الحصاد المسروق
قرصنة مصدر الغذاء العالمي
برز في العقدين الماضيين موضوع الغذاء المهندس وراثياً، والذي لم يتقبله العديد من العلماء والمزارعين والمدافعين عن البيئة والموارد الطبيعية ومن ضمنهم الطبيبة الهندية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام 1993 "فاندانا شيفا"، التي تعتبر بحق من أوائل المدافعين والمناضلين عن الموارد الطبيعية وحماية البيئة، هي تتكلم في كتابها المسمى"الحصاد المسروق" عن العديد من الأمور المتعلقة بالزراعة الصناعية التي تعتمد على الهندسة المعدلة وراثياً، كما تتكلم عن تأثيرات العولمة على صغار الفلاحين والصيادين (الأسماك) والبيئة، كما وتبحث في البذور المهجنة وراثياً، لتنتقل المؤلفة في سرد تاريخي عن الزراعة التي كانت سائدة في الهند والصين و تعطينا أمثلة إلى ما كان عليه الوضع قبل إتفاقية الجات أو ما يعرف بالتجارة الحرة العالمية أو بمعنى أدق تحرير البضائع من الجمارك المحلية، متهمة الإقتصاد الصناعي بالسرقة من الطبيعة (البيئة) والإنسان على حد سواء فالجوع والمجاعة هما بئس الضجيع كما يقال، وهما أسوأ ما يمكن أن يصاب به أي مجتمع أو دولة.
إن التاريخ يذكر لنا أمثلة كثيرة، عن قوى وأنظمة كبرى تسببت ثورات الخبز في سلبها أسباب قوتها وفقدانها سلطانها، ومنها الملكية الفرنسية والقياصرة الروس.
الكثير من الثورات والقلاقل، زلزل بعضها أركان السلطة وأزال حكومات قائمة، وكاد بعضها الآخر يعصف باستقرار الأنظمة والنخب الحاكمة في أكثر من بلد، ومن ذلك ما حدث في السنوات السابقة بسبب جموح أسعار السلع والمواد الغذائية الأساسية في كل من مصر واليمن وهاييتي والمكسيك والكاميرون وإندونيسيا وغيرها وحالياً في الصومال الشقيق ، مما يشير إلى أن العالم يعاصر أزمة غذائية طاحنة، لا يعرف مداها ولا منتهاها إلا الله.
ما هي اسباب أزمة الغذاء في العالم
المشكلة في الأزمة الحالية أن آثار ارتفاع أسعار الغذاء وشحه لم تعد مقتصرة على الشعوب الفقيرة في دول العالم النامي وما يسمى الدول الفاشلة، بل باتت تهدد أيضاً الأفراد والمجتمعات في الدول المتقدمة، وإن تباين بالطبع الوضع ودرجة التأثر في كلتا الحالتين، وقد رأينا على سبيل المثال مدى تآكل دخل الفرد في دول الخليج جراء الأعباء التي فرضتها هذه الأزمة.
اللافت أيضاً في أزمة الغذاء الحالية سواءاً في الصومال او في بنغلاديش، والتي تتشابه معالمها وصفاتها في بعض الدول من أجواء المجاعات والشدائد الغذائية، أن منحاها بات يتصاعد بشكل مذهل.
والأمر مرده أن هذه الأزمة المتواصلة هي أولى أزمات الغذاء في زمن العولمة التي وعدنا بها بالرفاهية، وفي ظل تحكم آليات السوق في الاقتصاد العالمي، وهي إشكالية أتاحت للغلاء الانتقال والانتشار من الواقع الإقليمي إلى المحيط العالمي، بسرعة دون إتاحة الفرصة للمسئولين بالتكافل من أجل درء أعباء هذا الغلاء.
يجب علينا أن لا ننسى أن ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الماضية أدى إلى توجه الدول الصناعية الكبرى إلى الإتجاه نحو الوقود الحيوي، وهو أحد البدائل لمصادر الطاقة، والمصنع من المحاصيل الزراعية الغذائية الأساسية مثل الذرة وفول الصويا، وهذا بدوره أدى إلى دفع جزء من الإنتاج العالمي من هذه المحاصيل وتحويلها إلى وقود حيوي لإستخدامها في المحركات والسيارات ومن المعروف بالتالي أن البرازيل والولايات المتحد الأميركية أصبحت من أولى الدول المستخدمة لهذا الوقود الحيوي المستخلص من هذه المحاصيل الغذائية.
وقد كانت لآثار التغير المناخي وموجات الجفاف والصقيع، والتي ضربت أجزاء كثيرة في العالم خلال السنوات الماضية، الأثر الكبير الذي ساهم في إتلاف أجزاء كبيرة من المحاصيل الغذائية في عدد من الدول الزراعية الكبرى، مثل أستراليا والصين والبرازيل والأرجنتين والهند وغيرها، وهو ما أثر على حجم المعروض من هذه المواد، ومن ثم إرتفاع أسعار الطلب عليها عالمياً.
كما لا ينبغي ابداً إغفال دور السياسات الزراعية الخاطئة في العديد من البلدان النامية في التأثير على حصيلة الإنتاج الزراعي العالمي، إذ أن السياسات الزراعية الانتقائية وسوء التخطيط الزراعي فيها، أدى إلى بوار قطاعات كبيرة من الأراضي الزراعية، تحويلها إلى قطاعات أخرى مربحة مادياً، تفضيلاً على المحاصيل الأساسية الأخرى الأقل ربحاً.
وتعد مصر في هذا نموذجاً صارخاً، حيث تخلت الحكومة فيها عن خطة طموحة لتغطية جزء كبير من احتياجات البلاد من القمح، مقابل زراعات تصديرية أخرى، وبالتالي أضطرت إلى إستيراد القمح من المصادر الخارجية باسعار تفوق تكلفة زراعتها في أرض النيل، ولا ننسى أن المضاربات في البورصات واحتكار الشركات العابرة للبذور والمواد الغذائية قد ضاعف من حجم المشكلة .
إن تداعيات أزمة الغذاء الحالية متشابكة أيضاً ولا تقل تعقيداً عن أسبابها، وسوف تكون أسوأ ما يمكن بالنسبة للدول النامية، فالأمر هنا يمكن تشبيهه بمتوالية من الأضرار تبتدئ بضغط حجم الإنفاق على الغذاء من الدخل الشهري لطبقة محدودي الدخل والطبقة المتوسطة في تلك الدول، فيدفعها هذا من جهة للسخط العام أو للخروج إلى الشوارع معبرة عن مطالبها للحكومات القائمة.
وبالتأكيد سيؤدي هذا إلى وقوع اضطرابات وقلاقل سياسية كما راينا في العديد من الدول، ويدفعها من جهة أخرى لاستقطاع جزء إضافي من موازنتها الشهرية لتغطية نسبة التضخم الحادثة، وهذا بدوره سوف يترتب عليه أكثر من نتيجة.
الأولى هي تآكل الطبقة المتوسطة وانتقال قطاعات كبيرة منها إلى فئة الفقراء ومحدودي الدخل، بسبب زيادة مستوى إنفاق هذه الطبقة على الغذاء تدريجياً وبإزدياد مضطرد شهرياً، دون أن يترك لهذه الطبقة هامش مادي معقول يكفيها لتغطية نفقات التعليم والصحة وبقية مستلزمات الحياة ومتطلبات التنمية الاجتماعية.
بنفس المنطق سوف يتعين على طبقة محدودي الدخل، الانضمام للفئات الأخرى الأكثر فقراً والواقعة تحت خط الفقر، وهذا بسبب قضم أسعار الغذاء لكامل موازنة الأسر الضعيفة أصلاً والمثقلة بأعباء كثيرة.
الثانية هي تراجع مستوى الصحة العامة بسبب عدم تنوع مصادر الغذاء وبالتالي تفشي أمراض سوء التغذية بسبب عدم قدرة الفئات المتأثرة بالأزمة على تنويع مصادر غذائها.
خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار ما يمكن أن تفضي إليه أجواء المجاعات وحالات شح الغذاء أو ارتفاع أسعاره، من تزايد احتمالات الغش التجاري للأغذية وانتشار نوعية رديئة وغير صحية من المأكولات والأطعمة، سواء كان هذا بغرض التربح من فئة جشعة من التجار أو بغرض النزول بسعر هذه المواد للحد الذي يناسب القدرة الشرائية لهذه الفئات.
في أجواء المجاعات وشح الغذاء تتدنى أيضاً الأخلاقيات الاجتماعية نتيجة التصارع على الموارد الغذائية، وظهور طبقة جشعة من المتاجرين بقوت الشعب، كما تراجع حالة الأمن الاجتماعي بسبب تزايد ظاهرة السرقات العامة في الشوارع ونهب المقتنيات العامة والخاصة، كنتيجة مباشرة ومنطقية لانضمام عدد كبير من الجوعى والعاطلين عن العمل والتغذية، إلى طائفة اللصوص ومحترفي السرقة، وهذا بدوره يفرض عبئاً إضافياً على الأجهزة الأمنية في هذه الدول.
كما تشمل تداعيات ارتفاع أسعار الغذاء عجز الميزان التجاري بخاصة في الدول النامية، وارتفاع نسبة التضخم، وتهديد استقرار الحكومات القائمة، وربما زوالها كما حدث في مصر وتونس.
أما على المستوى الدولي، تشمل تلك التداعيات إضعاف الجهود الدولية الرامية لمكافحة الفقر العالمي، وتراجع الأولويات بالنسبة لبقية القضايا العالمية الأخرى، علاوة على إمكانية اندلاع ما يسمي حروب الغذاء، بسبب زيادة التصارع على الموارد الزراعية والمائية.
ليس من المرجح انقضاء أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمي خلال السنوات القليلة القادمة، لذا ينبغي العمل على إنهاء هذه المشكلة باتخاذ خطوات ناجزة وحلول طويلة المدى، وليس بالمسكنات والحلول الوقتية، كما ينبغي على المروجين لنظام العولمة أن يتحملوا مسؤوليات وتبعات هذا النظام، بتقديم يد العون للفقراء والجوعى في العالم، وبالمساعدة في ضبط آليات واقتصاد السوق بحيث لا تؤدي المضاربات إلى زيادات غير واقعية ومبالغ فيها في أسعار غذاء الإنسان.
وقبل ذلك لابد من اتباع معايير أخلاقية ووضع ضوابط صارمة وواضحة تمنع استخدام الحبوب والمحاصيل الزراعية في صناعة الوقود الحيوي، وبالتوازي مع هذا، ينبغي أيضاً العمل على تطوير التقنيات الزراعية الحالية، واستصلاح المزيد من الأراضي، والتوسع الرأسي والأفقي في إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية.
من الممكن إستخدام البذور المعدلة جينيا بحذر، رغم ما يحيط بهذا الأمر من جدل، قد يشكل أحد هذه الحلول، كما يمكن أن تساهم تقنيات الهندسة الوراثية الأخرى في استحداث نوعيات من البذور والمحاصيل المقاومة للجفاف والصقيع، ولا ننسى أن الزراعة الملحية من الممكن أن تمثل أحد الحلول، وهي الزراعة التي تقوم على استخدام مياه البحر في زراعة بعض المحاصيل الزراعية.
لذا فإن نجاح تجاربها، وإمكانية تطبيقها على نطاق واسع، يمكن أن يساهم في تحقيق طفرة حقيقية وهائلة في الإنتاج الزراعي العالمي، وفي حل كثير من مشاكل الدول الفقيرة، التي لا تجد موارد مائية كافية لاستصلاح وزراعة أراضيها.
إن دعم المزارعين من خلال تخفيض الضرائب المفروضة، ومدهم بالسماد والبذور الجيدة والعالية الإنتاجية، يمكن أن يشكل أيضاً أحد سبل الحل، ومن الممكن التمثل بالتجربة الرائدة التي قامت بها دولة مالي الأفريقية، والتي كانت تعاني قبل سنوات المجاعة، حيث تمكنت هذه الدولة الفقيرة من مضاعفة إنتاجها الزراعي خلال سنة واحدة عن طريق اتباع سياسات مماثلة.
قد يكون من المفيد أيضاً إعادة النظر في السلوك الغذائي وأنماط الاستهلاك السائدة، لا سيما في منطقة الخليج العربي وبقية الدول العربية، المتخمة بعادات غذائية مترفة للغاية، فهي الأحوج للأخذ بكل هذه السبل، نظراً لغموض مستقبل النفط فيها، وتشكل معظم خارطة المنطقة من صحارى ممتدة عصية على الاستزراع وإنتاج الغذاء.
إن تحجيم أزمة الغذاء المتواصلة والقضاء عليها، لن يتأتى إلا بمقاربة مثل هذه الحلول والسياسات، وهذا وحده كفيل بحماية الأمن الغذائي من أي هزات مماثلة مستقبلية، وهو كفيل أيضاً بالقضاء على ثورات كثيرة للجياع في مهدها.
التعليقات (0)