بعد أن همدت زوبعة الغبار.. التفت المجنون نحو اليمين ونحو اليسار.. فلم يعثر على أثر للحمار.. أما ورقة الكلينكس المعطَّرة.. فقد بدت في حالة مزرية مُنفِّرة.. بينما وقفت الحمارة المسكينة.. وقد أطل الذعر من نظراتها الحزينة.. وحين سألها المجنون عن الحمار.. أكدت له أنه واقف في الجوار.. لكنه يرتدي الآن برذعة مسحورة.. حتى لا تبدو هيئته منظورة.. كما أكدت الحمارة أن الحمار.. يفكر في وسيلة للفرار.. بعد أن توعده السيف البتار..
ولم يصدق المجنون هذه الأقوال.. إلا بعد أن تذكر أن كل كائن يحاول أن يحتال.. لكي ينجو مما يتعرض له من أهوال.. وأنه - شخصيا - يمتلك طاقية إخفاء.. تخفيه عن الأنظار وقتما يشاء.
كيف تستطيع الظلمات أن تندس في جسد النهار؟.. هذا ما قاله المجنون وهو يفكر في محنة الحمار.. فالحقيقة أن المحنة التي لا جدال فيها.. ولا يستطيع أحد أن ينكرها أو يخفيها.. هي محنة البعد عن الوطن.. حيث تنكسر الروح ويتفتت البدن.. فما الذي يفعله الأسدُ اذا أُجبر على ترك الغابة؟.. وما الذي يحس به إنسانٌ يهجر أحبابه.. ليفر من ظلم يكشر أنيابه؟.. ولماذا تنتحر أقوى الحيتان.. حين تبتعد عما تعرفه من شطآن؟! نظر المجنون إلى الحمارة المسكينة.. وخُيل إليه أنها أصبحت أشبه بسفينة.. توشك أن ترتطم بالصخور.. بعد أن تمزقَ شراعها المكسور.. وصب المجنون ما صب من غضب.. على صاحب الحظيرة الذي نهب ما نهب.. دون أن يهتم بما تلقاه الحمير من تعب.. مادام الشعير لها وله الذهب:
كأنما حوصر الزمانُ وغاص في بؤسه المكانُ ولم يعد ينطق اللسانُ مذ زخرف الزورَ بهلوانُ يقول: يا حضرةَ الحميرِ صبرا على التبن والشعيرِ واستعجلوا الآن في المسيرِ ليرفلَ الجحش في الحريرِ مستقبلٌ زاهر يطلُّ وفيه وردٌ وفيه فلُّ وكل جحشٍ له محلُّ ونحن من أجلكم نظلُّ وبعد أن نكمل المسيرة نعانق الفرحة الكبيرة ما أجمل العيش في الحظيرة للأوجه الحلوة النضيرة
قالت الحمارة للمجنون.. ان كل شيء يهون.. ماعدا لوعة الفراق.. رغم أنها تجدد الأشواق.. وأشارت الى ان لها مع الحمار قصة حب رقيقة.. بدأت فصولها عندما التقيا في إحدى الحارات العتيقة.. وأضافت إن لهما الآن جحشين.. لا تغمض لأي منهما عين.. إذا غاب عنهما أبوهما الحمار.. ليقضي حاجة له أو ليكمل ما يُطلب منه من مشوار.. فكيف سيكون حالهما اذا غاب الأب؟.. ومن الذي سيرعاهما بالحُب وبالحَب؟..
ثم أضافت والدمع في عينيها حائر: ان الذين يهربون من الحظائر.. يتعرضون دائما للكثير من المخاطر.. فقد يستغلهم آخرون.. مقابل ملاذ غير مضمون.. وقد يتغاضون عما يلقونه من إهانة.. ومنهم من يقبلون القيام بأدوار الخيانة.. ومنهم من تدهسهم سيارة ملغومة.. تنطلق نحوهم من جهة غير معلومة. ظلت الحمارة تجهش بالنهيق.. دون أن ترى خاتمة لخارطة الطريق.. لدرجة أنها تمنت لو قام السيف البتار.. بتنفيذ وعيده بقطع ذيل صديقها الحمار.. إذا كان هذا يضمن وجوده إلى جانبها باستمرار.. ويبعد عن ذهنه فكرة الفرار.
بدا واضحاً أنّ الحمار.. كان منتبها الى ما بين الحمارة والمجنون من حوار.. وانه استمع الى أدق تفاصيل ما دار.. والدليل على هذا أنه أطلق جرعة من النهيق.. تتابعت ما بين الزفير والشهيق.. وتصاعدت كأنها أَلسنة حريق..
وفجأة خلع الحمار برذعته المسحورة.. وعلى الفور بدت هيئته جلية ومنظورة.. ولم يتردد في القول لحمارته الثرثارة.. إن اقوى جيوش الطغيان الجرارة.. تستطيع ان تقتل كل يوم ألف نفس ونفس.. لكنها لا تستطيع ان تحجب نور الشمس.
|
التعليقات (0)