منذ عقود بدأت تتعالى نداءات من هنا وهناك على امتداد الخريطة الإسلامية تطالب بإنصاف المرأة أو على الأصح بتحريرها – وذلك حسب التعليمات القادمة من ورائ البحر - ومع مرور الوقت تكاثرت الأصوات المكتوبة والمصورة، فبدأت تنظم أيام دراسية وندوات ومؤتمرات... ووجد البعض منا في الموضوع مرتعا خصبا لتعميق أطماعه الدنيوية . وزادت دسامته مع تطور أدوات التبليغ المباشر ، فأنتجت كتابات وبرامج وأناشيد تحث على تحرير المرأة المسلمة والعربية على الخصوص ، فتلقفت المطلقات والعانسات الفكرة وجعلتها شماعة يعلقن عليها فشلهن في الحياة النظيفة . ورويدا رويدا توسعت دائرة الأهداف وتسيس الموضوع فتطور التكتيك ، كما برمج ، وأصبح مطية يركبها أقزام السياسة والمفسدون في الخلق والأرض لتحقيق أهدافهم الذاتية وإرضاء لأعداء قوميتنا في تلقيح أجسامنا بالسموم البيضاء ليعم الفساد الديني والأخلاقي والاجتماعي والصحي مجتمعنا وتنتشر الدعارة ومعها الجريمة في مدننا وقرانا ليفقد الوطن كرامته وهويته ، فبرز بجلاء أن " تحرير" أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا أصبح قضية نضالية مدعمة يكافح من أجلها كل عشاق القضايا المعلبة ، والطريف ما في الأمر هو أن القضية لم تخنق كما كانت ومازالت تخنق كل القضايا محلية كانت أم مستوردة . إن النفق الذي دخلته بلادنا ، مكرهة ودون الاستشارة المباشرة والصادقة للشعب ، كما يفعل آمرونا مع كل قضياهم ، هو نفق سيقذف بنا لا محالة إلى جوف بركان ستلتهمنا حممه أرضا وبشرا ولن ينجو من لهيبها حتى المتآمرون ، وما الصورة الشفافة لبلادنا إلا دليل على بداية تآكلنا واحتراقنا مهما ضحكنا على ذقوننا وحاولنا تنويم شعبنا بشتى العصي والشعارات . فالشعب الذي فقد شهية النوم الطبيعي ومبدأ الثقة والصدق بدأ منذ زمان يفر أفرادا وجماعات من أرضه وعلمه راكبا كل المخاطر يبحث عن نفسه ولو في صناديق القمامة .
فسياسة تحرير المرأة بكل صورها أجهزت على آمال أخواتنا وبناتنا وزميلاتنا في العيش النظيف داخل أسر محترمة بعدما بترت الدولة خيوط المودة والرحمة وأصبح مبدأ بناء الأسرة في خبر كان لينتشر الفساد الأخلاقي والروحي والعضوي والاقتصادي وكل الأعراض ذات الصلة التي هي بداية الانقراض .
فإذا كان هدف هذه ( الثورة ) هو إنصاف المرأة فدينها قد أنصفها منذ قرون وحررها قبل أن يعرف مهندسو المعلبات التحرر... وهي راضية بما جاء به دينها وتدافع عنه بصبر وجلد . فالله كرمها أعظم تكريم حين أوجد بين ضلوعها قلبا يفيض حبا وحنانا ورأفة ورحمة ، وقدسها حين جعل الجنة تحت أقدامها بطاعتها وخدمتها ، وحرم المس بعرضها ، وجعل منها طرفا لابد منه لاستمرار الحياة ، ومدرسة فاظلة لإنتاج مجتمعات نموذجية ، ورمزا للحياة الكريمة...
إن الله ورسوله جعلا من الإسلام قانونا لكل البشرية عبر كل العصور وتطبيقه تلقيح ضد كل الأمراض الفتاكة وسلاح لا يصدأ ضد كل الضباع كيفما كانت أقنعتها . فما ينقص المرأة المسلمة هو العدالة الإنسانية في تطبيق العدالة الإلهية : في البيت ، في الشارع والمدرسة ، في السياسة والاقتصاد ، في المعمل والإدارة .. ومنحها حقها في السكن الكريم والطعام النظيف والتطبيب الصحي والتعليم النافع .. في الحقوق كما في الواجبات وفي الحياة الكريمة ، هذه هي حقيقة الحقوق وصدق الحرية . أما تحريض طرف ضد الآخر بشتى العناوين – عيد المرأة ، حقوق المرأة ، تعنيف المرأة ، تحرير المرأة ...- هو تمييز فتاك للمرأة نفسها . وما لفظا الرجل والمرأة إلا تعريف لغوي للأنثى والذكر وليس تفريق بين نصفي الإنسان .
وما يصيب القلب المسلم بنزيف داخلي هو ذاك التآمر المريب بين أحفاد منظمي الحملات التبشيرية وأحفاد ألئك اللذين اكتووا بنارها من قومنا لتحقيق أغراض سحابية ملوثة تجعل من أحفادهم عبيدا لن يبعث نبي آخر لتحريرهم .
إن حقوق المرأة نابعة من حقوق المجتمع على الدولة وهي جزء من الكل ، فالممارسات السلبية والبغيضة التي حرمتها كل الأديان السماوية والقوانين البشرية – والتي لا يمكن نكرانها – لبض الرجال ضد النساء وكذلك لبعض النساء ضد الرجال تعود جذورها إلى الممارسات العنيفة ، بكل صورها ، للدولة ضد المجتمع من نتائجها المؤلمة ظاهرة العزوف عن الزواج واكتضاض أسرنا بالبنات اليائسات وتفشي مرض الدعارة والشذوذ الجنسي والجريمة في بلدنا الذي كان بالأمس القريب من أشرف البلدان يضرب به المثل في الكرم ونبل الأخلاق والشهامة والشجاعة وأصبح اليوم مستنقعا لكل ألوان الفساد يتهافت عليه كل المفسدون من مختلف بقاع العالم ويتبرأ منه أبناؤه الذين يجري في عروقهم الدم المغربي الطاهر الأصيل .
فيا أيتها العقول الصغيرة الشاردة في الجماجم الكبيرة ليس تخلفنا في ديننا ولغتنا أو في قوميتنا ونظامنا أو في طبيعتنا.. بل ضعفنا في نفوسنا: نفوس الشهوات والملذات والأنانية ونكران الغير ، والكذب والنفاق والتحايل ، وحب الأرائك والنعم من دون عرق ، ودفن الرؤوس في الرمال ... هذا هو حالنا من الأندلس إلى العراق في خدمة " أسيادنا" والويل لنا إن أسأنا- ولو في أحلامنا- لدينهم وعقيدتهم أو للغتهم وقوميتهم وبشرهم أو لمصالحهم وإن وجدت تحت أسس مقدساتنا الروحية والعضوية .
التعليقات (0)