في بلد باكورة ثورات الربيع العربي،وفي الوقت الذي اشتدّ فيه ضغط التهاب الأسعار وانخفاض درجة الحرارة على نحو غير مسبوق وتفاقم البطالة والركود السياحي،وكثر فيه الجدل السياسي حول قضايا الانتقال الديمقراطي المصيرية،وجد التونسيون أنفسهم مضطرّين للانشغال بقضايا تبدو،لأوّل وهلة،معزولة وهامشية لكنها سرعان ما طفت على السطح ودفعت على الاحتقان والبلبلة ثم فرضت الاصطفاف من جديد في خانة "مع أو ضدّ" دون هامش واسعٍ مُتاحٍ لحلولٍ توفيقيّة...
تلاحقت أحداث مسلسل الإثارة كالآتي:
- اكتشافُ خليّةٍ سلفيّةٍ جهاديّة لا يُستَبعَدُ صلتها بتنظيم القاعدة اقتضى الحسم مع بعض عناصرها بقتْل اثنين منهم بعد تبادلهم إطلاق النار مع جهازي الأمن والجيش الوطني ورفضهم الاستسلام،بما فتح الباب على مصراعيه لتأويلاتٍ متعدّدة تُغذّي تخوُّفاتٍ جدّيّة من مزالق تحوّل الاختلاف إلى عنف مُسلّحٍ نتيجة رواج السّلاح الحربي المهرَّبِ من ليبيا...
- بروز ظواهر غير مألوفة في المجتمع التونسي متحصّنة بالدين مثل ارتداء النقاب من النساء وإباحة الزواج العرفي واسترسال شعر الذقن لدى الرجال...
- قامت الدنيا ولم تقعد،في وطن ثورة الياسمين تونس لحلول ضيف مُبجَّل من البعض وغير مرغوب فيه من البعض الآخر... إنّه الداعية وجدي غنيم "الإخوانجي حتى النُّخاع"،كما صرّح بنفسه ذات مرة لصحيفة عربية قائلا:" أنا (إخوانجي) حتى النخاع، ونحن من (الإخوان المسلمين)، وهو شرف، ولسنا من (الإخوان الراقصين)"...اللافت في هذه المقولة أنها سوَّتْ في "الأخوّة" بين "المسلمين" و"الرّاقصين"...غير أنّ مناهضته من جمهور تونسي واسع ليست بسبب ذات المقولة إنّما لما عُرِف عنه من أنّه "داعية لِخِتان الإناث"،فضلا عن مؤاخذته على خرقه لآداب الضيافة بما عُدَّ في خطابه من استفزاز وجنوحٍ إلى تقسيم التونسيين بين مسلمين وكفرة...
-إعلان وزير الثقافة التونسي مهدي مبروك أن المطربات التي تعتمد على العُرْي سيتمّ منعهنّ من المشاركة في مهرجان قرطاج وذكر بالاسم اللبنانيتين إليسا ونانسي عجرم والمصريين تامر حسني وشرين عبد الوهاب قائلا بالحرف:"مشاركة نانسي عجرم وإليسا في قرطاج على جثّتي..." مضيفا أنه لن يتحوّل قرطاج إلى مهرجان للعُرْيِ كما كان في السّابق،مُبرّرا موقفه بأنّه انحيازُ إلى "ديكتاتورية الذّوق السّليم"...
- إيداع بالسجن بأمر قضائي لمدير جريدة يوميّة "التونسية" لنشرها صورة فاضحة للاعب كرة قدم من أصل تونسي رفقة زوجته عارضة الأزياء .
