الديمقراطية التجميلية والوجه القبيح للحكم!
د. ناجي صادق شراب
كما في الجراحة التجميلية التي يخفي من خلالها الجراح قسمات الوهن والضعف والترهل التي تظهر على الوجه والجسد بحكم التقدم في السن، كذلك في الجراحة السياسية
التي يسعى الحكام لإخفاء التجاعيد الغائرة على وجوههم، والشيب الزاحف على شعورهم حتى يظهروا بمظهر الحاكم الأصغر سنا، والأكثر حيوية ونشاطا، وكأنهم يعترفون
ويقرون أن الحكم لا يصلح له إلا لمن هم أصغر سنا، ولكنها الرغبة في الحكم والسلطة التي لا يقف في طريقها عمر معين.
وللتغلب على عامل العمر الذي لا يستطيع الحكام وقف عجلته التي تقلل من فرص بقائهم في الحكم، يلجأون بحجة الحكمة والتوازن العقلي والخبرة الطويلة في الحكم إلى
تبرير استمرار حكمهم تخوفا من حكم الشباب المتهور والذي قد يقود البلاد إلى التهلكة.
ما لم يدركه هؤلاء الحكام أن كل شيء يتغير حتى نظام الحكم نفسه، ولو قارن الحاكم بين اليوم الأول لحكمه وبين اليوم الأخير لاكتشف كم هو حجم التغيرات، والفجوة
التي باعدت بينه وبين بيئة الحكم، وبين مواطنيه الذين قد حولهم إلى مجرد أرقام حسابية في جيبه مثلما يحول الأموال إلى أرصدة الحكم في البنوك. ومع التسليم بأن
الحاكم إنسان سوي وعاقل ومدرك لكل ما حوله، وأنه ليس كما يعتقد الآخرون أنه يعيش في برج عاجي بعيدا عن حياة الناس، فأنا لا أؤمن بهذه الفرضية.
الحاكم إنسان عاقل إلا في مسألة الحكم والسلطة، لأنها تجلب له النفوذ والقوة والمال. وحرصا منه على هذا الحكم وحصره في دائرته فهو يبحث عن كل الوسائل لحفظ هذا
الحكم، ومن أخطر هذه الوسائل الديمقراطية نفسها، التي يحاول أن يسخرها لتجميل الحكم السلطوي، فلا يوجد نظام حكم أو حاكم قد ينفي عن نفسه صفة الديمقراطي؛ بل
قد يذهب الحاكم في هذه النظم السلطوية إلى وصف نفسه وحكمه بالنظام الأكثر ديمقراطية، وأنه مستهدف لأنه يعمل من اجل شعبه. وهنا التناقض بين الديمقراطية والسلطوية
وكيفية الجمع بينهما، وهنا أيضا التناقض بين الدول الديمقراطية وموقفها من استمرار هذه النظم.. يفترض أن لا تقابل بين نظام حكم ديمقراطي ونظام حكم سلطوي.
ولعل أفضل العلاجات التي قد توصل إليها الحكم السلطوي هي الجراحة التجميلية لنظام الحكم القائم. ومن هذه العلاجات إقرار الانتخابات الدورية، لكن ليس مهما نتيجة
هذه الانتخابات، فلا مانع من هذا الحق الانتخابي طالما يمكن التحكم في نتيجتها وتزويرها في خدمة النظام القائم. والمهم أن هناك انتخابات.. ولا مانع لدى الحاكم
السلطوي من تعددية حزبية ومعارضة سياسية ورقية حتى يباهي بها النظم الديمقراطية الأخرى، والمعيار هنا التعددية الشكلية وليس الفعلية، فطالما أن هذه التعددية
الحزبية تعمل تحت مرأى وبصر الحاكم وأجهزته الرقابية والإستخباراتية فلا مانع من وجودها، بل إن وجودها يؤدى خدمة كبيرة للنظام.
