مواضيع اليوم

الخروج من وادي الجهل السعيد

كمال غبريال

2011-11-12 07:43:11

0

الخروج من وادي الجهل السعيد
كمال غبريال

GMT 0:00:00 2011 السبت 12 نوفمبر

استهل خالد الفكر "سلامة موسى" كتابه "حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" بقصة رمزية "لهندريك وليم فان لون"، تحكي عن أبناء قرية يعيشون هانئين في "وادي الجهل السعيد"، وحولهم من جميع الجهات ارتفعت هضاب التلال الدائمة، وكان مجرى المعرفة الصغير يسير هوناً في أخدود عميق بال، ولم يكن شيئاً يذكر إذا قيس بالأنهار، لكنه كان يكفي القرويين حاجاتهم الوضيعة. . كان "الكبار العارفون" يغمغمون بكلمات غريبة يلقنونها للأطفال، ورغم أن هذه الكلمات لم تكن في الأغلب واضحة، إلا أنها كانت كلمات مقدسة، لأن شعباً مجهولاً كان قد كتبها منذ ألف عام. . ولأن الناس في القرية كانوا يقدسون كل شيء قديم، فقد كان الأبرار منهم يتجنبون مخالطة كل من من يتجرأ على الاعتراض على حكمة أولئك "الكبار العارفين".
وهكذا عاشوا في وادي الجهل الأمين، متجنبين أية أسئلة عما وراء الهضاب المحيطة بالقرية وتحجب عنها ضوء الشمس، حتى لا يلقوا مصير كثيرين حاولوا قبلاً عبورها وكان مصيرهم الهلاك، حتى أقبل من الظلام إنسان قدماه ملفوفتان بالخرق الملطخة بحمرة الدماء من مشاق السير، وارتمى مغمياً عليه أمام من يهزون رؤوسهم، إذ يدركون مصير كل من حاول الذهاب إلى ما خلف الهضاب الأزلية، بينما ردد "الكبار العارفون" كلمات من نار، مؤكدين ضرورة تطبيق الناموس المقدس عليه.
عندما استرد الرجل وعيه وقف بينهم وقال متضرعاً: "اصغوا إلي وابتهجوا، فلقد ذهبت إلى ما وراء الجبال وعدت منها، ولقد وطأت قدماي أرضاً جديدة، ورأت عيناي أشياء عجيبة، وسمعت كلاماً مختلفاً عن ذاك الذي لم نسمع غيره من "الكبار العارفين" الذين يقرأون من الكتب المقدسة، ويقولون أن كل شيء في السماء والأرض مرسوم بالناموس، وأن هذا الوادي لنا، أما ما خلف الجبال فللآلهة لا يقربها بشر، إلا أنني أقول لكم أن خلف الجبال مروجاً رائعة، فامشوا ورائي وأنا أقودكم، فإن الآلهة تبتسم هناك". . ضج الواقفون عجباً، وصاح "الكبار العارفون": "زنديق. . هذه زندقة ورجس. . يجب أن يعاقب. لقد جن. إنه يحتقر الناموس الذي كتب قبل ألف عام. . لقد استحق الموت"، ثم تناولوا أحجاراً ثقيلة وشدوا عليه رجماً حتى قتلوه، وألقوا جثته عند سفح الجبل.
حدث بعد ذلك جفاف عظيم، وماتت الماشية من العطش، وكانت مجاعة عظيمة شملت كل وادي الجهل الذي كان سعيداً، لكن "الكبار العارفين" طمأنوا الناس بقرب انقشاع المحنة، فهكذا تخبرهم الكتب المقدسة. . عندما حل الشتاء كان أكثر من نصف سكان القرية قد هلكوا من الجوع، ولم يتبق رجاء للبقية إلا فيما وراء الجبال، لكن الناموس كان يقول "لا"، ويجب الخضوع للناموس!!
في إحدى الليالي حدثت ثورة، وابتعث اليأس الشجاعة في النفوس، واحتج "الكبار العارفون" احتجاجاً ضعيفاً فنحوهم عنهم وهم يندبون عقوق الناس وزندقتهم، لكنهم اضطروا في النهاية للحاق بطابور المغادرين إلى المجاهل خلف الجبال الأزلية المقدسة. . في الطريق هلك الكثيرون جوعاً وعطشاً قبل أن يجدوا بداية الطريق، ومالبثوا حتى انفتحت أمامهم السهول الخضراء اليانعة، وهنا فقط تذكروا ما قاله لهم العائد الذي رجموه!!
إلى هنا ننتهي من ملخص قصة "هندريك وليم فان لون" الرمزية، والأغلب أن صاحبها لم يكن قد شاهد قرية أو مدينة عربية أو أياً من أهاليها أو "كبارها العارفين"، كان يتحدث عن أوروبا في عصور ظلامها وانغلاق عقول أهاليها أسرى النواميس المقدسة كما يعرضها لهم كبارهم العارفين، ونستطيع أن نخلص من هذه القصة في معرض مقارنتها بأحوال شرقنا الأوسط في أوج ما نعتبره ربيعاً عربياً بعدة عبر.
يبدو مما جاء بالقصة من تحكم "الكبار العارفين" في الناس باسم المقدس أن الهيمنة باسم الدين لا يختص بها دين معين، وإنما هي حرفة يحترفها بعض الناس للسيطرة على من حولهم، فحين يسود الجهل لا يكون أسهل للسيطرة على الناس من التحدث إليهم باسم الإله، والأكثر فاعلية في السيطرة هو خطاب المنع أو التحريم، فحديث الإباحة والإرشاد للممارسات الإيجابية مثلاً لا يجعل من مصدر الوصايا حاضراً في ذهن العامة، بذلك القدر الذي يتيحه حديث التحريم المقرون بالتهديدات، تماماً كما أن مكافأة رجل مجيد أو صالح لا تترك لدى الغوغاء ذلك التأثير المهيمن الذي يتيحه رجم كافر أو زنديق، وهنا سر ما نرصده من انتشار التحريمات والتهديد والوعيد الدنيوي والأخروي مع موجة الهيمنة باسم المقدس والإله.
توضح لنا القصة أن الناس كانوا يعيشون هانئين في "وادي الجهل الجهل السعيد"، وهذا طبيعي في الأحوال العادية والمستقرة نوعاً، فمادام الناس محاصرين بالجبال التي تفصلهم عن العالم خارج واديهم، فمن أين لهم اكتشاف أن هناك ما هو أفضل من أساليب الحياة. . المقارنة وحدها هي التي تقود الإنسان إلى الرضى أو التبرم بأحواله، وعلى ضوء هذا نستطيع أن ندرك سر خطاب التشويه والإدانة لأخلاقيات العالم الحر، باتهامه بالإباحية والشذوذ الجنسي والانحلال وما شابه، فهو خط الدفاع الحيوي إزاء اطلاع الشعوب الغارقة في تخلفها على حيوات العالم عبر الفضائيات التليفزيونية وسائر وسائل الاتصال في عصرنا. . هي محاولات لتبريد وتجميد تفاعلات النقمة الناجمة عن المعرفة بالأحوال في العالم، ومقارنتها بالأحوال "غير الهانئة" في "وادي الجهل غير السعيد".
نخرج من القصة أيضاً أن محاولات التنوير التي يقوم بها أفراد مغامرون استطاعوا معاينة الحضارة والحرية، سواء بذهابهم شخصياً إلى ما خلف الجبال الأزلية المحرم عبورها، أو عبر فكرهم المتجاوز لخطوط التحريم، هذه المحاولات لا تجدي في تنوير العامة الهانئين في "وادي الجهل السعيد"، ولقد رأينا أن الرجم حتى الموت كان مصير كل من يتجرأ منهم على مخالفة ما يفتي به "الكبار العارفون" في قصتنا هذه، كما عرفنا ما حدث مع رجال تنوير تم تكفيرهم مثل "محمد عبده" و"سلامة موسى" و"طه حسين" وكثيرين، ثم ما حدث لخالد الفكر "د. فرج فودة".
النهاية السعيدة للقصة بالتحرر والانطلاق إلى العالم المفتوح لم تتحقق إلا بعد أن وصل الحال بالهانئين في "وادي الجهل" إلى النهاية المحتومة بحكم التاريخ وحقائق الواقع. . لقد ظل الناس مصدقين وخانعين لوصايا وتحريمات "الكبار العارفين" حتى استحكمت المجاعة واستحال العيش عليهم، أو فلنقل حتى وصل "الكبار العارفون" بالناس إلى نهاية الطريق الذي يقودونهم إليه، فعندها. . وعندها فقط يمكن أن يتمرد الناس على القائل والمقول، على المحرِم والمحرَم، وعندها فقط سوف يتذكرون رجال التنوير العظام الذين كفروهم ورجموهم!!
كنا نأمل أن تكون ثورات الشعوب العربية في 2011 هي الحلقة الأخيرة والسعيدة المماثلة لقصة "هندريك وليم فان لون"، لكن ما يبدو حتى الآن من إشارات يدل أن مشوارنا لم يتعد بعد حدود الجبال الأزلية المحرمة، وأن أمام "الكبار العارفين" حيزاً إضافياً من الوقت يسيطيرون فيه على الناس، حتى يحين الحين، ونصل جميعاً إلى الطريق المسدود، فهو وحده الذي سوف يجبرنا على اجتياز الجبال والخروج إلى عالم الحرية والحقول اليانعة بالخضرة والحضارة.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !