على رأس كلّ عشر سنوات لا بدّ أن تتغيّر أحوالٌ وتتبدّل أقوال كما أنّه على رأس كلّ قرنٍ لا بدّ أن يكونَ على ظهر الأرض جماعات من الناس غير تلك التي كانت بأغلبيّة قريبة من 100% فقرنٌ تحتَ الأرض وقرنٌ فوقه ولكلٍّ عملٌ وانتظار،وما الحجّ في الإسلام إلى صورةٌ مصغّرة تذكّرنا بموعدٍ لا مناصَ آتٍ مع حسابٍ فيه نجاحٌ وفيه عفوٌ وفيه خُسران لمن كانَ يؤمنُ بأنّ يوم القيامة قدرٌ ونهاية طريق ..
هذه السنة نستشرف الحجّ بإضافاتٍ ثلاث من صُنع البشر ومن خطايا الإنسانيّة حرِصوا جميعاً على أن يصبغوا بها نُسُكَهم وإن لم يكنْ لبعضها أو لها كلّها علاقة بما هم ذاهبونَ إليه من أماكن مقدّسة أمرهم ربّهم أن يعظّموه فيها في أيامٍ معلومات وبأحكام وأفعال وأقوالٍ مخصوصة تلبية لأذان أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتنفيذاً لأمر خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم بقوله "خُذوا عنّي مَنَاسككُم" ..
أوّل نكهةٍ مُرّةٍ طاغيةٍ على المشهد الروحاني نحوَ الحج الذي هو أمل ملايين المسلمين في العالم "أزمةٌ ماليّة" أصابت منابع الأموال في بنوك ومصارف غير المسلمين وعصَفَت بشركات ومؤسسات الأعمال والاقتصاد عندَ غير المسلمين وجرِحَتْ طموحات ومآربَ وأهداف الرّبح المستقرّة في قلوب الأغنياء من غير المسلمين ونالَتْ من تفكير وتذاكي المُخطّطين والمُحلّلين والمفكّرين من غير المسلمين،بيدَ أنّها لم تُشهِرْ سيوفها ولم تصوّب رماحها ولم تَسْقِ سُمَّها إلا للمساكين من المسلمين الرّاغبين في الحج ..
فَلَو ارتفعت أسعار إيجارات المساكن المخصصة للحجاج وزادَت تكلفة الطيران وتضخّمَت رسوم التسجيل في قائمة الراغبين لحجّ هذا العام وتكالَبَ السماسرة لاصطياد من يريدُ الحجّ بأية طريقة ولم يجد له اسماً في القوائم الرسمية الحكوميّة لبرَّرَ الجميعُ هذه الظواهر غير الطبيعيّة بما يسمعونه من أزمة مالية وكسادٍ اقتصادي وإفلاس لبنوك وشركاتٍ لا تعنيهم سوى أنّها تربّعَت على عرش أخبار المال والأعمال في الفضائيات التي تختار أوقات الراحة لتُخبرَ المشاهد بأنّه لا وقتَ أبداً للاستراحة ..
وأمّا ثاني هذه النّكَهات فهو ما وصَلنا من أنوفِ المكسيكيّين عبر أثير المناخ المتأزّم بسبب انحباسٍ حراري افتعَلَه الإنسان بهوسِهِ الصّناعي وشراهةِ نفسه التي لا تهدأ إلا بعدَ أن تعودَ إلى ربّها مرضيّةً أو مُعذَّبَة،حيثُ أصبح الفايروس H1N1 هو الجوّ العام للفتاوى الشرعيّة الإسلاميّة منذ أشهر عديدة وتنافسَ العلماء والشّيوخ ودورُ الفتوى ودوائر الاهتمام بالشئون الإسلامية في البلدان العربيّة والإسلامية على التنوّع الغريب في نصائحهم المجّانية التي يقدّمونها للشعوب ويلزمونهم بها ديانةً وتخويفاً من الإثم والذنوب وهم في نفس الوقت يتقرّبون بها زُلفى للمؤسسات الرسميّة صاحبة القرار في إرسال الحجاج من عدمه ..
وبذلك أضحَتْ صدورُ المُحبّين للبيت الحرام والباكينَ من أجل نظرةٍ للكعبة المشرّفة تستنشقُ إشاعات الإصابة بأنفلونزا الخنازير شهيقاً وتنفُثُ تأوّهات فواتِ الفرصة لهذا العام زفيراً،وأُضِيفَتْ أعباء أخرى لمجموعة الأعباء والتكاليف التي يتكبّدُها من يريدُ الحجّ قبلَ أن يضعَ رجلَه في الطائرة مُغادراً إلى جدّة أو المدينة المنورة،فالتّطعيمُ أصبحَ شرطاً رغمَ ما فيه من مخاطرة تحدّثَ عنها نفسُ القوم الذين خوّفونا من المرض،والعمرُ أصبحَ مُحدّداً ما بينَ رقمين قد لا يكون أحدهما متوفَراً في عمرِ من يريدُ الحجّ ويمنعهُ بلدُه لأنه تجاوَزَ الخامسة والستين من سنّه،إضافةً إلى اشتراط خلوّ جسدِ الحاجّ من الأمراض المزمنة التي لا يخلو منها راغبٌ في الحجّ لعلّ الله تعالى أن يكتبَ له الشفاء مثوبةً له في الدنيا والمغفرة ثواباً له في الآخرة ..
