مواضيع اليوم

الخلود في زهرة الصندل

يوسف رشيد

2011-05-27 11:56:45

0

  مدخل إلى الرواية :

 

 

 رغم الكم الكبير من الحكايات الشعبية المبثوثة في كتب التراث العربي ، إلا أن هذا التراث ، لم يعرف الرواية ، ولو بشكلها الفني البسيط ..

إن السِّيَرَ الشعبية ، والقصص ، والمقامات ، لا تقترب من حدود الشكل الفني للرواية الحديثة ، وإن كان في الكثير من عناصر الرواية : كالزمان والمكان والشخوص والحوار والحبكة وغيرها ..

ومن تلك الأعمال :

سيرة عنترة ، وأبي زيد الهلالي ، والمقامات ، وقصص الحب ... إضافة إلى ما كان يُروى على ألسنة الطير والحيوانات المختلفة ..

ولأن علاقة الرواية بالتاريخ حتمية ، فإنه يحكم ولادة الرواية ومسارها وتطورها ..

وتحتضن الرواية زمانا ومكانا متميزين ، وترسم أشكالا من الصراع تدور فيهما ، ويكون الصراع المرسوم والمحدود بالزمان والمكان ، مرآة لمجتمع محدد ، وصورة له ..

كما أن ارتباط الممارسة الروائية بتحولات مجتمع معين ، هو الذي يقيم علاقة حميمة بين الرواية والتاريخ ، ويجعل المعرفة الأدبية التي تنتجها الكتابة الروائية ، معرفة موضوعية ، تلتقي مع المعرفة التاريخية ..

والرواية ، في بحثها عن انتماء ، أو هوية معينة ، تعقد حوارا بين أزمنة مختلفة ، وتكون شكلا من كتابة التاريخ ، تتضمن الخطاب التاريخي ، وتفيض عنه أحيانا ..

إن الرواية تستعيد الماضي لتقدم شرحا للحاضر ، وللتطور اللاحق ..

كما أن احتدام التناقضات الاجتماعية لم يجدد الرواية في مضمونها فحسب ، بل قدّم الإمكانية الفعلية لفعل الروائي الحقيقي ، وكرّس الرواية كقوة فنية حاسمة ، لفترة تاريخية بأكملها ، وطرح في الوقت نفسه ، معضلات جديدة أمام الفعل والشكل الروائي ..

 

وقد تزامن ظهور بوادر للرواية العربية ، مع ولادة البورجوازية العربية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ..

وقد عبّرت هذه البورجوازية عن مسار ثقافي تابع للغرب ، كونها تابعة له سياسيا واقتصاديا أيضا .. الأمر الذي جعل منها عائقا حقيقيا في وجه التطور الاجتماعي الوطني ، ومارست دورا تمهيديا للتبعية بدل الاستقلال ، يفصل ممارسة الكتابة عن الواقع الاجتماعي ..

وفيما حققت البورجوازية الأوربية ثورة ثقافية عريضة ، فقد أخفقت مثيلتها العربية ، ووقفت بعيدا عن حركة المجتمع ، ونزوعه التاريخي نحو التطور والتقدم .

 

رواية : زهرة الصندل :

صدرت عن دار الكرمل بدمشق 1981

 

 تمثل " زهرة الصندل " إحدى أهم إبداعات الأستاذ وليد إخلاصي الروائية ، كونها تمثل " الميثولوجيا الشعبية الحلبية " خير تمثيل ، في كل تفاصيل الرواية .

فقد كان وليد إخلاصي حريصا على إعادة " الخلق لما هو قائم " في هذه المدينة ، أكثر منه " حكواتيا " ناقلا لمخزون الشعب وأفكاره وأحداثه .

ولعل هذه الرواية " عِقد زواج شرعي بين الحكاية العربية ، والرواية الغربية " كما يصفها الكاتب نفسه .

وقد نمت شخصيات الرواية وأبطالها " المتعددون " بشكل صحي ، وصحيح ، من خلال المشهد البيئوي ، مما أكسب الرواية نكهة " حلبية " وطابعا " محليا " فيهما الكثير من الإيماءات والعلاقات الإدهاشية .

