الحق ، الخير ، الجمال ،العدل ، قيم أرادها ويريدها الله طريقاً للبشر ، بشر بها الأنبياء ، وقاتل من أجل تحقيقها الثوار في كل مكان وزمان ، وبحث عنها العلماء والفلاسفة بين سطور الكتب ، وتغنى بها الشعراء ، وحلم بها الفقراء والمظلومون .
ألا أن الحكومات أبعد ما تكون عن هذه القيم النبيلة منذ أن قامت أول أشكال الدولة في التاريخ ، فهي لا تتعامل ألا بمنطق المصالح العليا والمصالح العليا فقط ، وهي مستعدة لأن تقتل حتى أبنائها أذا ما كانوا عائقا أمام تحقيق هذه المصالح ، أو كانوا طريقا لتحقيقها .
وبما أن المصالح هي اللتي تحرك دول المجتمع الدولي في جميع الأتجاهات بدون أستثناء ، فأن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ليس أستثناءً من هذه القاعدة .
تناثر الجزر كالمطر على شعوبنا العربية من بين كلمات خطاب أوباما اللذي ألقاه في البيت الأبيض عن الأحداث في الوطن العربي ، "جزر" أقتصادي من فصيلة المساعدات الأقتصادية والقروض العاجلة ، وجزر سياسي من نوع الوقوف مع حقوق الشعوب ، وحتى العصي اللتي رفعها بوجه ، (بعض) ، الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة ، ما هي ألا بمثابة جزرات أخرى قدمها أوباما لشعوبنا الثائرة .
ألا أن كثيرين مثلي ، أعتقدوا أن الرئيس الأمريكي قد فقد عقله ، وأنه أصبح رئيساً أنتحارياً يضحى بحظوظه الأنتخابية لولاية ثانية ، بعد ما قاله عن الدولة الفلسطينية اللتي يجب أن ترى النور ضمن حدود 67 ، وهذا الكلام الأخير كان بحق الجزرة الأكبر والأشهى لنا كمواطنين ، بأعتبار أن حل القضية الفلسطينية هو مفتاح الحل لأكثر من ثمانين بالمئة من مشاكل منطقتنا العربية والأسلامية .
ألا أن أي متمعن بشكل وكلمات الرئيس الأمريكي في "أيباك" ، وشكل رئيس الوزراء الصهيوني في الكونجرس والبيت الأبيض وهو يتكلم بجنون ، سيعرف أن أوباما قد تعرض الى التوبيخ الشديد بعد خطابه حول المنطقة العربية لا محالة ، ليس فقط من نتنياهو والأيباك ، بل وحتى من الكونجرس وأعضاء حزبه .
أكثر عبارة قرأتها وصفاً لما حدث بين نتنياهو وأوباما ، جائت في مقالة كتبها دانييل شيشكفيتس على موقع " دوتش فل " يقول فيها :
" بنيامين نتانياهو ، هذا المتحدث الفذ ؛ قام بما كان المرء يتوقعه منه ، إذ قام بهجوم ساحر ولعب بتصلب وعناد بالموضوع ، فحكومته متمسكة بالمبادئ التقليدية المعروفة ، وهي أن القدس تبقى العاصمة الموحدة ، والجنود الإسرائيليون سيقومون بتأمين الدولة الفلسطينية على حدودها الشرقية ، ولن يكون هناك أي استقبال للاجئين الفلسطينيين في إسرائيل .
وهذا لم يكن صفعة لأوباما فقط ، وإنما رفضا لحل الدولتين العادل ولدولة فلسطينية قابلة للحياة ، وبذلك يبقى الحل السلمي في الشرق الأوسط بعيد المنال" .
لايمكن أن يكون الرئيس الأمريكي ساذجاً كي لايعلم بما سيحدث له بعد اللذي سيقوله عن دعمه للديموقراطيات اللتي باتت تتكاثر بسرعة في هذه المنطقة ، وأنه كان يلعب بالنار عندما قال ما قاله عن الدولة الفلسطينية ضمن حدود 67 .
فما اللذي حدى بأوباما لأن يقول هذا الكلام اللذي لايمكن أن يقبله القادة الصهاينة ، حتى ولو علموا أنه من باب المناورة السياسية الكاذبة؟ ، لأن مثل هذا الكلام سيقوي حتماً أرادة المقاومة بأنواعها لدى العرب وسيعطيها زخما جديدا بكل تأكيد ، وقد بانت هذه الحقيقة في الموقف الفلسطيني والعربي الرسمي اللذي تلقف كلمات أوباما وبنى عليها مواقف لم يكن أحداً يتوقعها قبل حلول الربيع العربي ، وهذا أكبر ما يمقته الكيان الصهيوني اللذي يراهن على الزمن والعنف لقتل هذه الأرادة اللتي تهدد كيانه الغاصب .
السبب الرئيس لما قاله أوباما يكمن في المصالح العليا اللتي تكلمنا عنها في بداية المقال ، فالوضع في الوطن العربي بات خطيراً جداً على مصالح الولايات المتحدة ، ولابد أن أدارة أوباما قد درست الموقف في المنطقة وخرجت بنتيحة مفادها أن الأستمرار بسياسة دعم الدكتاتوريات الفاسدة اللتي أستزفت موارد الأمة ، قد أدت الى تنامي شعور الشعوب العربية بمسؤوليتها عن فقرها وتخلفها ،وعن ضياع الهوية والحقوق والكرامة .
