الحلم العربي في الوقت المستقطع
أحلام الشعوب-كما الأفراد-ليست من فراغ،هي تستند إلى واقع حتى إن افترضت أجنحة يطير بها الإنسان في الفضاء الرّحب...إنّ الحلم ب"الإنسان الطائر"عملية تركيبية لواقع فيه الإنسان والطائر استُدرجا لخيال مبدع محلّق في أشواقه...
فضل الحلم أنّه لا يُصادر التّمنّيات ويُبيح كلّ التُوقعات...
ولو لم يكن هناك حلم لابتدعه الإنسان، وتخصيصا،الإنسان العربي اليوم، لأنّه مدفوع إلى الاستنجاد بفسحة أمل في "الوقت الضائع"الذي يعيشه حاضرا صعبا لا يُحتمل...
الإنسان العربي قادر على ابتداع الحلم لأنّه "رومانسي بالطبع والطبيعة"،ولأنّ عبق أمجاد ماضيه يُلاحقه كالمتعطّر بأرقى أنواع العطور الشّذيّة وهو يسير على مستنقع آسن،فلا هو قادر على الهروب إلى عطره ولا هو مسلّم بالرائحة الكريهة تؤذي أناقته وتطارده بعفونتها...
كذا حال الشعوب العربية في حلمها اليوم،هي ليست في حالة غيبوبة لا تعي واقعها الرّديء وتحدّياته لكنّها تضيق به وترفضه،ترفض الاستسلام لواقع لا يتواءم مع كبريائها، تعيش حالة ارتباك في تلمّس الخروج من المأزق الذي يسجنها أو من النّفق المظلم الذي تردّت فيه ،وهي لذلك تستنجد بأمجاد تراثها عساها أن تجد ما يُبقي على جذوة الأمل مُتوقّدة في وجدانها...
هي تُشكّل حلمها من واقع تاريخها ،ومن واقع حاضرها ميراثا لفكر وجغرافيا وثروات،من جهة، وفجيعة فقر في السلوك والأداء وعجز عن حضور مُؤثّر في فعل الحضارة والتاريخ،من جهة أخرى...
ومن ثمّة فهي تعيش حلمها...
أجل هو حلم ينهل من الهويّة لكنّه لا يرفض النّظر في تجارب الأمم الأخرى وهي تُحيله على إمكانات أرحب للتحليق...لا يُصرّ على فرض ناقته وخيمته ومعلقاته السبع على الآخر،ولا حتى عمامته،همّه تسلّق موقع رفيع يرى أنّه جدير به...
هو لا يُخفي ،مثلا،إعجابه "بالمارد الأصفر"-التّنين الصيني-وهو يزحف على مهل،بلا صخب إيديولوجي،ولا استعراض عضلات،ولا إفصاح عن أسرار مشروعه الجديد،ولا دعاية منفّرة للطّقوس التي يتبرّك بها، ولا تورّط في حروب يخوضها دون خياره أو لا يكون متأكّدا من الحسم فيها بهزيمة خصمه بالضربة القاضية...لكنّه،قطعا،لن يكون تنّينا أمريكيّ الهوى ولا إسلاميّ العقيدة...ومع ذلك فالحلم العربي يغازل هذا "المارد الأصفر" لأنه يرى فيه سحر الشّرق بتعويذاته وبهاراته وتوابله،وهو سحر يُغري بالانجذاب له عسى أن يُساعد على تحمّل آلام المخاض ويُسرّع ولادة "نظام عالمي جديد" يقوم على أسس أكثر عدلا وإنصافا واحتراما للإنسان مهما كان لونه وعرقه ودينه...
هكذا حقيقة الشعوب العربية،ليست حاقدة على أحد،في سعيها إلى تشكيل حلمها،وهي،أيضا،ليست مُتسامحة صبورة لا تشعر بالغبن والضيم،ولا متعصّبة منغلقة تخشى الآخر ولا تتفاعل معه،هي محكومة بكلّ ذلك في نفس الوقت...ترى في كلّ نفس محتج عن الظلم-"غانديّ" المزاج أو "تشيغيفاريّ" التّّمرّد،نموذجا يُمكن أن يُثري الحلم ويُداوم تحليقه...
إنّ حالة المخاض العسيرة التي يعيشها العرب جعلتهم أشدّ حساسية لأيّة هبّة ريح وأكثر إرهاف سمع لكلّ ما يحدث في العالم من أحداث وتطوّرات..فالثورة الخمينية(1979) ذات الأوصال الإسلامية الشيعية المنغرسة في جذورها الفارسية،تشدّ إليها الاهتمام وتستهوي لتبشيرها بمشروع إسلامي يحتجّ على استكبار أميركا وينحاز للقضية الفلسطينية،ويتوعّد الكيان الصهيوني بفسخه،ويعد بنشر العدل والخير...
