إن البحث في أنساق التصورات المعرفية التي شكلت الشخصية النموذج او الانسان الأعلى في الاسلام ، كانت دائما في منأى عن التحديدات والتفنيدات المعرفية الي أخذ يصوغها و يشكلها العلم الحديث ، أو الدراسات الحديثة ، ولذلك ظلت الشخصية المحمدية في أبعادها النفسية والتاريخية المعاشة وتدخلها الطاغي في الحياة الفردية والاجتماعية هي المنحنى الذي لم يعد بالإمكان تفحصة على النحو المعرفي او الارتداد إليه للكشف عن المضامين الخطرة التي شكلت القواعد العامة لتلك الأنساق المعرفية وما تحيل اليه أو تصوغه من تصورات .
لا نهدف الى إحتقار الماضي أو القديم أو الدين أو العقائد أو التراث باسم العلم الحديث المتأكد من قواعده ومبادئه ومناهجه ونتائجه. ذلك أن التضاد الحاد والقاطع بين التراث والحداثة لم يشكل في التاريخ إلا لحظة محددة هي لحظة العقلانية العلموية التي فرضت تحديداتها وهي لحظة الوضعية الظافرة التي انجزت أو سادت في القرن التاسع عشر . لقد تجاوزنا هذه المرحلة الآن، إن المجتمعات تتكلم الآن عن عدة مستويات وينبغي أن نتلقى كل خطاب معرفي علىالمستوى الخاص به من خلال المقولات التي ساعدت على تشكله وتمفصله، هكذا نلاحظ أن الخطاب في الوعي الإسلامي لم يتوصل حتى الآن الى التمييز بين الأسطورة والتاريخ، إنه يخلط بين هذين المستويين أو الطرازين من المعرفة وينتقل من الواحد الى الآخر دون أيما إنزعاج أو تساؤل ابستميولوجي ودون أن يشعر بأية مشكلة. إنه لا يزال بعيدا عن تاريخية القرن التاسع عشر ، بعيد جدا، تلك التي توصلت الى تهميش العامل الديني والروحي المتعالي وطرده نهائيا واعتباره يمثل احدى سمات المجتمعات البدائية، على العكس من ذلك نجد أن هذا الخطاب إذا حشر أو حصر كل نماذج التاريخ الأرضي الدنيوي في الزمن القصير للوحي زمن التجربة التأسيسية فإنه قد حرم نفسه من مفهوم أساسي بالنسبة للتحليل النقدي الخاص بالمعرفة الأسطورية والمعرفة العقلانية على السواء ، أقصد بذلك مفهوم التاريخيةكما حدده رولان بارت، أو الشروط الأجتماعية والسياسية والثقافية لاستخدام الاسطورة والتاريخ والتعالي والعقل أو المنهج العقلاني والنقد أز مفاهييم النقد على العموم .
