الخطاب الإسلامي... الهروب داخل الذات
الخطاب يمارس حجباً مضاعفاً، إذ هو يحجب ذاته كما يحجب ما يتكلم عليه. مثال ذلك الداعية الذي يدافع عن العقيدة والحقيقة و يحرس الذاكرة والهوية. ولكن مبنى قوله، أي ما يسكت عنه القوله ولا يقوله، هو أنه يدافع عن مرجعيته وسلطته أو سلطانه، وأنه يتصرف إزاء سواه بوصفه أولى منهم بأنفسهم. وبكلام أوضح فمنطوق خطاب الداعية أنه يدعوك إلى أمر ما، قد يكون الإيمان والصدوع بأمر ربك وقد يكون الانخراط في مشاريع الثورة والتحرير أو التغيير، ولكن ما يتستر عليه خطاب الداعية هو كونه يمارس سلطته عليك فيما هو يدعوك إلى الأمر، أي كونه يصبح مصدر الأمر والنهي، ولهذا فإن داعية الحرية يؤسس لسلطته على غيره فيما هو يدعوهم إلى ممارسة حرياتهم.
أن الذي يدّعي رواية الحقيقة يخفي أولاً حقيقة الخطاب الذي يمارسه ثم يُنسى في معرض الرواية. ويخفي ثانياً ما يتكلم عليه، أي الحقيقة نفسها، إذ هو بتسميته لها كحقيقة يحولها إلى أمر لاهوتي ما ورائي، أي إلى شيء أحادي مطلق يتعالى على حديثه ويفارق محايثته، وذلك باستخدامه مفهومات كالذات والحضور والوعي والتطابق واليقين والثبوت والتواصل والقول والمماهاة الخ ... هذه هي الأدوات المفهومية التي تُستعمل في خطاب الحقيقة، والتي يعمل النقد على تفكيكها واختراق كثافتها. إنها البداهات المنسبة التي يسكت عليها الخطاب ويستبعدها من دائرة النقد والفحص أي هي ما ينبغي مساءلته واستنطاقه. بهذا المنظار إلى الخطاب تستوي خطابات متعارضة من حيث المضامين والطروحات والشعارات، ولكنها تستخدم نفس البداهات ونفس آليات التفكير، تستوي، من هذا المنظار، الخطابات العقائدية على اختلافها وتعارضها، لأنها تستخدم، جميعها، نفس النظرة الأحادية إلى الحقيقة ونفس المنطق القائم على الحصر والاستبعاد أو على الإدانة والإقصاء. بذلك يستوي الكل الذين يستخدمون نفس الأدوات المفهومية.
وهذه هي خاصية الخطاب، إنه يحجب البداهة التي هي مبناه وشرط إمكانه تماماً كما يحجب الخطاب اللاهوتي ناسوتيته التي هي من الوضوح بحيث يتناساها الكلام .
كيف نقرأ الخطاب الاسلامي من هذا المنظور ؟ وهو ككل خطاب لا يبرأ من آليات الحجب والإبعاد والتماهي والتغاير والتجاوز والتضارب والتضليل في الوقت يقول به حقيقته ويصوغ مقالته . ثم كبف نقرأ الوعي الذي يؤسس جدليته مع الواقع والتاريخ ؟ و كيف يمكن مقاربة هذا الوعي؟ أين يمكن لنا استكشاف أمثلته الحقيقية ذات الأهمية القصوى ؟ هل يجب أن نعطي امتيازاً خاصاً لأولئك الذين يحرسون المؤسسات والأملاك الدينية ويضمنون استمراريتها بناء على هذا الوعي ؟ ما المكانة التي ينبغي تخصيصها مثلا للخطابات الرسمية التي تمجد خصائص الاسلام بحماس لا حد له والتي راحت تمركز انواع الخطابات المتشدده، وايضا لتلك المؤلفات المدرسية لبتي راحت من حيث لا تعي تصوغ مبادئ هذا الخطاب ؟
إن الخطاب الاسلامي اليوم ذائع ومنتشر أكثر من أي وقت مضى. ووفرته وتكاثره وانتشاره الواسع كانت قد أدت في وقت قصير إلى غلبة الشخصية الجماعية على الشخصية الفردية وأعني بذلك ان ضغط الخطاب مارس دوره في وعي المجتمع ثم اسس هذا الوعي كتاريخ .
