|
|
خاص بالمركز العربي للدراسات والأبحاث
· توطئة:
يلتقي مفهوم الخطاب-لغة- مع جملة من المصطلحات الأخرى، التي تقع ضمن دائرة" التلفظ، والحوار، ومبادلة الكلام"؛ فقد جاء في اللسان:"الخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبةً وخطاباً، وهما يتخاطبان. وفصل الخطاب: أن يفصل بين الحق والباطل، ويميّز بين الحكم وضده" أما في القرآن الكريم فقد ورد لفظ خَطْب غير مرة، من نحو قوله تعالى: {فقال أكفلنيها وعزََّني في الخطاب}، و قوله تعالى: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}.
وإذا كان الخطاب قد انحصر- لغة- في هذه القيم الدلالية التي وقفت عليها سريعا؛ فإن استعماله المعاصر قد وسع من دلالته، وجعله أشبه بالمفهوم الفكري و الأيديولوجي الذي يشير إلى المنهج، والرؤية والتصور. ومن هنا، فقد أصبح من الممكن الحديث عن الخطاب السياسي، والخطاب الثقافي،والخطاب الديني.
هذا التصور الفلسفي لمفهوم الخطاب ينقلنا إلى الساحة الغربية، لتتبع بعض دلالاته لدى الغربيين؛ ولعلنا نقف على أول تصور غربي-حديث- لهذا المصطلح، وذلك ما قدمه (ز. هاريس (1952) في هذا المضمار من خلال بحثه المُعَنون بـ"تحليل الخطاب"، حيث انطلق في تعريفه للخطاب من علم اللسانيات الحديث؛ إذ نراه يقول: الخطاب "ملفوظ طويل أو هو متتالية من الجمل تكون منغلقة، يمكن من خلالها معاينة سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجيّة التوزيعيّة، وبشكل يجعلنا نظل في مجال".
أمّا الفرنسي( إميل بنفنست) فقد عرّف الخطاب من منظور مختلف، له أبلغ الأثر في الدراسات الأدبيّة التي تقوم على دعائم لسانية؛ فهو عنده"الملفوظ منظوراً إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل، وبمعنى آخر هو كلّ تلفظ يفرض متكلماً ومستمعاً، وعند الأوّل هدف التأثير على الثاني بطريقة ما" بينما طرح( ميشيل فوكو) نظرة متميّزة للخطاب حين ربطه بالسلطة،فهو عنده شيء بين الأشياء، وهو ككلّ الأشياء موضوع صراع من أجل الحصول على السلطة، فهو ليس فقط انعكاساً للصراعات السياسية، بل هو المسرح الذي يتم فيه استثمار الرغبة، فهو ذاته مدار الرغبة والسلطة.
وفي عام 1985 عرّف(موشلر) الخطاب على أنه"الحوار"، ثم قام بإجراء تحليلاته للخطاب (الحوار)، وكانت توحي بتأثره بآراء مدرسة (بيرفكام) التي حصرت الخطاب في "الحوار"، والتي أثرت في تعريفات العديد من اللسانيين الذين يكتبون بالإنجليزية مثال ذلك( مايكل هوو) في كتابه" حول ظاهر الخطاب" الذي أكد بأنه سيتعامل مع الخطاب باعتباره "المونولوج" شفوياً كان أم كتابيا.
· الخطاب الإسلامي والمعاصرة :
أما وصف الخطاب بالإسلامية والمعاصرة، فذلك مما يشير إلى انتمائه لمنطقين متعانقين هما: الأصالة والمعاصرة، أعني الثوابت التي تحدد استراتيجياته باعتباره نصا شرعيا يكلف به جمهور الأمة، ورؤية فكرية وسياسية متحركة ومنسجمة مع واقعها، مستجيبة لمقتضيات عصرها.
ومن هنا، فإن الحديث عن إسلامية الخطاب يدخلنا- حتما- في الحديث عن عالمية هذا الخطاب، والعالمية تقتضي الحديث عن مركزية تشكل بؤرة هذا الخطاب ومدارات تدور في فلكه، وإذا كان الأديب الألماني( يوهان وولفغانغ جوته) قد افترض عالمية الأدب حينما نظر-مع بدايات عصر النهضة - إلى أوروبا كمركز للإشعاع الثقافي ،فنادى بإحلال الأدب العالمي محل الأدب القومي باعتباره انعكاسا للفكر الأوروبي التنويري؛ فإن رسالة الإسلام تقتضي نوعا من المركزية التي تجعل من تعاليم هذا الدين منطلقا للتشكيل الكوني.