ومن خلال " المنظور العائلي للوطن " أو " المنظور الوطني للعائلة " ، كتب وليد إخلاصي روايته جاعلا الوطن " عائلة وطنية كبيرة ، حسب قول الناقد الصديق " محمد جمال باروت " ..

فالكاتب يرى أنه : " بالرغم من تشتت أفراد العائلة ، موتا ، وهربا ، وقتلا ، وهجرة ، فإن الرمز باق ، متمثلا بالجدة : وهوب " ..

" الجدة هي العائلة ، وهي المدينة / الوطن " ..

فإذا كان الإنسان في خطر ، كانت العائلة في خطر ، وبالتالي ، فإن الوطن بخطر ..

وللوقوف في وجه الخطر ، لا بد من " الفن " ..

فهل كانت الرواية ردَّ فعل انعكاسي ؟؟

حين تجد الخطر زاحفا أو كامنا أو يلوح لك بالتحدي ، تعود إلى داخلك بحثا عن العزاء ..

حب الوطن ، هو العزاء ..

والوطن ، ليس هو الجغرافية والتراب فحسب ، إنه محاولة الاستمرار بالحياة في أسوأ الأحوال ، وهو ربط الزمن الراحل ، بالزمن الآتي ..

العِلم ، يربط الجغرافية بالحياة ، أما تحويل الجغرافية إلى رمز ، وأمثولة ، فتلك مهمة الفن ..

والزمن هو الذي يعطي للمدن سرها ، فتمنحه بدورها للفن ، ويوما بعد يوم يزداد إحساس الكاتب بالكشف عن الجيولوجية الإنسانية / المدينية ، حتى يغدو أثر المدينة في الكتابة قدرا لا حيلة للكاتب في التحكم به ، إلا بمقدار ما يستطيع أن يحكم التفكير فيه ..

وتأتي زهرة الصندل ردة فعل عنيفة على الخطر الذي كان يتهدد المدينة / حلب ..

لكن لم تكن الرواية مجرد انفعال بأحداث معينة ، إنما تلك الأحداث ، فجرت في أعماق الكاتب ، التراكمات القديمة ، ونبشت المخزون ، عبر مئات السنين ، ليظهر في الرواية على هذا الشكل ..

فالرواية ـ كما يصفها الكاتب ـ " ليست واقعية تماما ، وليست متخيلة تماما .. إنها رواية ، وحسب " ..

إن قلعة حلب ، امرأة .. والمرأة العظيمة هي : الأم .

فيتخيل الكاتب احتفالا بالعيد المئوي الأول لامرأة ربّت أجيالا ، وهي تسكن دارا قديمة من طراز عربي قديم ، أنجبت أربعة أولاد :

قتِلَ الأولُ شابا على يد العثمانيين .

والثاني قتِلَ شابا على أيدي الفرنسيين .

والثالث قتِلَ في أول فوج ذهب إلى فلسطين ضمن جيش الإنقاذ .

والرابع صرَعته رصاصة طائشة في أيام الفوضى .

" أحمد قتله الأتراك ، وعبد السلام الفرنسيون ، وأما محمد فصرعته رصاصات اليهود ..

ومصطفى ؟ رصاصُ مَنْ قتله ؟؟ " .

هذا هو السؤال الأهم في الرواية .. ص 65 .

وصار لهؤلاء الأولاد أبناء ، ربّتهم الجدة ، وهي التي اعتنت بأولادها ..

لكنهم كانوا يموتون أو يهاجرون أو يتركون الدار القديمة إلى بيوت حديثة في أحياء أخرى من المدينة ، وكانت كلما فقدت أحد أحفادها ، ينحني ظهرها قليلا ، ثم ما تلبث أن تستعيد استقامة قوامها .

هذه الجدة ، هي الوطن الذي لا يمكن أن يستسلم ..

وبمرور الأحداث القاسية في المدينة ، تصاب المرأة بالمرض لأول مرة في حياتها ، لكنها لا تستسلم له ..