نختار من هذه الخطابات الكثيرة التي لا تنفك تتزايد وتطغى عينة تحتوي على الموضوعات والمعايير والفرضيات الأساسية التي تشكل الشخصية الجماعية بأسرها. سوف نقترح للدراسة والتحليل هنا السياق الذي موضعه الدكتور الترابي للخطاب الاسلامي بصيغتيه الماضوية والحاضرة ... ينطلق الترابي من السياق التاريخي الذي يسبغ عليه صفة التقديس والتعالي اي لا يمكن النظر إليه إلا من خلال هذه الزاوية دون ربطه بالممارسة الفكرية والمنهجية . فهو يرى :
ـ أن الاسلام هو الذي حرر العقل والنفس الانسانية من الوثنيات من عبادة غير الله، وحرر الفكر والإرادة والعمل.
ـ اعترف الاسلام بميول وعواطف الانسان، فقرر أن في الانسان ميولاً وعواطف مختلفة، وكلها فيه غريزية طبيعية أودعها فطرته لتكمل في شخصه ونوعه. ووضع الاسلام طراق لتطهير النفس كالعبادات والصوم. وتهذيب النفس أصل من أصول الحضارة الاسلامية. ذلك أن على الانسان أن يتحرر من ميول النفس ورغائبها وأهوائها وخضوعها لخير الله.
ـ ولم يستسلم المسلمون، ولم يكن إيمانهم بالقضاء والقدر داعية استسلام، بل داعية تحفز وعمل، وتضحية بالنفس في سبيل الحق الذي آمنوا به واعتنقوه.
ـ لا يقر الاسلام نظرية تغير الأخلاق باختلاف البيئات والعصور، كما لا يقر نظرية التطور المطلق الذي يتحرك في فراغ. ولا يقر تقديس العقل ولا عبادة الباطل. إن مفهوم الأخلاق هو خلافنا الأساسي مع الفلسفات المادية. ومفهوم التوحيد هو تميزنا الأصيل عن الفلسفات الوثنية.
ـ في الاسلام ليس الانسان شريراً على وجه الاطلاق. وليست عليه مسؤولية خطيئة سابقة، وليست الخطيئة متأصلة في كيانه. وجهة النظر المتشائمة التي لا يقرها الاسلام.
ـ والأخلاق في مفهوم الاسلام قوانين أخلاقية ثابتة يميز بها الحسن والقبيح، والحلال والحرام، والخير والشر. والمسلم يرى العمل حسناً حين يأمر به الله..
ـ وإن أبرز مفاهيم الاسلام أنه لا انفصال بين الدين والحياة، وبين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسم، وبين الواقع والمثال. فالاسلام يرفض تمزيق الجبهة الفكرية بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين، ويؤكد بقاء كل العناصر في اتجاه واحد قوامه وحدة النفس الانسانية .
ـ إن روح الاسلام ومنهجه الجامع بين الأخلاق والشريعة في ظل عقيدة التوحيد لا يعارض سير الحضارة. بل هو يدفعها دفعاً إلى الغايات العليا. ولكنه يتعارض مع التجاوزات الإباحية التي فرضها الإلحاد والتي ليست من مفهوم الحضارة بمعنى أنها دعوة إلى التقدم. ومن هنا فإن القول بأن الدين عامة أو الاسلام يعارض تقدم الحضارة هو قول مردود، فالحقيقة أنه يعارض تقدم هذا الجانب من الإباحية والإلحاد والنظرية المادية، وهي ليست الحضارة. إن حضارة الاسلام تستهدف ترقية النفس وتحريرها من قيود الأهواء والشهوات بحيث تصبح ربانية الهدف، إنسانية الطابع تعمل لله، وتتجه بالخير إلى الناس جميعاً.
ـ قرر الاسلام أن للوجود الانساني سنناً لا تتبدل ولا تتحول، ولا تزال عاملة على مقتضى نظامها المقرر لها.
ـ لا يقر الاسلام إقصاء الدين عن منطقة الحياة الاجتماعية، ومن هنا فقد أقام الاسلام منهجاً متكاملاً للخطوط العامة التي يقوم عليها سلوك الانسان في الحياة إزاء نفسه وإزاء باقي الجماعة.
ـ من طبيعة الاسلام قدرته على التوفيق ببراعة بين المتناقضات جميعاً دون أن يميل إلى جانب أو يغلب كفة على أخرى.
ـ لا بد من التفرقة بين العقيدة في أصولها السمحة وبين عملية التطبيق في المجتمع الاسلامي، وكذلك التفرقة بين مراحل القوة ومراحل الضعف. إن المبادئ الأساسية للاسلام ستظل قابلة للتطبيق، لأنها مثل أعلى في الأصالة.
ـ الإيمان بالقضاء والقدر كما جاءت به الأديان السماوية مفروض على المؤمنين في النتائج لا في الأسباب، فهم مطالبون بالأسباب، مفروض عليهم السعي والأخذ بها، مطالبون بعد ذلك بأن يتركوا النتائج لله..
ـ إن أثر الاسلام واضح في كل الثورات التي قامت على القيود التي تمنع العقل من التفكير، أو تفرض جماعة خاصة تحتفظ بالأسرار وإليها ترد الأمور ومن الاسلام انطلقت الدعوة إلى تحرير الفكر البشري من الوثنية، وانطلقت الدعوة إلى حق كل إنسان أن يفهم كتاب الله دون وسيط، وأن يتصل بالله دون وسيط.
ـ إن النضالات الوطنية قد انطلقت تحت راية الجهاد في سبيل الله قبل أن تنطلق تحت راية الجهاد في سبيل الوطن..
ـ الحركة قانون من قوانين هذا الكون، ولكنها ليست حركة مطلقة من كل قيد، وليست حركة عشواء بلا ضوابط ولا نظام. ولما كان لكل كوكب فلك ومدار ومحور، فإن الحياة البشرية كذلك لا بد لها من محور ثابت، ولا بد لها من فلك تدور فيه، وإلا انتهت إلى الفوضى.
ـ إن الفصل بين الدين والدولة هو نتاج وافد غريب. وهو من معطيات العقائد الأوروبية في تشكلها وصراعها خلال تاريخ طويل. ولكنه ليس من معطيات الاسلام، بل إن الاسلام في تكامله وترابط القيم فيه يقيم من الدين والدولة كلاً متكاملاً. فالاسلام دين ومنهج حياة وشريعة وخلق.. وميزة الاسلام التي خصته بأن يكون نظاماً متكاملاً هو أنه قد قدم مبادئ عامة وأصولاً ثابتة في مجال الشورى والعدالة والمساواة تصلح لاقامة مجتمع متماسك. وتترك للبشرية في تطورها واختلاف عصورها وبنياتها القدرة على تقرير اسلوب مناسب في إطار هذه الأصول. وهو ما يحول دون الجمود ودون التعارض مع تطور المجتمعات.
ـ الحرية في مفهوم الاسلام ألا يبقى الانسان عبداً لشهواته ولا عبداً لغير الله، وإلا يخضع لسلطان غير سلطان الخالق. ويأنف أن يكون عبداً للانسان. والحرية في الاسلام هي حرية جامعة شاملة تقوم على التحرر من قيود الجهل والخرافة والوثنية والتقليد. والاسلام أول من دعا إلى هذه الحرية. ولقد علم الاسلام الانسان كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.
ـ أن نظام الحكم في الاسلام يجب أن ينطلق من الشريعة الربانية التي صاغت تلك الأسس ومن مقاصدها السامية.
إذا كنا قد خصصنا هنا مكاناً واسعاً لخطاب عدواني واستبدادي ومناقض لأبسط الحقائق الفكرية كهذا الخطاب، الذي يمارس حجبا مكثفا للحقيقة فإن ذلك يعود إلى أهميته التمثيلية اجتماعيا وانتشاره الواسع من الناحية الثقافية. من الشرق الى الغرب في كل بقاع العالم الاسلامي . نلاحظ أن نفس الفرضيات والمسلمات، ونفس التصورات والاعتقادات تفرض نفسها على الجميع لكي تشكل خطاباً اجتماعياً ضخماً وجباراً. إن المسألة هي فعلاً مسألة خطاب جماعي اجتماعي وليست مسألة خطاب فردي ـ شخصي أو خطاب جماعة توصف بالتطرف . وإذا نظرنا إلى هذا النص من جانبه اللغوي نجد أن صاحب الخطاب (الفاعل) هو (الاسلام) باستمرار، أي الوعي العقائدي الجماعي الذي يرتبط في وقت واحد بالتاريخ الدنيوي الزمني وبالحالة السوسيولوجية الحاضرة وبرؤيا أخروية معروفة.