قد يقول قائل هنا: إذا ما دمتم تطالبون بالعالمية، فلماذا تقفون سداً منيعا أمام العولمة التي نظر لها الغرب باعتبارها آخر تجلياته الحضارية، وترفضون منطقها؟!!
وهل الخطاب الإسلامي العالمي، يتقاطع مع هذه العولمة أم يتناقض معها؟أم أنه بديل عنها؟
وأقول: لا شك أن منطق العولمة براق مغر، ومنسجم مع الانفتاح التكنولوجي وثورة الاتصالات التي تحسب للغرب، إلا أنه لن يكون نزيها أبدا، باعتبار أنه حلقة من حلقات (البلع) التي تسمح للقوي أن يأكل الضعيف، وليست كذلك العالمية الإسلامية، بل هي انفتاح كوني، من خلال الخطاب الفطري الذي ارتضاه رب العالمين للعالمين،أي من خلال المنطق البدهي:" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"، وهذا ينسجم مع طبيعة هذا المخلوق (الإنسان)"كلكم من آدم وآدم من تراب"؛ فالعالم –كله- مرتبط بالأصل الإنساني( آدم) و الأصل التكويني(التراب).
هذه الشمولية الإسلامية تقتضي أن يكون الخطاب الإسلامي كونيا، ولا أجد خطابا تبنته ملة لا يخضع للأهواء غير الخطاب الإسلامي القائم على توحيد الخالق والمساواة بين الخلق.
لكن هذه الشمولية التي تفترض سلطة واحدة هي سلطة الدين؛ أو سلطة الشرع باعتبار المنهج " إن الدين عند الله الإسلام " تقتضي- أيضا- واقعية في التصور التطبيقي لهذا المفهوم، أقصد مفهوم الخطاب، أي أن الإجراء التنفيذي لفرض أو نشر أو إيصال مفهوم الخطاب يقتضي رؤية عصرية واقعية ذات بعد فكري تتضح من خلال خطابه- سبحانه- لنبيه:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".
ومن هنا، كان دخولنا إلى موضوع "العصرنة"، أو الواقعية باعتبار أن المكلفين بتلقي هذا الخطاب ليسوا سواء؛ أعني: منهم المؤمن، ومنهم الكافر. ومن هنا كان لا بد من تنظيم العلاقات السياسية، والفكرية، والاجتماعية مع المخاطبين، وفق اعتباراتهم المختلفة، وهنا يأتي مفهوم الخطاب السياسي من خلال العلاقات الدولية والكونية المختلفة.
وحديثنا عن مركزية الخطاب الإسلامي لا يلغي قبولنا بتعددية الآراء والاجتهادات؛ ذلك أن التوسع في مفهوم المركزية يجعل الاختلاف واقعا ضمن دائرة هذه المركزية، بشرط أن تكون الجهود كلها موجهة نحو هدف سام واحد،وأن تكون هذه الاختلافات واقعة تحت سقف واحد( وهو الإسلام) باعتباره دينا للأمة(أي منهاج حياة)، وأن تكون الاجتهادات قابلة للتفاعل الجمعي المشترك والبحث، والتطوير، وصولا إلى الوحدة، وهي إحدى مطالب الشرع" الدين": "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "، " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " و" إنما المؤمنون أخوة".
وهنا ندخل إلى جدلية الخلاف الحزبي المتعلق بالخطاب الإسلامي المعاصر باعتباره خطابا فكريا سياسيا أيديولوجيا، له علاقة بإدارة الحياة، وتطبيق المفهوم الشرعي.