تلك مسائل يختلط فيها الديني بالشأن الحياتي الأمني والسلوكي والذوقي...ولو دقّقنا النّظر في جملة هذه الشواغل المستجدّة في تونس الثورة لاندهشنا لعدم علاقتها المباشرة بالشأن الاقتصادي الضاغط على حياة الناس ولا بجوهر القضايا السياسية والفكرية وحتى الدينية المراد التعاطي معها من أجل إرساء نموذج حضاري يتأصّل في بيئته وعصره لبلوغ أرقى مراتب الإبداع والنهضة...ذات القضايا في جملتها تسكن جسد المرأة بدءا بأعضائها التناسلية الذي أتى الداعية وجدي غنيم ليدعو إلى ختان الأنثى أو هكذا فهم الكثيرون من الشهرة التي سبقت الرّجل،مرورا بالاختلاف حول حدود العُرْي المسموح بها للمرأة،أي هل تلتحف بالنقاب أم الحجاب أم تُعَرّي رأسها أم أكثر من ذلك إلى أن تنحاز للباس نانسي عجرم الرّكحي الذي يُعَدُّ أكثر احتشاما من عُرْيٍ زوجة ذلك اللاعب التونسي التي نشرت صورتها جريدة "التونسية"...
إنّ "الجدل الثوري" التونسي المُستجدّ،من خلال ما ذكرنا،يبدو متآمرا على الانشغال بالإبداع الحضاري أو حتى الاهتداء إلى ما يُسكّن جوع البطن ليغرق في غرائز ما تحت البطن...بطريقة تكاد تُحوّل ذات الغرائز إلى همٍّ وجودي تتوقّف عليه صيرورة الحضارة وكأننا أحفاد لـ"فرويد"...أو أننا نؤسّس لعقيدة شيْطنةِ جسدِ المرأة وإباحة الجهاد للدفاع عن طقوسٍ ليست محلّ اتّفاق بحكم تباين الرُّؤى حولها استوجبت لدى البعض لفرضها تشهير سلاح الدّين ولدى البعض الآخر لمناهضتها تشهير سلاح الحرّيّة والعلمانية في خطّين لا يتقاطعان...ولا نخال أنّ الفكر السلفي الجهادي لا يتغذى من ذات الصّراع...
ولئن تذرّعنا،مثلا،بقصور النّظر لدى البعض و خدعة "الإلهاء السياسي" المتعمّد لدى البعض الآخر،فإنّ الشخصية المرموقة الأكاديمية المتمثّلة في شخص وزير الثقافة الذي قطف ثمار الثورة باعتلائه كرسيّ الوزارة(وأيَّة وزارة.ا..) لا نجد لها مبرّرا،لا في اعتراضه على استضافة مهرجان قرطاج لنجمات غناء لما اعتبره تسويقا للعُرْيِ الأنثوي،فذلك رأي،إنّما في تشديده على أنّ قدوم ذات المطربات لن يمرّ إلاّ على جثّته...في حدود ما نعلم أنّ الفنانة أكانت محتشمة أو متبرّجة ليس لها من سلاح سوى فنّها الذي لا يقدر على قتل عصفور فما بالك أن يُحوِّل جسد وزيرٍ للثقافة مثقّفٍ إلى جثة أم تراه يفعل.ا..كما أننا لا نُصَدّق أنّ وزير ثقافةٍ محظوظ بزمن الثورة يرفع سيفه في وجه فنانة عارية إلا من فنها وجسدها...
لسنا نروم،هنا،الدّفاع عن العراء والتبرّج والميوعة فتلك مسائل حسمها الاعتدال في تقاليدنا وإرثنا إلى حدّ أنّ الانحياز المغالي لها لا حظّ له في انتصار الأغلبية له في مجتمعاتنا العربية. لكننا نريد أن نُنبِّه لخطورة افتعال قضايا وهميّة نحْقِنها بادّعاء الانتصار للعقيدة الدينية ونداوم على المراوحة في بوتقة ما تحت البطن دون الارتقاء إلى معالجة قضايا هذا الأخير(البطن) لبلوغ فقر دماغ الإنسان العربي ولسانه...بل المعادلة تقتضي البدء بالاهتمام بصلاح الدّماغ...