ذلك أن ما يريده خطابنا ( هذا ) أو ما يريد بعثه وإحياؤه ليس دولة المدينة التي وجدت في زمن محمد ، وإنما الشروط الدينية المثالية التي أنتجتها، وهكذا يقوم بعدة عمليات من تنكير الواقع وتحريفه دون أن يعي ذلك. وهذه خصيصة الخطاب الاسطوري بامتياز، حيث أنه يحول العمل المادي المحسوس الذي قام به محمد بترميزه للفضاء الاجتماعي التاريخي الخاص بمجتمع الحجاز أقول يحوله الى نوع من التصورات الاسطورية للحظة خلاقة، إنه يحاول اقناعنا بأننا نعرف تماما الشروط المثالية الخاصة بتلك الحقبة أو على الأقل إن معرفة هذه الشروط ممكنة تاريخيا، وهذا الشيء أبعد ما يكون عن التحقق حتى الآن، كما أنه يتجاهل التحولات التاريخية التي حدثت منذ تلك اللحظة والتي ابعدتنا عن تجربة المدينة التأسيسية . إذا كان من الصعب حصر العصر الأفتتاحي في فضاء اجتماعي وتاريخي دقيق ومعرفته بشكل تام، فإن من الممكن وصفه وتحديده بمثابة عملية خلق جماعية وظفت فيها أجيال المؤمنين حتى القرن العاشر على الأقل آمالها في الكمال الإنساني والنظام المثالي والعدالة المطلقة ، حصل كل ذلك عن طريق اسقاط كل هذه القيم المثالية على الصورة الرمزية لمحمد ومناخ الدلالات والمعاني الخاصة بكلام الله ، إن الشهادات التأويلية والروايات التي نقلتها الأمة المؤمنة جيلا بعد جيل، قد ضخمت الى أبعد حد المضامين المعنوية والدلالية لاعمال النبي وحركته البشرية ورسالته وصحابته، فيما يخص الخط السني ، وللأئمة فيما يخص الخط الشيعي ، وهكذا تشكل في الإسلام نوعان من التراث الحي المعاش والمتثل ، التراث السني والتراث الشيعي ، إن هذين التراثين يبرران الحاجة الملحة للعودة الى الأصول، الشيء الذي نقرؤه في هذه العودة، هو العملية التاريخية لتشكيل ما يدعى بالتراث الديني، وهو أيضا إرادة الكينونة والوجود للأمة التي تلقت نداء الرسالة الإلهية أكثر مما هو ممارسة سياسية واقتصادية وثقافية محددة، عندما ننظر عن كثب للحياة اليومية للجماعات المختلفة التي تشكل الأمة نكتشف أنها منغرسة جميعها في حس عملي أو عفوي مباشر، بعيد كل البعد عن الرسالة المثالية الدينية التي يستمرون في الانتساب اليها ضمن منظور الخلاص الأخروي.
فيما يخص كل فضاء سياسي واجتماعي اقتصادي موصوف عموما بالاسلامي يوجد مستويان متمايزان جدا ولكن متداخلان من التنظيم والتعبير الخاصين بكل فئة اجتماعية ، فهناك المستوى الأولي أو الأرضية التحتية الثقافية القديمة جدا ذات الأصل البيئوي والمحورة عن طريق الاستخدام المستمر لقانون رمزي محدد ، وهناك المستوى الأكثر ظهورا لأنه الأحدث من الناحية الزمية ، وهذا هو الذي فرضته الدولة الإسلامية المركزية على النظام الأول منذ العصر الأفتتاحي . هذا يعني أنه يوجد في كل مكان من المجتمعات العربية والاسلامية تراثان محتلفان من حيث مكانتهما التاريخية، هناك التراث الأولي الذي احتقره الإسلام بشدة ودعاه الجاهلية: أي بالمعنى الحرفي زمن الجهل. في الواقع أن هذا التراث هو عباره عن الفكر المتوحش ـ بمعنى ليفي شتراوس ـ والثقافة المتوحشة والممارسة المتوحشة للمجتمع العربي وخصوصا المجتمع البدوي الذي لا يعرف الكتابة ولا السلطة المركزية ولا القانون المشترك ولا اللغة الموحدة، أما التراث الاسلامي الذي افتتحه القرآن ودولة المدينة التي أسسها محمد فهو يستند على الكتابة بالمعنى المزدوج للكلمة: أي أولا الكتابة بمعنى الكتابات المقدسة وثانيا الكتابة بمعنى التثبت الخطي والحرفي للكلام المنطوق، هذا التثبيت الذي يؤدي الى تشكيل الأرشيف وانتصار ( العقل الخطي الكتابي ) إنه يستند أيضا على القانون الكوني المجموع في المصحف وعلى اللغة العربية الرسمية والثقافة الحضرية العالمة التي تنتجها وتسيطر عليها النخبة المرتبطة باستراتيجيات سلطة الدولة، من هنا نفهم كيف أن كلا التراثين كانا في حالة تنافس في كل مكان ولا يزالان حتى الآن....