وسأتجاوز-هنا- الاختلاف العقدي؛ لأنه مشكل آخر من مشكلات الخطاب الإسلامي، مكتفيا بهذا النمط من الخلاف؛ لأنه الأقرب إلى التوجيه المطلوب من خلال مفهوم الوحدة؛ فالخطاب الإسلامي العصري(أي المعاصر) مطالب بفهم الواقع، والتعامل مع مفرداته، من خلال قاعدة تكثيف الجهود، ورص الصفوف، والسعي نحو كليات الأهداف، وصرف النظر عن الجزئيات، التي يسمح التصور الإسلامي الواسع لتجاوزها، أو على الأقل إبقائها ضمن دائرتها الضيقة، ورفض التعامل معها على أنها استراتيجيات في التصور الإسلامي، تتقولب حولها الفلسفة الفكرية للخطاب الإسلامي كله، وذلك من أجل الوصول إلى خطاب مبني على أساس تشكيل المركزية التي تمثل أولى مكونات استقرار الخطاب الفاعل.
هذه المركزية الفكرية الشاملة تعيد أبجديات التصور الإسلامي من خلال رد المنطلق الفكري إلى منابعه الأصيلة (القرآن، والسنة)، ورفض فئوية الخطاب، وعنصريته، واتكائه على مفهوم الأقلمة، مما يعني إعادة تشكيل الهوية الإسلامية وفق مفهوم الأمة، وتحطيم كل جدر الأقلمة، ورفض "الجغرفة السياسية من منظور استعماري" للبلاد الإسلامية، تلك (الجغرفة) التي مكنت الاستعمار: من الاستفراد بهذه الأمة وفق قانون (فرق تسد).
هذه المركزية هي الأساس المتين لفاعلية الخطاب الإسلامي، التي نص عليها الشارع قديما حينما تحدث عن بيضة الإسلام، وأوجب السعي لإبقاء الأمة موحدة تحت شرعة واحدة؛ وهذه الفاعلية هي التي تجمع الأمة في مشروع واحد، مما يجعلنا خطاب لا خطابات، ورؤية واحدة لا رؤى متعددة؛ لان التعدد يعني التشتت، والتشتت لا يمكن أن يكوِّن سلطة، ومن هنا نتحدث عن مفهوم (التبئير) في المركزية الحضارية.
لقد عاشت الأمة قرونا طويلة وهي تتمثل من خلال مركزية تسمى "بيت الخلافة"، وفي أفلاكها تدور نشاطات الأمة. وكان مفهوم الدولة يتسع ليشمل دار الإسلام بالمفهوم الفقهي، وكان الإمام أو الحاكم يتمثل في ولي الأمر أو الإمام أو الإمامة الكبرى التي لا يجوز تعددها –كما بين الفقهاء- وهذا التمركز المكاني لن يتحقق إلا بتمركز وجداني شعوري" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"
إن إدراكنا الواقعي لطبيعة الجغرافيا السياسية التي تحكم العالم اليوم من خلال منظومات القيم التي تتحكم في مفاصل الحياة، وتجعل من الدول العربية والإسلامية مشاريع غربية تعمل على مسح ذاكرة الأمة، وتغيير هويتها، واستعبادها، وإلحاقها بالغرب مرغمة، لا ينفي عنا ضرورة البحث عن تشكيل ذلك الجسد الواحد الذي يتداعى عند كل ملة وهذا ما يجب أن يكون عليه الخطاب الإسلامي الذي تمثله الحركات الإسلامية، أي أننا مطالبون من خلال هذه الواقعية لإعادة جدولة أبجديات التصور الإسلامي لتحقيق هذه الغاية المتمثلة في مركزية الإشعاع الحضاري على مستوى الفكر في هذه اللحظة.
نقول هذا ونحن نقف على أعتاب مرحلة خطيرة، تتمثل في ذلك التطور الجمعي المثير من خلال ثورات التغيير التي يجب أن نتعامل معها باعتبارها ثورة واحدة، لها أسبابها وأهدافها ليست المتشابهة فقط بل المتطابقة، ولا بد أن تكون هذه الثورات مقدمة لتحقيق تلك المركزية كما كانت الثورات الغربية الفرنسية وغيرها أساسا لتشكيل المركزية الأوروبية.
ومن هنا؛ فان إستراتيجية بناء مجتمع إسلامي متكامل يجب أن تسبق ببناء شعور جمعي قائم على فلسفة تكاملية مظلتها العقيدة "الدين"، ثم السعي ببرامج عملية لتحقيق وحدة المصير الإسلامي من خلال ربط الثورات والتغيرات باستراتيجياتها الكبرى، وهذا له أدواته الفاعلة التي ستكون موضع حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.
· كاتب وباحث إسلامي فلسطيني |
التعليقات (0)