ويعلن الأطباء أنه " بالتأكيد ، سنحتفل بعيد ميلادها المئوي الثاني " .. ص 179

إن الجدة شخصية غير قابلة للموت ، لذلك ، لم يكن المرض سوى مجرد ردود فعل للروح والجسد ، ضد أزمة أو ضيق ص 180 .

إنها الشخص المكرَّس للانتصار على الموت .

إنها ستبقى مثل شجرة الصندل ، دوما ، تفوح بأريج إرادة الحياة ..

 

ـ كتب جميل حتمل ، القدس العربي ، السنة ألأولى ، العددان 126/127/ ـ 19 ـ 20 /09/1989 .

إن " زهرة الصندل " حالة استثنائية في الزمن الروائي عند الكاتب .. وقد كتبها للتغلب على الذعر الذي أصابه جرّاء شعوره بإمكانية تفتت ما هو متماسك :

المدينة ذات الأبعاد الجغرافية ، والنظام الإنساني المعين الذي يربطه بالآخرين ..

لقد بدت كل الأشياء مهددة بالخطر ، فكان لا بد من التقيد بالزمن التاريخي لأحداث الرواية ، حتى يكون الكاتب " شاهدا " في عصر محدد ، وفي مكان يعيش فيه ، ويخاف عليه ، ويشعر " أنه الشاهد الوحيد على هذا المكان / الوطن / حلب / " ..

معلنا أنه : " لا يمكن الاعتراف بكاتب إلا إذا كان واقعيا " ..

 

لقد رسم وليد إخلاصي " الأنصارية " رسما فيه الكثير من الأناقة والتراث ..

ففيها : " أشجار النارنج والجوز والتين ودالية " ص 13

وفيها من الورود : " الفل والليلك والياسمين والتمر حنة " ص 39 .

وهي قريبة من الجامع الأموي في المدينة / حلب .

فيها خزانة للأسرار ، وبلاطها خلخله الزمن ، وصارت الدار وعاء الأحزان والتأملات ، إذ دُفِنَ في " القبلية " أولياء " لا يُعرَفُ لهم تاريخ " ، ثم جُعل في الدار بركة ماء ، وجب ، وسقيفة ، ودكة ، وخزائن خشبية ، وصهريج ماء ، وبهو مضاء بنور هادئ ، وفيه مقاعد جلدية فقدت لمعانها ، وساعة جدارية قديمة تشيع الرنين المهيب ..

ومن " الأنصارية " يمكن الخروج إلى القلعة عبر باب يتصل بسرداب ، كأنه الحبل السري الذي يربط القلعة / الأم ، بالأنصارية / الوليدة ..

أما الجدة وهوب ، فقد حمّلها الكاتب أكثر بكثير مما تحتمل ، فنسب إليها كل الفضائل والمكرمات :

سديدة الرأي .. بعيدة النظر .. مرهَفة الإحساس .. دقيقة الملاحظة .. سريعة البديهة .. لها قدرة هائلة على الصبر والتحمل ..

ذات مروءة وكرم وشجاعة وحزم وحسم وأناة وذكاء ..... إلخ .

حتى لكأن الكاتب يوحي إلينا بأن وهوب هي : " القلعة " ذاتها .. والقلعة : لا تموت . ص 168 ..

والأنصارية : " لا تهدمها القنابل " .. ص 171 ..

" اردم حبس الدم في القلعة ، ثم نتحادث " ص 171..

 

يُحسِن الكاتب استخدام أدواته الفنية ، في إقناعنا بأن الأشياء يمكن أن تخلق من لا شيء ، وبأنها موجودة منذ القديم ، رغم إدراكنا لها بحداثتها .. ولا يجد الكاتب نفسه في حيرة وهو يعيد صياغة المواقف وترتيبها " وفبركتها " أحيانا للتخلص من أزمة أو استعصاء ..

وبظهور " ليلى " ، لا تعود عيناه تريان الخراب أو الشقوق في جدران الدار .. وبغيابها " يعود الخراب إلى الدار ، فتظهر الشقوق " .. ص  43/44 ..

