطلق المسؤولية الملقاة على عاتقنا كشباب معنيين بكل مل يتعلق بمدينتنا، أن نشرح الأسباب التي نراها قد أدت إلى تنامي المظاهر الإجرامية وقد ركزنا على الجانب الاقتصادي باعتباره عصب الحياة وحاولنا وضع مقاربة متكاملة ترصد الظاهرة الإجرامية وتفاعلاتها وتجلياتها المختلفة آملين أن تكون هذه المقاربة أرضية نقاش مفتوحة في وجه جميع المتدخلين بغية إغنائها وتصحيحها إن استوجب الأمر ذلك، والمجال مفتوح أمام الجميع لأن تنمية مدينتنا تعد بمثابة رهان نستعين لتحقيقه بكل ما أصبحت الأنترنت توفره من أدوات إعلامية بديلة وأبرزها المدونات الإلكترونية التي أضحت منبرا لمن لا منبر لهم.
التعليقات (0)