لنتأمل في المثال الغني جدا لسيرة النبي ، كانت إحدى السير القديمة التي وصلتنا هي سيرة ابن اسحق التي استعادها وصححها ابن هشام وقد استمرت عملية تشكيل الصورة الرمزية والقدسية المثالية لمحمد على هذا النحو طيلة أكثر من قرن في الأواسط المؤمنة تحت تأثر عوامل عديدة وطبقا لمنهجيات الثقافة الشفهية، لم يبلغ الانتقال الى حالة التراث المكتوب مع ابن اسحاق كل آثار التراث الشفوي في السيرة، ولكن هذا الانتقال ادخل أو مارس نوعا من الضبط التاريخي للحكايات والروايات كان سلفه يجهلها. ولكن مجموع القصص والشهادات يخضع لآليات انتاج المعنى الخاصة بالسرد الروائي أكثر مما يلتزم بقواعد كتابة التاريخ ، فقد استخدمت المبالغات الخيالية الشعبية بشكل غير متمايز من حيث الدلالة والحقيقة عن العناصر الي نصفها بالتاريخية ضمن رؤيتنا الحديثة للمعرفة. والسبب أن اناس ذلك الزمن وحتى سدنة الخطاب الاسلامي المعاصر والمؤسسة الإسلامية برمتها لم يكن يعرفون التمييز بين الاسطورة والتراث....
كان المؤرخ الوضعي المستشرق هنري كوربان قد قرأ السيرة النبوية بعد أن حذف منها بشكل منتظم كل ما يدعوه بالخرافات ضمن تحديداته ، وهكذا كتب سيرة علمية لمحمد، اي سيرة ضمن نطاق أو سياق المعاش في التاريخ أي كما حدثت بالفعل دون أي تسام أو تصعيد ، ولكن التسامي لا يزال مستمراحتى يومنا هذا في الهاب الخيال الاسلامي الجماعي ، في الواقع أن الجزء الخرافي من سيرة النبي هو الأكثر اضاءة وأهمية وحضورا إذا ما أردنا القيام بدراسة النشأة التاريخية للوعي الاسلامي ، وبدلا من الاكتفاء باحداث التضاد العقيم بين التاريخ الوضعي والاختزالي من جهة ، و العقائد الشعبية و التهويلات والمبالاغات المفرغة من حقيقتها من جهة أخرى ، فإنه أصبح ممكنا توحيد حقل المعرفة عن طريق اعادة قراءة سيرة محمد أو علي أو المهدي ضمن التوجهات التالية :
المنشأ التاريخي والاجتماعي والثقافي للخيال والمخيال الاسلامي الشائع ثم وظائف هذا الخيال والمخيال وإنتاجيتهما ، أقصد بالانتاجية القوة المجيشة والمحركة للتصورات الجماعية داخل الحركات التاريخة الكبرى. فن القص أو اسلوب السرد مأخوذا كوسيلة لانتاج كل دلالة تغذي الخيال بشكل خاص ، أقصد بذلك سيميائية القص والاخراج المسرحي للحكاية المحمدية ونسج الحبكة من الأحداث الواقعية من أجل تشكيل رؤيا معينة أو تقوية بعض العقائد أو اعلاء قيم معينة أو تحوير الماضي من اجل دمجه في نطام جديد للعقائد والممارسات البشرية التاريخية ، وهذا ما فعلته السيرة النبوية بعد القرآن بالنسبة للجاهلية.
الشروط التاريخية والثقافية لتحول خيال جماعي محدد وتغيره، أقصد بذلك عملية المرور من مرحلة الخرافة أو الأسطورة أو الشعائر والطقوس الى مرحلة التاريخ ومعنى هذا المرور وشرعيته ، وأقصد المرور من مرحلة الخرافة المعاشة بمثابة تاريخ حقيقي الى مرحلة التاريخ الحقيقي المعاش والمفهوم وكأنه إيديولوجيا .
التعليقات (0)