مواضيع اليوم

الخروج من الحلم ...ومحنة الواقع

عبد الهادي فنجان الساعدي
صدرت رواية "عندما خرجت من الحلم" للكاتب العراقي البصري علي عباس خفيف، بكتاب من القطع المتوسط في 143 صفحة اشتملت احداث الرواية على 138 صفحة وثلاث صفحات للهوامش التي اشرت بشكل مباشر على بعض الغوامض التي فرضتها ظروف الرواية.. وقد اضافت اغنية الشهيد (بشري) مراببوس بلغتها الفارسية وترجمتها العربية نكهة خاصة بالكتاب.
انني ما زلت اتذكر بعض القصص القصيرة فقط، واذا قلت بانها قصة قصيرة واحدة قد اغمط حق الكثير من كتابنا العراقيين .. ولكن ماذا افعل؟!!!
فكلما غصت في أعماق الادب.. وجدت صعوبة في تقبل ما يكتب في اجواء الرواية والقصة القصيرة. وعندما قرأت هذه الرواية ايقنت –حقا – بأنني امام كاتب سيعطي ما عجز عنه الكثير من الكتاب.
البداية تنقل اجواء البصرة.. الميناء الفقير.. وروائح الحيوانات الطافية على الجرف والناس المسحوقين دون إن يكلف نفسه مشقة وضع المكياج على شخصيات الرواية، لاخفاء عمق الفاجعة اليومية التي يعيشها هؤلاء الناس... عندما تقرأ الرواية تشعر بالدبق... والعفونة.. وتود لو أنك تخرج من جلدك.. اما عندما تنتهي الرواية فتتيقن تماما بأن الراوي احد هؤلاء الناس الذين يعيشون الضياع وسط الصرائف والاحياء المليئة بروائح الموتى... ورطوبة الشط.
هنالك صور غزيرة، تكاد لا تخلو منها بعض الصفحات طالما يدور الحدث ويدور معه الانسان... هذه الصور هي صور السخرية المرّة والتناقض الواعي والنقل الدقيق لمجريات الاحداث (كانت هذه اخر كلمة قالها لكي ينفض يديه تماما عن تسوية وضع الزيارات العقيمة لمكاتب لا تراه بالعين المجردة). الرواية ص 16.
(على الرغم من إن التمثال – يقصد تمثال السياب – يشبه شاعرا اخر من نفس المدينة ايضا... وانتهاء بتمثال عتبة بن غزوان فاتح مدينة البصرة في القرن الأول الهجري الذي تبدو على محياه الحيرة).ص 17.
إن كمية كبيرة من الصور والعبارات الساخرة تدل على وجود مأساة يكتنزها هذا البطل نتيجة ضغط اجتماعي واقتصادي مريع.. يعاني منه فرديا فضلا عن الصور العديدة التي تدل على وجود هذا الضغط الذي يمارس ضد الجماعة كما هو ضد الفرد.
(سآخذ النحس معي الى القبر.. يدا بيد)، الرواية ص31.
هنالك محور اخر في الرواية هو المحور السياسي والاشارة اليه واضحة لكنها تنضح بالصدق، والمعايشة الحقيقية.. فمعظم الطبقات المثقفة عاشت هذه الماساة بشكل واع وحساس (كان ذلك قبل مجزرة اليسار كما اظن.. حيث دهست عربة حمل كبيرة ابن عمه (حميد خورشيد) وهو سكران قرب محطة نقل الركاب في السكك الحديد. ثم بدأت الحرب السرية والفزع) الرواية ص 21.
وهنالك توثيق اخر في عدة اماكن وبالتأكيد فهو يقصد المعارك التي جرت في اهوار الجنوب بين القوى اليسارية والقوات الحكومية للقوى القومية المشبوهة.
(عندما اشيع إن (محمد علي فردريك) قتل مع رجال العصابات في اهوار الجنوب.
حين اسقط الثوار عام 1968 طائرة هيلكوبتر عسكرية في الخامس والعشرين من نيسان من تلك السنة وتاهو بين القصب والبردي حتى قتل اخر رجل شجاع منهم)ص 72.
