خيّل أنّه لو لم يكن هناك شيء إسمه (مسموح).. فكل شيء ممنوع، فكيف ستكون حياتك حينذاك؟
إنّنا نجيب بلا تردُّد أنها حياة أشبه بالموت، بل قد يكون الموت أرأف منها.
إنّ الأبواب المغلقة تعني الشلل التام.
وتخيّل أيضاً لو لم يكن هناك شيء اسمه (الممنوع)، كيف ستكون الحركة في شوارع المدينة؟ وكيف سينتظم السير؟ كيف يمكن أن تأمل شرور الشرير؟ وكيف يمكن أن تتفادى سيطرة الجنون والقوة والشهوة والإستغلال والبطش؟
إنّ وجود الحرام إلى جانب الحلال يعطي للحلال نكهة خاصّة ويظهر بشاعة الحرام وقبحه، ويجعل من الحلال حسناء يُخطبُ ودّها، ولو كانت البنات أو النِّساء كلّهنّ جميلات لما كان الجمال قيمة، إنّه يصبح قيمة عندما تكون هناك دميمات أو لا حظّ لهنّ من الجمال.
وإنطلاقاً من ذلك، فإن تقنين حركة المجتمع على ضوء مسارات الحلال والحرام هو أشبه شيء بالقوانين التي تضعها الدولة حتى لا يُسيء أحد إستخدام حريته فيتعدّى على حرِّيات الآخرين أو ينتهك حقوقهم.
وظيفةُ الحلال هي أن يرسم لي خارطة الطريق في المعاملات الإجتماعية بحيث أعرف مَن (أخالط) أو (أصادق) أو بمن (أقترن) أو (أشارك) أو (أتواصل) و(أتفاعل) إجتماعياً.
كما أنّ الحرام يضع لي خطوطاً حمراء بالنسبة للعلاقات المضادّة فلا أتجاوزها إلا دفعت الثمن باهضاً.
أنّ الشريعة (دليلي) الذي يقول لي أين أقف وأين أمضي، وأين أتقدّم وأين أتأخّر، وما هو المقبول وما هو غير المقبول.
قد يبدو (التقنين) للوهلة الأولى (إملاءً) و(إبطالاً لمفعول الإرادة) و(حدّاً من حرِّية الإبداع).
لكنّ دراسة عقلانية واعية للتقنين الإلهي (التشريع) يحلّ هذه الإشكاليّة، فبدلاً من أن (أجهد) و(أُجرِّب) وأخضع حركتي الإجتماعية للصواب والخطأ، وبدلاً من أن يضع كلّ فرد نظاماً مرورياً خاصّاً به، هناك مَن يكفينا مسؤولية ومشقّة البحث عن (الأصلح)، ولأنّ التشريع الإسلامي منطلق من عقل كلي، وقدرة مطلقة، كان الحلال والحرام في هذا التشريع نظاماً مرورياً راقياً، هو الأقلّ حوادث مؤسفة بين الأنظمة المرورية الأخرى.
ذلك أنّ نظام التشريع مُصمَّم لحياة الإنسان القائمة على نسبيّة، فلا تجد تشريعاً للحلال كلّه إيجابيات، ولا تجد تشريعاً للحرام كلّه سلبيات، ولكنّ العاقل الذي يرجِّح كفّة الإيجابيات في الحلال على كفّة السلبيات، فيعمل أو يأخذ به، ويرجِّح كفّة السلبيات على كفّة الإيجابيات في الحرام فيتركه أو يمتنع عنه.
يقول النبي (ص) فيما رُوِي عنه:
"حلالٌ بيِّن،
وحرامٌ بيِّن،
وشبهات بين ذلك
فَمَن ترك الشبهات، نجا من المحرَّمات،
ومَن أخذ بالشبهات، ارتكب المحرَّمات، وهلك من حيث لا يعلم".
وإنّما سُمِّيت الشبهة شبهة لأنّ الحلال والحرام يتشابه فيها، فلا يدري هل هذا حلال صِرف أم حرام صِرف، ولذلك كان ترك (الشبهة) أسلم للإنسان، لأنّه ينجيه من المحرَّم.
تأمّل في القصة الواقعية التالية:
(جاء عبدالله بن عمر) لفتىً راعٍ يرعى الأغنام، وقال له: لو ذبحت لنا شاة، وقلت لسيِّدك ماتت أو أكلها الذئب! فالتفت الفتى (المؤتمن على رعي الأغنام ورعايتها) إلى ذلك الرجل مغضباً، وقال في صيغة إستفهام استنكاري: والله، قلتُ لسيِّدي أنّ الشاة ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، لأنّي عنده صادقٌ أمين، وما عرفني إلا كذلك، ولكن: أينَ الله؟!
أين الله؟ هذا هو السؤال.
فلو استحضرت الله في كل حركتك الإجتماعية لكان ذلك عاصماً لك من الكثير من الأخطاء والخطايا، لأنّ (الشاهد) هو (الحاكم)، وهو الرقيب علينا والمطّلع على ما خفي على الكرام الكاتبين الذين وكّلهم بحفظ ما يكون منّا، وجعلهم شهوداً علينا مع جوارحنا.
أين الله؟
لو طرح الحاكم على نفسه هذا السؤال لعدل، ولو طرحه الزوج على نفسه لاتّقى الله في زوجته وعياله وأولاده، ولو طرحه الصديق على نفسه لما غشّ صديقٌ صديقاً، ولو طرحه الشريك على نفسه لما خان شريكه، ولو طرحه القويّ على نفسه لما حدّثتهُ في البطش بالضعيف، ولو طرحه أصحابُ المطامع على أنفسهم لما امتدت أيديهم لتصادر أو تغتصب ممتلكات الغير.. وهكذا.
التعليقات (0)