لعلّه من هذا المنطلق نفهم الاحتجاج على إيداع مدير جريدةٍ السّجنَ من أجل صورة امرأة عارية أو تكاد.ذات الاحتجاج ليس انحيازا لتسويق العُرْي والتشجيع عليه وإباحته إنّما هو انحياز لحرّيّة التعبير التي يخشى الكثيرون أن يُعاود السلطانُ الحنينَ إلى اغتيالها لمُبرِّرٍ قد يبدو وجيها لكنّ خطره في تكريس سلطة السلطان على اللسان(حرية التعبير) وفقا للأهواء التي تُقدّرُ الدّرجة التي لا يجب أن تبلغها سلاطة اللسان وإباحيّة الصورة أو الرّسم...أيْ أنّ ما يُصنَّف ضمن حرّيّة التعبير لا يجب أن تستدرجه السجون إليها،بعبارة أخرى أن تكون علاقة القضاء بمثل هذه القضايا معزّزة بتشخيص"خبراء حرّيّة التعبير" الذين يُشخّصون الجرم بما يشبه ما يقوم به خبراء الاختصاص في مجالات أخرى مثل الطبّ وغيره...
ها أننا،في غفلة منا تدرّجنا للتطرّق إلى ما فوق البطن،أي إلى اللسان أي حرية التعبير...
في ذات السياق يبدو أنّ علاقة المنزعجين من الداعية وجدي غنيم في تونس ليس تشكيكا في صدق الرّجل وإيمانه وعلمه بقدر اختزالهم لرسالته في تلك الدعوة الذي اشتهر بها بالتحريض على ختان البنات،والحال أنّ المجتمع التونسي ليست له علاقة بهذا التقليد في التعامل مع الجهاز التناسلي للأنثى...لذلك،يتعزّز موقف المنزعجين من هذه الدعوة بما يشبه حالة الاستنفار من مؤسسة رسمية حكومية هي وزارة الصحة التي اضطرّت في بلاغ لها إلى التحذير من خطورة ختن البنات صحّيّا وما يترتب عن ذلك من تجريم قانوني ومن إخلالٍ بمعاهدات تونس الدولية...حتى وإن ادّعى البعض أنّ المعجبين بالداعية وجدي غنيم بلغوا عشرات الآلاف،لأنّ ذلك لا يعني أنهم سلّموا بفتواه بختان زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم،تماما كما انزعج الكثيرون من تهافت مئات الآلاف على عروض أليسا ونانسي عجرم وغيرهما من المسوِّقات لفنِّ "العُرْي"،دون أن يعني ذلك أنّ التونسيات تخلّين لفائدة اللباس الفاضح عمّا ارتحْنَ للباسه والتجمّل به سواء في مظهرهنّ كسافراتٍ أو محجّباتٍ أو مُنقَّبات...
قد يكون السياق الأهمّ المراد الإشارة إليه في "نظرية سلاطة اللسان والدعوة إلى الختان"،(ختان البنات و اللسان) هو في ذلك التفسير اللغوي لمدلول "الختان"...في لسان العرب لابن منظور نقرأ:"ختن الغلامَ والجارية يخْتِنُها ويختـُنها ختنا،والاسم الخِتان والخِتانة،وهو مختون،وقيل الختن للرجال والخَفضُ للنساء...الخِتانُ:موضع الخَتْنِ من الذّكَرِ وموضع القطع من نواة الجارية...وأصْل الختـْنِ:القَطْع.."
نتوقّف عند مدلول عبارة:ختَنَ "الجارية"...ثمّ عند:الخَتْن للرّجال و"الخفض" للنساء...ثمّ أصل الختْن:القطع...
نتجاوز إلى التأويل بالقول انّ حرّية التعبير نخشى أن تكون جارية وأنّ رمزها اللسان يُمكن أن نفتيَ بخَتْنه(قطعه) بل خفْضه للتقليل من شهوة التذوّق والسلاطة.. قد يكون لتلك الأسباب ثمّة انزعاج في تونس من الدعوة إلى ختان البنات للدّاعية وجدي غنيم،تماما كالانزعاج من ختن اللسان لخفض المتعة التي توفّرها حرّيّة التعبير والتي من أجلها أطاح الشعب بنظام استبدادي ذات 14 جانفي من سنة 2011....
التعليقات (0)