وأن مصداقيتها لدى شعوب المنطقة قد وصلت الى الحضيض نتيجة أخطائها وخطاياها في حروبها اللتي أسمتها ضد الأرهاب ، وفي العراق وأفغانستان ، أضافة الى دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني اللذي يقتل العزل من اللبنانيين والفلسطينيين ، ويغتصب أرضهم وقراهم ، ويرتكب أعظم الجرائم بحق الأنسانية كل يوم تحت حماية الفيتو اللذي منع أدانة القتلة الصهاينة حتى بعد ثبوت أرتكابهم للجرائم رسمياً عبر تقارير الأمم المتحدة ، (قانا ، جولدستون..) ، وهذا كله سيكون في أعتبار الحكومات الديموقراطية المرتقبة ، وهو عنصر جديد دخل على المعادلة اللتي تحكم الوطن العربي والشرق الأوسط .
ولو أضفنا الى ذلك ما أفرزته الديموقراطيات الوليدة والثورات الشعبية من نتائج على الأرض متمثلتاً بفتح معبر رفح ، وارتفاع وتيرة المشاعر المعادية للكيان الصهيوني عالمياً ، وهذا أدى بدوره الى توجه دول أوربية عديدة ، حليفة للولايات المتحدة ، للأعلان عن دعمها لمشروع أعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد ، وكذلك الهتافات ضد الكيان الصهيوني مؤخرا في تونس ومصر ، والحديث عن توجه مليون مصري الى حدود سيناء ، وتظاهرات الفلسطينين على حدود وطنهم المحتل من دول مجاورة ، والمصالحة بين فتح وحماس .
أضافة الى التخوف الصهيو- أمريكي من وصول قوى وطنية وأسلامية الى الحكم في مصر وتونس وسوريا وليبيا والبحرين واليمن ، وباقي الدول اللتي تنتظر دورها في التحول نحو الديموقراطية .
فأن كل ذلك يجعلنا نقول أن مخاوف كبيرة ، وشكوك عديدة قد تجمعت لدى الأدارة الأمريكية حول مستقبل مصالحها في المنطقة ، ومن عبارات مثل " إن دعمنا للتغيير في الشرق الأوسط ليس مصلحة ثانوية للولايات المتحدة بل هو أولوية قصوى ينبغي أن تنعكس في إجراءات متنوعة عبر الدبلوماسية والوسائل والإمكانيات الأميركية الأخرى " يتضح قلق أدارة أوباما من أمكانية أنزلاق المنطقة العربية من بين أصابع قبضة الولايات المتحدة الحديدية مالم تبدأ بسياسات جديدة تجاه قضاياها .
صحيح أن خيبة الأمل عادت لتصيبنا من جديد بعد الرد السريع والهجوم الشرس اللذي قاده نتنياهو ضد أوباما في عقر داره ، واللذي أرغم الأخير على تغيير أقواله عبر تبريرات ساقها في خطابه أمام أعضاء منظمة "الأيباك" ، ألا أن جميع الدلائل أصبحت تشير الى أن شعوبنا قد باتت رقما صعباً في المعادلة الدولية ، وأنها قد فرضت أرادتها على الجميع حتى قبل أن تبلور أية مواقف واضحة تجاه أي قضية من قضاياها الداخلية أو الأقليمية أو الدولية .
فالولايات المتحدة والدول الديموقراطية خير من يعرف أن الديموقراطية مصدراً جباراً للقوة ، وأن الحراك الديموقراطي أذا ما بدأ في أي مجتمع لابد وأن يؤدي الى تكوين مؤسسات صحيحة وقادرة على تحقيق مصالح الشعوب .
وهي أيضاً تعرف أن مصالح شعوبنا تتقاطع تماماً مع مصالح الكيان الصهيوني ، وذلك لأنه ورم سرطاني نمى فجأةً في جسد الأمة ، وأن هذا الجسد مهما تعايش مع هذا الورم لابد وأن يتخلص منه يوما ، وحتى لو عجز الجسد عن ذلك فأن الورم لن يترك هذا الجسد حتى يقتل جميع خلاياه ، وعندها فقط سيرتاح ويذهب خوفه من أن يستعيد الجسد عافيته ليقضي عليه .
لكل ذلك فأنه يمكن وصف خطاب أوباما حول ما يجري عندنا بأنه كان محاولة لصياغة عقد جديد مع الشعوب الثائرة يحفظ لها مصالحها في المنطقة ، والنأي نسبياً عن الكيان الصهيوني بمسافة محدودة قد تقنع العرب بوجود تحول حقيقي في سياساتها ، ألا أن هذه المحاولة قد بائت بالفشل بعد أن أجهضها نتنياهو ، وهذا ما يفسر كمية عبارات التشديد على متانة العلاقات الصهيونية الأمريكية اللتي أستخدمت من قبل جميع الأمريكان والصهاينة وأولهم أوباما ، وأعتقد جازماً أن الأدارة الأمريكية في حيرة شديدة الأن ، وأنها تعلم بأن مهمتها لأيجاد صيغة العقد الجديد باتت شبه مستحيلة .
لذلك فأن على الولايات المتحدة أن تتحمل نتائج هذا الفشل في المستقبل ، وأن على العرب التهيوء جيدا لحروب قادمة ، لأننا تعودنا على أن الحرب هي أسلوب الكيان الصهيوني المفضل في حل القضايا اللتي لا يمكنه حلها بالطرق الأخرى ، ولعل موقفه اللذي أعلنه أمس واليوم من مسألة فتح مصر لمعبر رفح ، مثالا واضحاً على هذا الأسلوب .
http://www.dw-world.de/dw/article/9799/0,,15107266,00.html
التعليقات (0)