أن أية قراءة للنص ينبغي ألا تلجأ إلى أسلوب الرفض القاطع أو التفنيد العلمي الذي يحتقر هذا النوع من الكتابة. سوف نلجأ فيما يخصنا نحن إلى البحث عما يمكن تسميته بالحقائق الشغالة الفاعلة . إن هذه الحقائق تفرض نفسها كرد فعل عنيف تقوم به المجتمعات التي تريد أن تعوض عن واقعها البائس والمزري، وعن الانهيار الهائل لبناها التقليدية وذلك بواسطة الرفع الزائد من قيمة التراث الاسلامي والافتخار به. يتيح هذا الهروب داخل الذات المضخمة والمشكلة سابقاً عبر القرون تجنب أثر الصدمات التي تصيب الأنا الفردية والأنا الجماعية نتيجة للاحتكاك بالحضارة الحديثة. إن هذه الظاهرة ليست مقصورة على البلدان الاسلامية فحسب وإنما هي موجودة أيضاً في كل بلدان العالم الثالث الواقعة تحت الضغط الهائل لعملية التحديث والتصنيع. لكنها تتخذ في الاسلام مظهراً تراجيدياً بسبب أن الصراعات والتمزقات التي عرفها الغرب ما بين التراث والحداثة تزداد تعقيداً وصعوبة هنا نتيجة لانقطاعين تاريخيين لم يعالجا حتى اليوم وهما:
1 ـ انقطاع الاسلام الحديث بالقياس إلى الاسلام الكلاسيكي في أعلى ذراه الفكرية والابداعية.
2 ـ الانقطاع التاريخي للعالم الاسلامي بالقياس إلى أوروبا الحديثة، أي أوروبا التي تشكلت بدءاً من القرن السادس عشر.
إن هذه الملاحظة الأخيرة تدعونا إلى ضرورة القيام بقراءة تفكيكية ـ تركيبية للخطاب الاسلامي المعاصر. ينبغي فعلاً تفكيك الأحكام التعميمية المزعجة والتبسيطات السطحية الرديئة والتعبيرات الهائجة والأوامر الاعتباطية والهواجس العصابية التي تغذي الوعي الخاطئ للخطاب الاسلامي. والأسوأ من ذلك هو أن هذه الأشياء التي عددناها مستخدمة من قبل الوعي الخاطئ لهذا الخطاب كنوع من شعور الجماهير بوعيها وبالواقع وبأنها تصبو لتحقيق رسالة تاريخية!
إن تحليلات كهذه سوف تصطدم حتماً بعقبة اجتماعية ـ ثقافية ناتجة عن هيمنة الخطاب الاسلامي الذي يجب أن نضعه منذ الآن موضع التفكيك والنقد. وكيف يمكن القيام بتحليل كشاف لهذا الخطاب ينزع عنه التقديس والأسطرة، ثم نريد في الوقت ذاته أن يصل هذا التحليل إلى الوعي الساذج للمؤمنين، أي الوعي الواحد الذي لا يتجزأ والذي يخلط بين التاريخي والأسطوري إن مشكلة توصيل المعارف العلمية للجمهور العريض كانت قد طرحت كثيراً في الماضي ولا تزال تطرح حتى الآن، ولكنها لم تحل أبداً ضمن ساحة العلوم الانسانية خصوصاً. هذا ما يفسر لنا وجود تلك المسافة الدائمة التي تفصل الناس المتخصصين عن الناس العاديين، أو العلميين عن الايديولوجيين، أو العقلانيين عن المؤمنين. ينبغي أن نتجنب في الحالة الراهنة التطرف في عقلنة مواقف وجودية معقدة حيث أن الشعائر والعبادات لا تزال ترسخ وتدعم بشدة التنظيرات الفكرية لعلم النفس الجماعي . لهذا السبب فإننا نعتقد أن الخطاب الاسلامي المتزمت والصحيح سوسيولوجياً، لكن الخاطئ أو غير المقبول إطلاقاً من ناحية ابستمولوجية، ينبغي ألا يرفض دفعة واحدة ودون نقاش. يجب علينا أن نفككه من الداخل، في كل بناه التركيبية والتكوينية، وذلك لكي نستمر في التواصل مع أنصاره الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمعات الاسلامية.
تيسير الفارس
نيوزلاندا .. أوكلاند
التعليقات (0)