ويعلن الكاتب أنه يريد أن يكون دوما مع " المدينة في استمرارها ، مع الحب والطمأنينة ، مع الجدة ، مع ليلى " ص 94 .

وأنه لن يتراجع عن حبه لليلى وكرهه للعنف الذي يرسل أصواتا تخدش حلم المدينة في السلام ..

وهكذا ، " ليلى تشبه جدتها وهوب ، وأحمد يشبه جده أحمد " ص 129 ..

إن ليلى " مشروع مهندسة " تحب المدينة ، لذلك تكلفها جدتها وهوب بوضع المخططات اللازمة لإعادة تعمير كل شيء ، لأن الأبناء سيعودون ذات يوم ، فكيف تستقبلهم تلك الأماكن الخربة ؟! " .. ص 143 .

وليس لليلى التذرع بأنها ما زالت مبتدئة ..

فهي ابنة " الأنصارية " ، لا تحد طموحاتها ، ولا تتوقف إبداعاتها عن العطاء المستمر والتجدد الأبدي ..

 

 ــــــــــــــــــــــ

 

متابعة :

مقتطفات من حوار نقدي اشترك فيه أستاذي وصديقي الدكتور فؤاد المرعي ، والصديق الأستاذ محمد جمال باروت  ، في آذار 1987 :

 

يقول د . فؤاد : وليد إخلاصي روائي بارع .. وكي يخلصَ نفسَه من كل ما يُحاكم على أساسه ـ كأن نقول له : إن خط هذه العلاقة غير معقول ـ اختار عالما أسطوريا يقول لنا فيه ما يشاء ، دون أن نستطيع محاسبته ..

فالأسطورة متكاملة البناء ، وهو حر بداخلها .. ص 15

إن وليد إخلاصي عاشق لهذه الثنائيات :

الصراع بين الخير والشر .. بين الجريمة والعدالة .. بين الحق والباطل .. بين الحرية والاستعباد ..

ففي رواياته جميعا نجد هذا الصراع بين مفهومين أخلاقيين متضادين ، وهذا ما يطبع إبداع وليد إخلاصي بطابع ذهني واضح .. لكن هذه الذهنية لا تقلل من حيوية عالمه الروائي ..

ويضيف : وهوب في زهرة الصندل :

تحمل فكرة مجردة تماما ، وهي فكرة استمرارية الحياة واستمرارية عطاء الحياة في وجه الموت الذي سيطر على المدينة ..

فهي الخير المجسد في وجه الشر ، وهي الحب في وجه العداء والخصومات ..

وليس من المصادفة أن يكون اسمها " وهوبا " ..

ومع ذلك ، فإن وليد إخلاصي قادر على أن يجعل من " وهوب " جدة حلبية حقيقية تجيد طبخ المأكولات الحلبية ، وتجيد النظافة والاستضافة .. وكل شيء يكاد يذكرنا بعجوز حلبية ..

 

 

كتبت كاتيا سرور : السفير اللبنانية ـ العدد 2760 / 07/01/1982

كانت مشاعر الكاتب متناقضة حيال المدينة / الوطن ..

فتارة يرى المدينة ذاهبة نحو الموت ، وأخرى يراها ملقحة ضده .. وهذه الخلخلة في الروح ، زادت الكاتب بحثا في العمق عن ينابيع الحياة في جسد المدينة ، فكانت " زهرة الصندل " .. وكانت الجدة " وهوب " في التحامها بالمكان ، حتى غدت الرواية قائمة على ثالوث :

الإنسان / المكان / السؤال عن طمأنينة مفتقدة في المكان / حلب / الأنصارية ، التي أصيبت في طمأنينتها .

فالإنسان ليس منفصلا عن المكان ، والإنسان لا يموت كونه يتوالد ، فيكون التبدل في الوجوه ، لكن المكان / البدء ، باق .. لأن المكان لا يمكن أن يموت ، إنه الشاهد على نفسه وعلى الشهود ، وعلى الوقت ..

 

 

ملاحظة : النص كله أعلاه مكتوب منذ عام 1994 .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !