الخروج من بغداد
شريف هزاع شريف
قبل عام مضى او ربما قبل يوم او قبل ساعة حين احترقت مدينتي كان هولاكو قد سرق رقيما طينيا لرجل اشوري اوصى ان تكون ارضه من بعده لابنه ، لكن الغازي سرق الوصية وسافر بعيدا ، ارتفعت السنة اللهب عاليا لتحرق اخر بقايا الرقم الطينية لكنها هذه المرة لم تكن من طين بل من ورق ، وعلى مرمى ومسمع ماسينون الذي القى بنفسه في السنة النار لينقذ طواسين الحلاج ، الذي اعتلى مئذنة الجامع لينشد قصيدة اكثر حزنا من انين تلميذه البكر ... خرج ماسينون من عتمة الدخان نافضا يديه للريح والقتلى ليعلن موت الرصافي وجواد سليم والحسني والوردي والقبانجي ، في سراي المكاتب كانت شوارع بغداد معطرة برائحة الورق الاسمر وحبر المطابع ... لكنها الان..!
غريب هذا العصر ياحلاج فالجندي ( التتري ) الذي جاءكم بعباءة الموت ليعلمكم كيف تَحكمون او نُحكمون ، لا يعرف القراءة المسمارية ولا لغة الشعر والوجد الصوفي ، ترى هل ستحرق لو رجعت مجددا الى ارضك ؟
لم يكن في بال ماسينون ان يعيد لشيخه ذكرى الماضي الاليم ، قال : في كتبي نبؤاتي وفي نبؤاتي التاريخ والموت والقتلى والحب والكره ، والهي واشياء اخرى بيننا ..
مَضَى الجميع فلا عين و لا أثـُر مُضِيَّ عادٍ و فـُقـْدانَ الأُلى إِرَم
انظر الى تلاميذي واولادي ونسائي ، انهم يحترقون بنار اقسى من تلك التي حرقتني وصليبي ، لم اعرف لماذا جيئ بي من مثواي الى هذه المدينة الدخانية ، اريد الرحيل لكنني لا اعرف كيف ؟
... اننا نحترق ياماسينون! .
وصلت بغداد وانا مليء بالخوف من ان يلحظني احدهم فيعرف انني من المسافرين ، اخاف ان تتلقاني كتائب الموت الطائفية لتصادر ايامي المتبقية ، حين وصلت لا اعرف لماذا احسست بشيء غريب في بغداد ، لا اعرف ربما هناك رائحة ما ، او احساس مجهول لااستطيع ان اترجمه جملا وكلمات ..اردت ان استعيد ذاكرتي للمدينة البهية ، لكنني عجزت ، لانها تغيرت ، لم تعد بغداد ، انها مدينة اخرى في زمن ما!
هل المدينة حقا موجودة ام انني ابصر خيالا ؟ ..
هل الناس فعلا احياء امامي ام يسيرون كاطياف موتى ؟ ..
حين خدمت في الجندية سكنت في فندق قريب من شارع المتنبي مع احد الاصدقاء ، وحين كنت ارجع الى سكني كنت اعرج على شارع المتنبي اطالع عناوين الكتب ، واحيانا اشتري كتابا صغيرا اتسلى به ، اذهلني عالم الرواية كدت اصاب بالجنون حين كان ابطال الروايات يزورونني في الاحلام ، ومن هوسي علق في ذهني احدهم ، ولم استطع التخلص منه ، فاقتحم حياتي ولم يتركني ابدا حتى هذه الساعة ، لقد اصبح احد اهم رموز احلامي الليلية لا بل غفواتي القصيرة، خوان رولفو (Juan Rulfo) كان يقص علي بين الحين والاخر مقاطع من روايته بيدرو بارامو(Pedro Paramo) قال لي :
- اتؤمن بجهنم ؟
- نعم كما انني اؤمن بالجنة ايضا!