فمنَعتْ دولٌ الحجّ لهذا العام في حرّيةٍ شخصيّةٍ دوليّة يكفلها القانون لكلّ حكومةٍ،وحذّرِت دولٌ أخرى الحجّاج من المخاطرة بالذهاب إلى مكانٍ تختلطُ في الأنوف والأنفس والأفواه،وطبّقَت دولٌ إجراءات زعَمَت أنّها احترازيّة لكي تضعَ نفسها في حلّ وسطٍ يرضي البعض ويسكتُ البعض،وتداعَتْ الأخبار والإشاعات والمعلومات للدولة المضيفة وأصبحَ من يعيشُ هنا حيرانَ أسِفاً من تناقضٍ واضح مريرٍ بين الذي يراه والذي يسمعه وتباين ساطع بين إحصائيات دوليّة ومشاهدات بالعين المجرّدة للإنسان المكّيّ العادي ..
وتأتي النّكهة الثالثة الأخيرة بمثابة ما يُضيفه بائعو "الآيسكريم" من مُكَسَّرِاتٍ قبل أن يسلّموكَ قَدَحَهُ الشهيّ،فالجمهورية الإسلامية الإيرانيّة مشهورة بزراعة نوعٍ فاخر وجيّدٍ من "الفُستق" المحبوب في الشرق والغرب وكما أنّها تأبى إلا أن يصطحِبَ حُجّاجُها منذ القِدَم هذه البضاعة الرائجة في الحجاز ويفرحُ بها أهل المدينة وأهل مكة بل وينتظرونها من السنة إلى السنة،انطلَقَت من إيران نفسها دعاياتٌ لجعل الحجّ موسمٍاً للبراءة من المشركين والكفار ـ حسبَ قولها ـ ثمّ فسّرَتْ هذا الأمر بصراحة حيثُ قال أحدُ مرشديها الكبار بأنّ معنى تلك البراءة هو "الموتُ لأمريكا وإسرائيل" ..
أفتَتْ السعوديّة بأنّ الحجّ موسمٌ للعبادة والرّقي الحضاري وأداء واجبٍ دينيّ لا دخلَ له في السياسة وإثارةَ النعَرَاتِ الطائفيّة والحزبيّة والمشكلاتِ بين الدّول،ولكنّ هذا الأمر لم يرُقْ للدولة الإيرانيّة فعاجَلَ كبارُ مشائخها الإعلامَ المرئي بنصيحةٍ سريعة للمفتي العام السعودي بأنْ يتوبَ إلى رشده قبلَ شهر ذي الحجّة في موعدٍ ضربَهُ للتوبة من الذنوب الخاصة بأمرٍ قبلَ الشروعَ فيه،واستقرّ المشهدُ على ترقّبٍ وحذرٍ لا يمكنُ أن يتكهّنَ به أحدٌ حتى انقضاءَ موسم الحج بسلام دون مشكلاتٍ بين الطرفين تعيدُه لعام 1986م ..
أنْ تكونَ للحجّ ثلاثةُ أنساكٍ شرعيّة جاءِتْ بها السنّةُ المطهَرة وهي "التمتّعُ والقِرانُ والإفراد" فتلك خصوصيّة لدى أهل الفقه والتفصيل في الأحكام الدينيّة الإسلاميّة،وأنْ تكونَ للاستطاعة في الحجّ التي وردت في النصّ القرآني "لِمَن استَطَاعَ إليهِ سَبيلاً" ثلاثةُ توصيفات وأبعاد هي "القدرة الجسدية والقدرة المالية وسلامة الطريق" فهذا ممّا يُمكنُ فهمه والتّفاوض من أجل شرحه أو زيادة مدلولاته أو إنقاصها حسبَ المساحة المسموح بها في الشرعيات ومقاصدها،لكنّ أن تكونَ في هذا العام للحجّ ثلاثُ نكَهاتٍ مُختلفة "اقتصاديّة وصحيّة وسياسيّة" فأظنّ بأنّ القابضَ على حّجِّهِ هذه السنة قابضٌ على الجَمْر ..
ما يثيرُ تساؤلي هو لماذا يبحثُ المغرمين بديمقراطيّة المُظاهرات وهُتافات الجَماهير عن التّظاهر في موسم الحج وفي المشاعر المقدّسة والحجُّ نفسُه تظاهرةٌ كبرى رتّبها ودعا إليها ووضعَ أحكامها ونظامها وحدّدَ وقتها وما يُقالُ فيها وما يُلقى فيها من خُطبٍ ربُّ العالمين؟ ولماذا يخشى الفرد خشيةً زائدةً مُفرطةً عن الحدّ من العدوى في موسم الحجّ بسبب ازدحام الناس وتجمّعهم في مكانٍ واحدٍ والله تعالى هو من أمرهم بالقدوم والتجمّع في وقتٍ ومكانٍ ولباسٍ واحدٍ وقال تعالى عن نفسه بأنّه اللطيفُ بعباده؟ ولماذا تُستغلّ الرحلات الدينيّة والربّانيّة لتكونَ وقتاً للربّح الظالم والاستغلال المقيت مع أنّ الله تعالى قد أعطى للناس في موسم الحجّ فوق المكافأة الأخرويّة مكافأة دنيويّة عن طيبِ نفس من المستفيد وقال "ليَشْهدوا منافعَ لهُم" ..
التعليقات (0)