ومن العلاجات التجميلية السماح بوجود مؤسسات المجتمع المدني بكل أشكالها، ولكنها إذا خرجت من دائرة الحكم فتهمة التمويل الخارجي مسلطة على كل أنشطتها. ومن الوسائل
الأخرى السماح بقدر من المعارضة الصحفية والنقد عبر بعض الوسائل الإعلامية، لأن هذا النقد ورقة رابحة في يد الحاكم يمرر من خلالها سلطوية النظام القائم، ومن
خلالها يتباهى الحاكم بوجود نقد للحاكم، ولكنها في الحقيقة معارضة مسيسة، وموظفة لخدمة الحاكم. ولا يستبعد أن تكون هذه المعارضة جزء من النظام نفسه.
وأما في مجال الحقوق والحريات، فقد يذهب النظام بعيدا في التأكيد على حقوق المواطن علنا وفي الخطب الرسمية، ولكنها حقوق وحريات مدونة في دساتير لا تعمل، المهم
أن هناك حقوقا وحريات دون أن تمارس، ويمكن للحاكم أن يمنح هذه الحقوق ويسلبها عبر وسائل ومؤسساته الأمنية، وعبر الاعتقالات والملاحقات والنفي الخارجي وقوانين
الطوارئ.
ومن أبرز هذه الجراحات التجميلية مجالس الشعب التي يسيطر عليها حزب واحد، وفي الحقيقة تتحول هذه المجالس إلى آداة في يد الحاكم لتمرير القوانين والتشريعات التي
يريدها استمرار الحكم في حكمه، وبالتالي تتحول هذه المجالس من قاعدة أن النائب يمثل الناس ويريد من يريدونه إلى قاعدة أن النائب يمثل الحاكم، يريد ما يريده
الحاكم..!!
ولعل من أعلى درجات الجراحة التجميلية الديمقراطية توريث الحكم عبر الديمقراطية. كما حدث في سوريا، وما كان سيحدث في مصر وليبيا واليمن. ولا أحد يعترض على أن
أبناء الرؤساء من حقهم مثل أي مواطن آخر أن يتنافسوا على منصب الرئاسة، ولكن عبر وسائل ديمقراطية حقيقية، لكن التوظيف الديمقراطي يتم عبر تقييد دستوري أو تعديله
لمن له حق الترشح للرئاسة، أو من خلال إصدار قوانين معينة تحدد مرشح الرئاسة في ابن الرئيس، أو من خلال، وهذا هو الأخطر، تفويض مجلس الأمة أو الشعب ومنح هذا
الحق لابن الرئيس مثلا بعد وفاته أو مرضه. وقد تذهب هذه النظم بعيدا بتقديم ابن الرئيس وكأنه الرئيس الفعلي..!!
وبهذه القراءة يتضح لنا بعد المسافة بين الديمقراطية الليبرالية المرتبطة بالسلطوية وبين الديمقراطية الليبرالية اللصيقة بالديمقراطية الليبرالية نفسها. وهذا
الترابط غير الطبيعى أو المصطنع هو الذي يفسر لنا فشل كل التجارب الديمقراطية التي شهدتها الدول العربية، وفشل عملية الإصلاحات السياسية التي قام بها النظام
الحاكم، وتحولها لإصلاحات شكلية ورقية بعيدة كل البعد عن جوهر ومضمون نظام الحكم القائم، بمعنى أنها لا تصل إلى تغيير نظام الحكم السلطوي؛ وهي التي تفسر لنا
حالة الثورات العربية الغاضبة على تغيير أنظمة الحكم القائمة.
ومن المفارقات السياسية في هذا التزواج تلك المرحلة التي يشعر فيها الحكام أنهم على وشك ترك مناصبهم وفقدان حكمهم، فيحاولون تطبيق نفس الجراحات السابقة، بعرض
رزم من الإصلاحات التدريجية لإحتواء غضب جماهيرهم، واحتواء الثورات القائمة بالإلتفاف حولها من خلال هذه الرزم الإصلاحية الشكلية، ويتناسون أنه لم تعد هناك
ثقة بكل هذه الوعود. وكان يمكن أن تكون لهذه الوعود جدواها لو كانت منذ بداية الحكم، وشعر بها المواطن في حياته، ولو أدرك الحكام قيمة الديمقراطية وقيمة الحكم
الرشيد، وقيمة الحكم الصالح.. ولو أدركوا ماذا يريد أبناء شعبهم لكان هذا أقصر الطرق لبقاء الحكام وتحولهم إلى حكام لهم صفة القدسية في عيون مواطنيهم..
التعليقات (0)