- انا اؤمن بالنار فقط ( المقطع62)
النار التي كنت اجهل ما يعنيها رولفو رافقتني منذ ايام الخدمة العسكرية حتى اوصلتني الى شارع المتنبي الذي اكلته السنة النار ، يالها من فاجعة .. لقد احترقت بغداد ، كتبها الان لم تلق في دجلة ، لم يصبح النهر حبرا .. بل دما .. وغرقى ، ونارا احرقت كل شيء.
بغداد الان تقتسمها راية سوداء ، تؤرخ لزمن مات فيه احد الابطال في معركة قادتها قوة شريرة اطاحت بالحسين الشاب ، ومنذ ذلك التاريخ اصبحت الراية السوداء تقويما(روزنامه) للثكلى.
وراية بيضاء توجز لك الزمن الحاضر ، لانها تدلك على مجلس عزاء يخاف اهله ان تقصفهم الطائرات الامريكية..
يالها من سخرية ، زمننا لا يعرف الا تلك الرايتين وكلتاهما راية لميت ..
دخلت الى شارع الكتب رافقني ظله ، قال : انها مدينة الموتى لماذا جئت هنا انهم موتى .. اتعتقد انك ترى احياء .. المدينة لا وجود لها ، انها في ذاكرتك فقط .. لا وجود للناس .. لقد استفاقوا مجددا.
ان ما يحدث لهؤلاء الموتى القدامى هو انهم ما ان تطالهم الرطوبة حتى يبدأوا بالتحرك ، ثم يستفيقون!(المقطع43)
واستفاق في بغداد موتاها وتوزع فيها قتلاها ... راية سوداء واخرى بيضاء ...
وكأن كلامه حقا ، فما الذي جاء بالحلاج الى بغداد من رماده الملقى في دجلة ، أحقا ان الموتى يعودون ؟
التفت اليَ ، قال:
- من الذي يتبعك كظل؟
هربت مسرعا ، رولفو يضحك مثل عجوز على سني عمره البلهاء ، يسخر مني ..
- انتظر .. انتظر الموتى لا يتكلمون ! انه ميت ، لم الخوف ، المدينة مدينة اشباح وموتى .. بغداد ماتت منذ اعوام ، ارجع ..
- بل يتكلمون .. انهم في كل مكان ، الا تراهم؟
- هل صدقت الان ان الموتى يتكلمون؟ لكنهم لن يؤذونك ابدا !
قلت في سري ماالذي ارجعه الى بغداد مرة ثانية ؟ وكأنه يسمع ما في صدري ، يلتفت الحلاج ، التفت الناس الي ، حقا لقد سمعونني دون ان اتفوه بكلمة .. تقدم الي جمع غفير ، صرت وسط حلقة من الناس ، اقترب الشيخ المصلوب مني .
- دلني على طريق الرجوع .. اريد العودة؟ اراد جنود الخليفة الجديد ان يقبضوا عليَ !
- اي خليفة؟
- خليفتكم ! انهم جنود غريبو الاطوار يحملون رماحا صغيرة لقد حرقوا طواسيني واشعاري ، قال لي تلميذي انهم التتر الذين حرقوا بغداد كلها!
نعم لقد أُحرِقَت بغداد واحترقت الطواسين ونهض الاموات يبحثون عن مكان آمن
- في طواسيني اسراري ، وفي اسراري سر الحرف والحقيقة ، الم اقل لك يوما ، ان الحقيقة اوجزت بحرف الباء وانا النقطة التي تحت الحرف .
اوكان الحلاج يقصد باء (بغداد).. لكن اين بغداد؟ كيف اصل الى شوارع المدينة القديمة اين شارع المتنبي اين كتبي .. يالها من رواية يا رولفو ، تمنيت لو انها تنتهي الان .
قال لي : هل تريد ان تستفيق الان ياصديقي !؟
- قلت نعم لا بد ان استفيق اريد ان اغادر هذه المدينة الان ، انها ليست مدينتي التي اعرف .
- آوه نسيت ان اقول لك ، انك ميت مثلهم وما من احد يقدر ان يخرجك من بغداد ! .
التعليقات (0)