مواضيع اليوم

الخطيئة الكبرى

قفصة تونس

2009-11-12 07:32:01

0

الخطيئة الكبرى..


   نشأت كثير من المفاهيم الدينية التقليدية – أو حتى المفاهيم المضادة لها - خلال تاريخنا الطويل نتيجة عوامل متعددة؛ منها ما كان وليد الاحترام المفرط لـ (العقل) والمبالغة في تقدير قدراته. وكان هذا العامل وحده كفيلاً بأن يثقل كاهلنا بإفرازاته المتناقضة؛ وذلك لاختلاف العقول وطرائق معالجاتها، وتباين مستوياتها التحصيلية والإنتاجية، وتأرجح حالات النشاط العقلي صعودا وهبوطاً، واختلاف مردود هذا النشاط زماناً ومكاناً. كما أن هذا العامل أيضاً كان كفيلاً بالصِّدام الناتج عن الغرور والاعتداد بالنفس والاحتقار المتبادل بين العقول المتنافرة.
   هذا إضافة إلى الخطيئة الكبرى التي تمثلت – سهواً أو عمداً- في تقديم (العقل) محدود القدرات على (الوحي) وتعاليمه الواضحة الصادرة عن القدرات المطلقة للخالق الذي (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ . يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) [1،2 سبأ]. حيث حوى تكاليفَه وضمَّنَها (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [1 هود].
ومع هذا المستوى في العلاقة بين العقل والوحي أصبح (الدين) صنيعة (المزاج) البشري وأحد منتجاته، حين طوّعت له الأحكام الاجتهادية المعقولة (ظاهراً)، بحجة أن الإسلام (دين العقل)، بعد سوق العديد من الآيات القرآنية التي تدعو للتدبر وإعمال العقل لتأكيدها، ثم تأويلها المتعسف لخدمة هذه الدعوى، وهي دعوى – إذا دققت النظر - فضفاضة لا يُعلم رأسها من ذيلها، ولا تُعرف متطلباتها اللازمة عنها بدقة، كما أنها تختلف مع ما أشار إليه الوحي من الانفصال التام بين شئون الدنيا وشئون الآخرة؛ ذلك أن أكثر المكلَّفين من البشر (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [7 الروم]. فالعقل خلقه الله لينطلق به الإنسان في آفاق الدنيا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أما الدين وعلم الآخرة، فلم يتركه الله عز وجل لنسبية العقل ومزاجيته، ولا فلسفته التي تأثرت قديماً بالفكر اليوناني الذي ترجمت آثاره في العصر العباسي، أو حديثاً بمنجزات (العولمة) وما قبلها؛ بل تكفل به الوحي، واختص به أمر السماء، وهو ما يتبين من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كَانَ أَمْرَ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ) أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي مقابل هذه النزعة الأرضية المغرورة، والمخدوعة بقدرات (العقول الأقزام)، والتي جارت على صلاحيات السماء، متغافلة عن حقيقة معنى: (الله أكبر)؛ نشأت أيضاً كثير من المفاهيم التي جاورتها فتشابكت معها أحيانا، وصارعتها أحياناً أخرى؛ نتيجة تقليص دور (العقل)؛ بل سحقه وإذلاله، حيث قُصِرَ استخدامه على أشخاص بعينهم في صورة (كهنوتية)، لا تعتمد حتى على الأدلة الواضحة المباشرة – غير النسبية – التي تتفق مع قدرات العقل المتاحة ووظائفه الواجبة التي خلقه الله من أجلها، بحيث لا تتمكن العقول السوية من نقض المفاهيم الاجتهادية البشرية الموروثة؛ لأن استخدام تلك الأدلة يفضح حالات التستر خلف مقولات وأحكام وتفسيرات وأصول معتمدة تاريخياً وجماهيرياً؛ على الرغم من كونها خاطئة. فلا سبيل لمحاولة مناقشتها علمياً ومنهجياً لتمتعها بحصانتين؛ الأولى: حصانة الأسماء المشهورة التي نسبت إليها تلك الأقوال والأحكام والتفسيرات والأصول على طريقة (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) [67 الأحزاب]. والثانية: حصانة الزمن، وأثر الإلف والعادة في نفوس المتلقين، الذين آثاروا الاتكاء على خيار وهمي يسمى "فهم السلف"، في تأكيد متجدد على المبدأ القديم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [22 الزخرف]، بل محاولة إلباس هذا التقليد الأعمى لباس القداسة والكذب على الله، والادعاء بأن هذا التقليد من مطالب الخالق (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [28 الأعراف].
   ومع محاولات الخروج من ربقة مستوى (العقل المسحوق) تحت أقدام رجال التراث ومؤلفاته، والانتقال إلى مستوى (العقل المتعالي) على الوحي بحجة النضج والتحرر؛ تعلو الصيحات بين الحين والحين، لفتح باب (الاجتهاد)، وهي دعوى مائعة سهلة التشكيل والقولبة لتصب في مصلحة أي اتجاه فكري، ولكنها تعني في هذا السياق: التحرر من ربقة الانسحاق الذي يخضع له العقل السلفي والانطلاق بعيداً... لكنه كثيراً ما يكون انطلاقاً في اتجاه المستوى الذي يتمتع به العقل (القزم المتكبر) الذي يجور على أخص خصائص الألوهية، ويجعل من نفسه حكماً عليها: (التشريع – القيم والأخلاق –الغيب).
في حين لا يعدم الناظر محاولات مشهورة مضادة ورافضة لدعوات (فتح باب الاجتهاد) على امتداد رقعة التاريخ، قديما وحديثاً، عن طريق محاولة تجميل الصورة المشوهة للتراث، والتغاضي عن مشكلاته، وتبرير جميع هذه المخالفات والخلافات تبريرات تسوق أعذاراً، لا يقل قبحها عن الذنب الذي ارتكب في حق الوحي والعقل جميعاً.
   وكثيراً ما يلاحظ من شاء أن يفتح عينيه على حقيقة المؤلفات التي ارتبطت بالتراث، قمة (الفوران) العقلي الذي يتجاوز حدَّه في مغامرات فكرية إلى آفاق بعيدة وغريبة، كما يلاحظ أيضاً قمة انسحاق العقل وانكفائه وذلته وتغاضيه عن مسلمات عقلية واضحة، لأنها فاضحة !!
   وفي ذات الوقت أصبحت القدرة الفائقة للباحث (المتحرر أو المنغلق) تتمثل في القدرة على السير البهلواني – أمام أتباعه - على الأشواك دون أن تدمى قدماه، ودون أن يستشعر المتلقى أن ثمة قلق أو تناقض في السياق العام لأفكاره المطروحة (السلفية أو الحداثية). وتأتي الثمار المحببة مع صيحات الجماهير المغيبة إعجاباً، حين يستطيع الباحث أن يقوم بـ (منطقة) المتناقضات، وتفويت الفرصة على صاحب العقل الواعي أن يجد ملجأً للتجديف على الأفكار التقليدية الموروثة أو تسفيه أيٍّ من الأفكار الحداثية الهائجة.
   إن هذه الأنواع المتنافرة من المفاهيم المولّدة لا تسير بمعزل عن بعضها بعضاً، فقد أصبحت جميعاً جزءاً من التراث والفكر الديني السائد بين الخاصة والعامة، وهذه المفاهيم التي في مجملها (خارج سياق الدين الإلهي) أصبحت محور الحديث والحوار والجدل (حول الدين) بين جميع التيارات.
   وقد وجدت جميع التوجهات التي استندت إلى التراث، في حالتي القبول والرفض، سنداً عظيماً، ومدداً من هذا الكم الهائل من النصوص المكذوبة والروايات الضعيفة أو حتى الروايات الصحيحة المؤوّلة تأويلاً مناسباً، وذلك في ظل تغييب متعمد لأي منهج علمي يقوم بتمييز الصحيح من الضعيف، وغياب أي آلية واضحة في التعامل مع النصوص.
لقد أُنْفِقَتْ جهودٌ كبيرة في الحديث عن التراث هجوماً ودفاعاً، وسقطت ضحايا، وتناثرت أشلاء أمام أعتابه... دون أن يظفر المتحاربون بمغنم يروي غلة الصادي!
ترى؛ أين (الدين الخالص) وسط هذا الركام؟! وكيف السبيل إليه؟!
   إن الإجابة على ذلك تتمثل في أننا لسنا في حاجة أبداً للوقوف على أعتاب تلك الأضرحة، فنتصارع مع ساكنيها حتى نستشرف الحقيقة، ونصل إلى إيماننا الذي ارتضاه الله لنا جميعاً... لقد أنفقنا جهدنا أمام الباب الخطأ ... لأن للإيمان سبيلاً أخرى... وصرحاً آخر... وباباً آخر!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !