انتهت الحصة فأمرت الأستاذة تلميذتها -غزلان- بأن تبقى في القسم..خرج التلاميذ مطلقين نزقهم في مهب الريح.
كان آخرهم التلميذ –بوشعيب-،يسير بخطى الفلاسفة؛التمعن،التثاقل،الصمت،الجمود..هذا بعد أن أشبعته و تشبعه الأستاذة بنظرات كلها توبيخ مبطن؛تأمل منها لومه على التكاسل و السهو و المظهر الخارجي المهين.
الأستاذة متخرجة جديدة في عالم الطباشير،لازالت تشع حيوية و ترغب في إيداع علمها و روح نفسها الجميلة في عقلية البراعم الفتية خريجة بيوتات المجتمع المتنوعة.
تحدثت كثيرا إلى غزلان و أمرتها بخلاصة أن لا تجلس ابتداءا من اليوم بجانب بوشعيب؛فلا منطق يجعلها قريبة منه..
خرجت غزلان مهرولة لتقتفي أثر بوشعيب.تعرف أين تجده.ستجده في أركان الوحدة و الإنعزال بعيدا عن التلاميذ و ضجيجهم و كذلك بعيدا عن أنظار الأساتذة.فمن الأخيرين من لا يقتنع بالنظرات الخارجية ..بل يتعمق أكثر..
جلست بجانبه..الصمت تلو الصمت،تؤثثه نظرات بعض الشبان،يحسدون هذا الفتى المتسخ الذي فاز بقلب أجمل فتاة في الإعدادية و ذات المرتبة الاجتماعية المميزة.
تحدثه بلطف و تضحك بأدب ليشاركها أي شيء من الحديث و لكنها غالبا ما تفشل.
خرجت مهرولة إلى الشارع و عادت محملة بقنينة ماء صغيرة و بقطعتي حلوى.سلمته واحدة .لما شرع في الأكل تلقت آذانه تعبير –الحسناء و الوحش- احمر وجهه و لكنه لم يتجرأ على الرد.
في اليوم الموالي دخلا حصة دراسية لدى نفس الأستاذة.أصبحت لا تطيق حث بوشعيب ليحضر كتبه و دفاتره. يتحدث بهمس حثيث إلى غزلان.بعض التلاميذ تأففوا مما أوحى للأستاذة بتعنيف بوشعيب:
-اخرج ! في الحصة المقبلة احضر ولي أمرك!اذهب إلى الحراسة أولا!
خرج بوشعيب بكل هدوء.دخلت غزلان في مشادة كلامية مع أحد التلاميذ فساد الهرج و المرج الفصل.تدخلت الأستاذة بحزم فأعادت الهدوء إلى الفصل.
انهمرت الدموع من عيني غزلان فوجهت إليها الأستاذة كلاما وصفتها فيه بالمراهقة.و سمع من الصفوف الخلفية وصف قال قائله بأن الحب يعري أي نكاية في غزلان التي أحبت بوشعيب البدوي المنكمش على نفسه.لم تتمكن الأستاذة من ضبط التلاميذ فساد الهرج والمرج.
أصيبت غزلان بهستيريا حادة أصابت الجميع بالذعر و الخوف.و ضعوا لها المفاتيح بيديها ، رشوها بالماء ، تلا عليها بعضهم بعض الآيات القرآنية الكريمة..
في إطار ما يسمى بمجلس الإنصات أو ما يعني الإنصات للتلاميذ ذوي السلوكيات الغير العادية؛استمعت أستاذة للرياضيات إلى غزلان في غرفة منعزلة.
كان لابد من بعض الاستئناس بنفسية الفتاة .نجحت الأستاذة في مغزاها و لكن رغم الحشرجات المتقطعة من الفتاة فإن الأستاذة صعقت و وقفت على الهوة الفاصلة و السحيقة التي تفصل بين أشياء المجتمع . و كانت اعترافات الفتاة أكبر من مجلس الإنصات أو الصمم:
"بوشعيب يسكن بدوار بالقرب منا.كانت والدته تشتغل بالمنازل و كم من مرة ساعدت والدتي في الأعباء..قبيل وضعها لمولود جديد أصيبت بالسرطان و هي الآن ترقد بالمستشفى و هي على أهبة الموت..و أردت أن أخفف من نفسية أحمد فهو الذي يرعى المولود الجديد و إخوته الثلاثة.إنهم مهددون بإخلاء البيت الذي يسكنون فيه؛لقد أعطاهم المخزن مهلة شهرين..ووالدهم لا يعبأ.إنه يضيع المال الذي يسلمه له الجيران في القمارو الحشيش و التدخين ..للمرة الثانية ينجح الجيران في إنقاذ بوشعيب من الموت لإقدامه على الانتحار.إن والدتي و الجيران تعبوا من مد يد العون إلى ما لا نهاية...ثم إن التلاميذ لا يحترمون شعوري نحو بوشعيب الذي أفهمه جيدا و أفهم بأن علاقته بالبقاء على قيد الحياة مجرد يوم لا يفتأ سينقضي و ينقضي معه.."
التعليقات (0)