انه انحياز واضح الى جبهة الثورة المسلحة والقوى اليسارية ولا ينفع فيه التشكيك بالوقوف على الحياد. فهنا يقف الراوي في صف الجوع الكافر.. وبهذا فهو في صف القوى الثورية المسحوقة عندما نجمع كل معاناة الرواية ونجعل ابطالها يقفون امام صف القوى المشبوهة.. نجده يقف بكل شموخ في صف القوى الثورية المسحوقة.
وفي محور اخر نجد الراوي يغوص في حوارات وجدانية صوفية وفلسفية رائعة يحاول فيها إن يمزج في نصوصه بين المأساة والصبر ويفتش عن بديل للواقع المأساوي المعاش بالسعادة الروحية بعد إن فقد الشيء الكثير من طموحاته المشروعة كأنسان. نجد ذلك في صفحة 84-85 كما نجدها مكثفة كالبؤرة في صفحة 92 ( الارادة ... رضا داخلي عن النفس، وليست هذا التلفيق) قالها مثل الصوفيين باستبصار وجداني.
إن ما جرى في رواية (عندما خرجت من الحلم) هو نقل واعٍ للواقع المعاش في احدى مناطق جنوب العراق بكل خصوصياتها. ولكن اجمل ما في النص انه خلق واقعا مشابها مزج فيه الخاص بالعام، والخيال بالحقيقة. وبهذا خرج بحصيلة يستحق عليها إن نقول بأننا ازاء كاتب لديه الكثير ليقوله.
هنالك بعض الملاحظات التي اجد من باب الوفاء النقدي إن اوثقها واهمها:
1) لقد كرر اسم (محمد علي فردريك) بقدر صفحات الرواية مما اشر ضعفا ازاء هذا الاسم الغريب الذي خلقه الكاتب واستنفده لكثرة الترداد في الحين الذي كان من الممكن إن يقلل من هذا التكرار او إن يدعوه (فردريك) فقط ودفعاً للالتباس يدعوه في بقية الرواية (محمد علي). ولا خوف من التشابه في الاسماء فالكاتب وظف اشخاصا عديدين و اعطاهم اسماء لا تتشابه مع بقية اسماء الذين شاركوا في الرواية او في البطولة وهو جهد واعٍ ومتمكن.
2) من الامور التي يجب إن نشير اليها هي جمالية استعماله لبعض المصطلحات الشعبية او بعض الجمل التي تصف لقطات ذكية وواعية وجميلة من الحياة العامة وهي إلتفاته بسيطة الا انها تدل على مهارة في الصنعة.
( بفعل خفقات مكنسة الخوص) الرواية ص 2 (خلف التنور المهجور) (اقداح الشاي نظيفة لا تزال ترشح بالماء) (ارغفة الخبر باردة مجلدة) ص 102.
3) كان يردد كلمات عديدة في الحوارات في التضمين منها (الاهوار) (حرب العصابات) (القاعدة) وهي تدل على معايشة حياتية حية لوقائع سياسية اراد لها إن تعيش في ضمير الاجيال القادمة دون إن يتجرأ الزمن على نسيانها.
4) المرأة: لقد اخذت هذه المخلوقة الرائعة كل ادوارها السامية والمنحطة وبالرغم من كل ذلك فهي واقع حي وانساني شفاف يعاني اضعاف ما عاناه الرجل في حقبة مليئة بالجفاف السياسي والانساني والرطوبة التي تصل حد العفن. لم يرسم النساء في هذه الرواية كالدمى التي تزرع في بعض الروايات انما جعلها تعيش وتتحرك كواقع حياتي معاش مع الام والزوجة والاخت والعشيقة والحبيبة وحتى البغي، لقد ادهشني في هذه الصياغات الجميلة التي صاغ فيها المرأة حتى وهي تمارس اقدم المهن الانسانية.
لقد سجل للبصرة ... الميناء.. والشط كل ما يحس ولا يسجل. وكنت أسال نفسي على طول القراءة.. هل خلق هذا الرجل هذه الصور ام هي صور حقيقية.. وهنا يكمن الابداع.. انها مقاطع مترابطة .. تجعل القارئ يلهث خلفها ليصل الى نهاية المطاف.. بشكل امن.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !