أخذ مكانه على سدّة عالية كما العادة، نقر على دفه دعوة منه للناس قصد التحلق حوله، أعاد النقر على الدف مرات عدة، بدأ الناس يتحلقون، أخذت الحلقة في التشكل، و أخذ الحكواتي يحس ببعض الدفء والطمأنينة حتى و إن لم يتجاوز عدد من التحقوا به العشرون، هكذا هي البداية دائما، عندما كنا بالجامعة، كانت حلقة النقاش تبتدئ بقليل من الطلبة و الطالبات، لكنها تتجاوز المائة نفر حين يشتد وطيس النقاش...
هذا الحكواتي معروف عنه أنه يبدع في سرد حكايات لأبطال من صنع خياله الرحب، فيسافر المستمع بين دهاليز أسماء و فضاءات بلا ملامح و بلا هويات واضحة، المعروف عنه، أيضا، هو عدم ارتهانه بالحكايات التراثية التي ينهل من معينها العديد من الحكواتيين، حكايات من قبيل "ألف ليلة و ليلة"، و "أبو زيد الهلالي"، و "عنترة أبو الفوارس في سيرة عبلة و عنتر"، و "الظاهر بيبرس"، و "الأميرة ذات الهمة"، و سوى ذلك جم كثير، بل ينجح بامتياز لافت في إبداع حكايات تشهد على ارتباطه الوثيق بتفاصيل اللحظة وفق كفاءة عالية ودراية فائقة، المعروف عنه، أيضا، أنه لا يتوقف أثناء سرده للحكاية سوى مرتين، في الأولى يتوقف لجمع ما تيسر من نقود يجود بها عليه عشاقه و معجبيه، أما في الثانية فيتوقف لجمع ما تبقى في جيوبهم من نقود...
تجاوز عدد المتحلقين الأربعين نفرا، بينهم الصبية و النساء و الشباب و الرجال والشيوخ، بعد الدقات الثلاث على الدف شرع الحكواتي في السرد
- كان ياما كان...
ويسود الهدوء ، ويملأ الدفء مدار الحلقة، الأعين مترقبة، الآذان صاغية.. هكذا تبدأ مراسم الحكي... حكي والله أعلم أنه كان فيما مضى من قديم الزمان وسالف العصر والأوان زعيم من زعماء عربستان، كان اسم الملك كُرْسِيعَانْ، وقد ملك البلاد بالظلم والاستبداد ، وحكم بين العباد بالسيف والأصفاد ، وأحبه أهل بلاده ومملكته، رغم أنوفهم...
قاطعه أحد المتفرجين (شاب في مقتبل العمر) معلقا:
- إياك أعني واسمعي يا جارة...
ثم قهقه فقهقه من بعده كل المتحلقين، لم يعر الحكواتي أدنى اهتمام لهذا التعليق، و تابع سرده...
- و أحبه أهل بلاده و مملكته، رغم أنوفهم...
لكن قاطعه شاب آخر هذه المرة معلقا:
- لا يمكنهم التخلص منه بغير الأمريكان
شيخ:
- اصمت لعنك الله، ألا ترى ما فعل الأمريكان بالعراق و أفغانستان؟
شاب آخر:
- أيها الأخوة، هذا الشيخ يؤمن بنظرية التغيير من الداخل
فتاة:
- الاستقواء بالخارج خيانة عظمى للوطن و الشعب، هكذا علمنا أستاذ التاريخ قبل أن يهاجر إلى أمريكا للعمل.
امرأة جاوزت الأربعين:
- ألم تسمعوا القدماء يرددون (أنا وَصِّيتُو عْلَى لَمْزَوَّقْ وُ هُوَّ جَابْلِي مَرِيكَانْ...مَرِيكَانْ حَرّْْمُوهْ الطُّلْبَه... مَا يْدُوزْشِي فَالْغِيوَانْ...))
صفق الجميع بحرارة عالية، تصفيقات ممزوجة بقهقهات إعجاب، استمرت لوقت طويل قبل أن يعود الهدوء و الصمت للحلقة، حينئذ علق أحد الشيوخ:
- الدَّقْ القْدِيمْ احْسَنْ مَنْ الدَّقْ الجْدِيدْ
رماه الحكواتي بنظرة متفحصة غير بريئة ثم رد عليه:
- كُنْتِ فِي الصْغُرْ شِيطَانْ آلْحَاجْ!
انفجرت الحلقة ضحكا، و بعد عودة السكينة إليها تابع الحكواتي:
- جاء الملك خطاب من زعيم الفرنجة فحواه طلب زواج ابنه من بنت الملك و إلا سوف يضطر لشن الحرب على بلاده و احتلالها و الإطاحة به...
قاطعه أحد المتفرجين:
- لابد أنه بوش اللعين
علق آخر:
- لم تصف لنا كيف هي بنت الملك
الحكواتي:
- كانت بنت الملك كاملة القد، عريضة الخاصرتين، كحيلة الشعر، واسعة الجبين، زجة الحواجب، واسعة العينين في كحولة وبياض ناصع، مفخمة الوجه أسيلة، ظريفة الأنف، ضيقة الفم، محمرة الشفائف و اللسان...
قاطعه أحد الصبية:
- الطُّرْحْ اسْخَنْ
تابع الحكواتي:
- طويلة الرقبة، غليظة العنق، عريضة الصدر، واقفة النهود، ممتلئ صدرها و نهدها لحما، معقدة البطن، غليظة الأفخاذ و الأوراك، ذات أرداف ثقال، عريضة الزندين، بعدة المنكبين، عريضة الأكتاف، واسعة المخرم، كبيرة الردف، إن أقبلت فتنت، و إن أدبرت قتلت، و إن جلست كالقبة، و إن رقدت كالبند الغالي، و إن وقفت كالجبل...
قاطعته امرأة:
- تشبهني كثيرا
تحولت عيون الجميع إليها، و تعالت ضحكات ساخرة، قطعتها صرخات شاب ملتح:
- اللعنة عليكم جميعا، أيها الكفار، الفجار، الفاسقون ( و انصرف)
علقت امرأة:
- أعوذ بالله، يتكاثرون مثل الجراد
رد عليها رجل:
- اصمتي يا امرأة و إلا عاد و فجر نفسه بيننا
ردت:
- الموت واحدة
تابع الحكواتي:
- ترى، هل سيقبل الملك بزواج ابنته من ابن زعيم الفرنجة؟ هذا هو السؤال، سوف تعلمون جوابه بعد هذا الفاصل...
و صار يجمع النقود من المتفرجين، ثم تابع بعد أن شحت جيوبهم:
- ووافق الملك على زواج ابنته من ابنة زعيم الفرنجة، حفاظا على مملكته و سعيا خلف التقرب من الفرنجة و درء خطرهم
قاطعه شيخ:
- حسبته سوف يرفض
شاب:
- ماذا لو رفض؟
الحكواتي:
- واضح أنك غير آبه بأحداث العالم، و لا تشاهد القنوات الإخبارية، و لا تقرأ الصحف، مع أننا في عصر يُحكى عن عالمه أنه صار قرية صغيرة...
قاطعه شيخ:
- قُولُّو يَشْرِي بَّارَابُولْ
قاطعه صوت امرأة تغني:
- انْتَ لِّي دَرْتِ الْبَّارَابُولْ...انْتَ لِّي عَلَّمْتِينِي لَمُورْ
تابع الحكواتي:
- لكن الأمير ابن عمها، الذي كان يكن لها الحب العظيم، تمرد على الملك و قاد ثورة للإطاحة به...
قاطعه صوت رجل شرطة و هو يخترق الحلقة:
- قد نالت حكايتك إعجاب سعادة العميد فأمر بإحضارك على وجه السرعة
رجل شرطة آخر:
- سترافقنا الآن
انصرف عنه كل معجبيه و عشاقه، صعد معهما السيارة و غادروا، فعدت أدراجي إلى البيت لأتابع برنامجا حواريا حول آفاق الديمقراطية في بلاد عربستان.
كتاب"الروض العاطر في نزهة الخاطر" لمؤلفه: أبي عبد الله عمر بن محمد النفزاوي – تحقيق: جمال جمعة.
التعليقات (0)