دون تحليل ممل للشكل والمضمون.. فهم المارد ما يقصده المجنون.. فاستجاب
للأمر على الفور.. وهكذا انتقل الحمار من العسر إلى اليسر.. حيث تحول إلى
إنسان يحب ويكره.. لكنه أحس بالخجل بعد أن رأى ما استجد على العورة.. فكان
لا بد من البحث له عن ملابس.. تتوافق مع جسمه وهو واقف أو جالس.. وهذا ما
كان حيث أهداه المجنون بدلة.. موديل »ألف ليلة وليلة«.. وبعد أن لبسها
صاحبنا الحمار.. أصبح آية في الأناقة والوقار.
أهكذا يتم الانتقال.. بهذه السرعة من حال إلى حال.. ويتحول الكائن المسكين
المهان.. من حيوان إلى انسان؟.. هذا ما أدهش صاحبنا الحمار.. فأطلت من
عينيه نظرات تقدير وانبهار.. وحاول أن يجهش بالنهيق.. معبرا للمارد والمجنون
عن شكره العميق.. لكنه اكتشف أنه يهمس بكلام بشري رقيق.. وأنه أصبح على
دراية بعدة لغات بشرية.. من بينها اللغة العربية.. رغم أنها تعاني الآن من
ضعف الذرية.. ورغم ما يشيعه عنها المتفرنجون.. حيث يتحذلقون وهم يؤكدون..
أنها أصبحت لغة رجعية.. لا تتجاوب مع أجواء الحياة العصرية.
لم يتغير جسد الحمار فحسب.. وانما تغيرت أشياء عديدة في العقل وفي القلب..
فمكانَ القناعة حلَّ الطمع.. وتصور الحمار انه يستطيع أن يأتي بالبِدَع..
فأكد للمجنون أنه منهمك في كتابة قصيدة.. وأنه سيخصص معظم أبياتها
الفريدة.. في مدح المارد العملاق.. لكنه سيبدأها بالتعبير عن الأشواق.. تجاه
الحمارة التي كانت نور العين.. وتجاه حبيبيه الجحشين.. وأكد الحمار أن القصيدة
ستكون رائعة.. وأنه ينوي أن يترجمها إلى العديد من اللغات الشائعة.. فضلا
عن ترجمتها إلى بعض لغات الحيوانات.. لكي تقرأها كل الكائنات.. فمن الجائز
أن ترشحها جهة من الجهات.. لنيل جائزة نوبل في الآداب.. خصوصا وأنها
خالية من التشنج العنصري المعاب.
قال المجنون للحمار إن الجوائز.. ليست حوافر بقدر ما هي حوافز.. ثم طلب
منه أن يُسمعه المطلع.. مادام يؤكد أنه أجاد في قصيدته وأبدع.. فوقف الحمار
أمامه وأمام المارد في الحال.. وقال فيما قال:
أيها الماردُ العريقُ سلامَا
من حمارٍ يذوب فيك غرامَا
إن شعري في مدحك اليوم أحلى
من نهيق أضأتُ فيه الظلامَا
لم يعد للنهيق أي مجال
بعد أن صغتُ درةً تتسامى
بعد هضم الشعير ذات زمان
أصبح الأكلُ بطةً أو حماما
منذ غابت زريبةُ الأمس عني
صار »كنتاكي« قِبلةً ومقاما
أعجز الشكرُ مهجتي ولساني
فتقبلْ تحية واحتراما
قطب المجنون جبينه وقال على الفور.. كيف استطعت يا حمار أن تكتب هذا
الشعر؟.. أتريد إقناعي بأنك شاعر حاذق؟.. للأسف فإن هذا الشعر يؤكد لي أنك
منافق.. وهنا احمرت أذنا الحمار من الخجل.. وقال في شيء من التردد والوجل..
يبدو أن طبيعتي قد تغيرت منذ أن تحولت إلى انسان.. واذا كنت سأتوقف عن
النفاق منذ الآن.. بناء على أوامرك المطاعة.. فإني أرى أن الناس باستثنائك أنت
في منتهى البشاعة.. ربما لأنك كما تقول مجنون.. وبالتالي فإنك لا تفكر كما
يفكرون.. وعلى العموم اذا أتحتَ لي ان أخرج معك.. لكي أصحبك في جولاتك
وأتبعك.. فإنك ستراني أواجه بالصدق الناس.. لأؤكد لهم أن معظمهم وسواس خناس..
ولن تكون لصراحتي معهم حدود.. مادمت أحيا في هذا الوجود.
التعليقات (0)