ليس هناك انجذاب للمشروع الإسلامي الإيراني،فحسب،إذ ما هو إلا نموذج بارز من نماذج مشروع "الجهاد الإسلامي" الذي تشظّى إلى نظريات كحال تشظّي الأمّة الإسلامية إلى ملل ونحل وطوائف ودويلات...
كلّ هذه النماذج والأطروحات يركبها الحلم العربي ويُشكّل من أحداثها شيئا من ريش جناحيه اللّذان يُحلّق بهما...أما عن هذه الأحداث فهي تلك التي يصنع دويّها "طالبان" أو "القاعدة" أو الأفغان العرب" أو حركات مقاومة وتمرّد في الشيشان والكوسوفو ولبنان والجزائر والسودان والصومال وأندونيسيا وماليزيا والفلبين...والقائمة أطول ومرشّحة للزيادة...
والحلم العربي،أيضا،ليس بغافل عما في أطروحات "الإسلام المعتدل والمستنير" من موعظة بعودة الرشد فهو لا يستنكف من تأثيث مشهده بها وقد بشّرت بها أنظمة حكم عربية وإسلامية... فيستهويه منها نموذج "الإسلام العلماني" التركي "والإسلام العسكري الباكستاني"... وتفتنه باكستان الإسلامية بامتلاكها لسلاح الرّدع النووي وتشدّه تجارب أخرى في السودان والخليج والمغرب...
أما حركات "الإسلام السياسي" ممثلة في "الإخوان المسلمين" -وما شابهها أو تبرّأ منها- فهي أيضا حاضرة غير منسيّة في حلم عربي تحكمه مراهقة فكرية...وهي مراهقة تُرهق بالحثّ على التحليق في كلّ الآفاق بما فيها أفق النموذج الحضاري الغربي الذي ما يزال يلقى حماسة في البيئة العربية رغم ما جرّه إليها من خيبات وويلات...ما تزال الديمقراطية، على وجه التحديد تُداعب الحلم العربي وتستدرجه إلى عالمها السحري، لكنّه كلّما هرع إليها ليحضنها تمنّعت في دلال وغنج...
إنّ الحلم العربي وهو يتشكّل من واقع الأحداث التي تصهر العالم يابى أن يُعدم أملا حتى في مطبّات التناحر الطائفي والعرقي والقبائلي بنزعاته الانفصالية القبطية والكردية والدارفورية والأمازيغية...ولا يرى في جحيم الصراع المذهبي الدّيني إلا إضافات لا ضرر من تدبّر أمرها...إنه لا يستنكف من الأخذ بخيوطها عساها تكون قصاصا للخلاص أو تحسم الأمر بانتحار الهوية العربية والوعي المُؤرّق فيختفي الحلم ليرتاح ويُريح...
هكذا يمضي الحلم العربي ولا يزال جموحا في خياله عنيدا للظفر بمشروعه الغائب في "وقته المُتقطّع" من واقعه المتجهّم...هكذا يمضي وإن بدا مُحلّقا في سماء تراثه المنهوب،تائها في صحراء حاضره المُضلُلة،يخُطّ على رمالها قراءة كفّه مستعينا بفراسته الفطرية،مستلهما من ناقته صبرها وشموخها،متحيّنا فرصته التاريخية-وما التاريخ إلا لحظة فارقة- في نسمة حرّية أو ثورة عميقة أو حتى..كارثة طبيعية...في كلّ حدث جلل يستنفر حسُه القلق ويستكين لأشواقه تحضنه فيحضنها، لا يستسلم لقدر يعيشه مشروعا مؤجّلا...
هكذا يمضي الحلم العربي جموحا،قافزا على أشواكه،متحدّيا هزائمه،يعمُر قلبه إيمان بإعجاز بيان لغته العربية قرآنا كريما...
لا بأس أن يعيش العرب واقعهم حلما في "الوقت المستقطّع" الراهن من تاريخهم،فرُبّ حلم يكون "رؤيا" لعودة الرّوح في رسالة مقدّسة،فإذا الحلم واقع يُطمأنّ إليه ويُسعد به فيُسهم برسالته في تعايش خلاّق بين بني آدم،كلّ بني آدم الذين استخلفهم الله في الأرض...
التعليقات (0)