هذا ما قاله الحمار للمجنون.. بعد انصراف المارد في هدوء وسكون.. وبمجرد
أن استمع المجنون لبعض التواشيح.. أصدر أمرا للحمار بأن يركب معه بساط
الريح.. لينطلق الاثنان في الفضاء الفسيح.. حيث استغرق الحمار في النظر إلى
ما تحته من الحظائر.. وإلى ما حولها من أكواخ وقصور وعمائر.. ورأى الحمار
أن الناس أصبحوا صغارا كالنمل.. لكنه أخذ يميز بين الجبل والسهل.. وبين
الصحارى الكبيرة الخاوية.. وأمواج البحر المتدافعة الطاغية.
ضحك المجنون حين أخبره الحمار.. بما في ذهنه قد دار.. فقد أصبح يعرف معنى
الجهات الأربع.. بعد أن كان يمشي فيما مضى على أربع.. أما المجنون فأخبره
أن الرحلة ستتوجه إولا إلى الغرب.. وأنهما سيطيران حول اليونان وايطاليا
وبلاد الصرب.. وانهما ربما يهبطان في أسبانيا الأندلسية.. لكي يتعرف الحمار
على بعض معالم الحضارة العربية.. وهنا أبدى الحمار أسفه الشديد.. لأنه لم
يكن يعرف الفرق بين قديم وجديد.. بحكم أن الحمير ليس لها تاريخ مكتوب..
يتهكم في صفحاته الغالبُ على المغلوب.. ويتباهى فيه الراكبُ على المركوب.
بكى المجنون وهو يحكي للحمار عن صراعات الناس.. وعدم تسامحهم مع غيرهم ممن
يختلفون عنهم في العقائد والألوان والأجناس.. وهنا طلب الحمار أن يزيده
المجنون علما.. حتى لو كان هذا سيزيده غما.
هل تعرف يا سيدي المجنون.. أن أبناء جنسي السابق لا يتصارعون.. وأنهم
يتجاورون ويتحاورون.. وهم يمضغون الشعير الذي يأكلون.. وأؤكد لك أنه لم تقع
حادثة في الليل أو في النهار.. قام خلالها حمار بقتل أخيه الحمار.. فلماذا
يتصارع الناس مع بعضهم؟.. ولماذا يقيدون حركة الضعفاء منهم بلجام بغضهم؟..
أرجو ألا تكون أسئلتي تجاوزا للحدود.. وأتمنى أن تسامحني لو كنت قد وقعت
في خطأ غير مقصود.
- وأنا أؤكد لك أن العقل البشري موجود.. حتى وان كنت أرى أنه محدود..
المشكلة ليست في العقل بل فيما يحرك هذا العقل.. وهو عادة يتحرك بغرائز قبيحة
لا تجلب إلا الويل.. في كل زمان ومكان.. يقتل الانسان أخاه الانسان..
قابيل قتل أخاه هابيل.. والقتل امتد إلى عام الفيل.. وهناك في اليابان مدينتان
جميلتان.. أُلقيتْ عليهما قنبلتان ذريتان.. أما في أفغانستان.. فقد حاولت
جماعة خيبان.. أن تدمر تمثالا لإنسان.. غاب عن الدنيا منذ زمان.. ومقابل
هذا شهدت اسبانيا محاكم تفتيش طاغية.. دفعت بالناس المختلفين إلى أبشع
هاوية:
ها هنا الأندلسْ
قاتلُ النور نادى جموعَ الحرسْ
فتشوا في قلوب يتامى العربْ
فتشوا واقتلوا وافعلوا ما وجبْ
- الزمان انقضى إنما قاتل النور لم ينتبه
منذ أن ظل يمشي وفي كل قلبٍ يرى يشتبه -
ها هنا طالبان
قاتلُ النور نادىَ سيوف الإبادة
اسحقوا رأس بوذا بغير هوادة
واصعدوا بعد حين لعُلْيا الجنان
أمطرت عينا الحمار سحابة من الدمع الهتون.. وقال بصوت متهدج للمجنون: إذا
كنت قد زدتني علما.. فإنك للأسف قد زدتَ غما.. وطالما أن الحمار لا يقتل
أخاه الحمار.. لا في الليل ولا في وضح النهار.. فقد آن أن أخبرك بما اتخذت
من قرار.
استبد بالمجنون فضول.. ما لبث أن تحول إلى عاصفة من الذهول.. عندما أخبره
الحمار أنه قرر العودة إلى الأصل.. بعد أن اشتاق للحظيرة بالفعل.. وأنه
يتطلع للقاء الحمارة والجحشين وبقية الأهل.. وذلك حتى يلتئم الشمل.. ويذوب
الواحد في الكل.. ولم يعترض المجنون على القرار.. رغم الصداقة التي توطدت
بينه وبين الحمار.. وهكذا هبط بساط الريح.. من شرفات الفضاء الفسيح.. وقبل
استدعاء المارد من قلب القمقم النفيس.. قال المجنون للحمار: لقد كنت لي
خير نديم وجليس.. فاسمح لي ان احتفظ عندي بالبرذعة.. تذكارا لرحلة طويلة
وممتعة.. عشنا فيها لحظات صعبة.. وخضنا خلالها بين الصحارى والحقول الخصبة..
والآن وداعا أيها الصابر الحزين.. يا من تتحلى بالقناعة على امتداد
السنين.. وقبل أن تفارقني عائدا إلى الحظيرة والأهل.. حتى يلتئم الشمل.. لا بد
لي أن أكرر ما سبق أن أوضحته من قبل.. قانعةٌ هي الحمير.. بالماء تكتفي
وبالشعير.
التعليقات (0)