فضاء الكلمة:
: خليل إبراهيم الفزيع
الحساسية المفرطة.. والواقع المعاش
كثيرا ما تقابل الندوات والمسلسلات التلفزيونية والأعمال الروائية والمقالات الصحفية التي تحاول تعرية الواقع من زيفه، بشيء غير قليل من الاستنكار والاحتجاج علي هذه الجرأة في الطرح، وهو استنكار في غير محله، واحتجاج يذكرنا بالنعامة وهي تدفن رأسها في الرمال اذا شعرت بالخطر،
فهذه الأعمال ليست سوي جرس إنذار ينبه الجميع لتدارك الأمور قبل استفحالها، ومهما كانت درجة الصراحة، ومهما بلغ مستوي القسوة في هذه الأعمال، فليس من الحكمة رفضها بحجة أننا مجتمع مثالي، اذ لا يوجد في الكون كله مجتمع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سوي مجتمع الملائكة، ونحن لسنا ملائكة، بل بشر لنا حسناتنا وذنوبنا.. وانتصاراتنا وهزائمنا.. سلوكنا القويم ونزواتنا المنحرفة، ولا مفر من التسليم بوجود الخير والشر، وهذه إرادة الله في خلقه، ولو شاء لخلق الجميع بلا أخطاء، وحينها لن يكون للتوبة والغفران معني، ولا للجنة والنار مكان
إن بعض المثاليين جدا لا يترددون في رفع أصواتهم الصاخبة، ليعلنوا ان مثل هذه الأخطاء التي يتم الكشف عنها في تلك الأعمال، هي أخطاء غير موجودة في مجتمعنا وهذا أمر فيه تزييف للواقع وعدم شجاعة في مواجهة هذا الواقع، وكثيرا ما أدي المسكوت عنه إلي أمور لا تحمد عقباها، والمشاكل الاجتماعية ليست سوي أمراض مزمنة، تأزمت بفعل تراكمها وتجاهلها عبر السنين، ولو تمت معالجتها في وقت مبكر لما وصلت إلي ما وصلت إليه من مراحل متقدمة يصعب علاجها، وما المكاشفة والصراحة وتعرية الواقع سوي وسيلة لتشخيص هذه الأمراض، ليتم علاجها بعد ذلك علي أيدي المختصين، وقبل فوات الأوان، وحينها لن ينفع الندم وربما لا يحقق العلاج فائدته المرجوة، وعلي المجتمع إن يدفع الثمن غاليا بعد ذلك الطرح الصريح لكل القضايا الشائكة وسيلة لتجاوزها بالعلاج، وليس بالتجاهل، ومهما قسا النقد في مثل هذه الأمور فلا يمكن النظر إليه الا من باب الرغبة في الإصلاح، علي أن يخلو من الشخصانية، فالظواهر الاجتماعية السلبية لا يمكن ربطها بفرد بعينه، لأنها نتائج ثقافة عامة.. ترسخت في وجدان المجتمع، وتجذرت في أعماقه، وأصبحت جزءاً من نسيج تكوينه، وتغييرها لا يتحقق بالاتهامات الشخصية، ولا باللوم والتقريع لفلان أو علان، ولكن بالنظرة الجماعية الواعية والمدركة لحقيقة الموقف وأبعاده وسبل علاجه، والعمل علي تجاوز عقبات هذا العلاج بشجاعة تعترف بالواقع ولا تهرب منه. لا جدوي من الحساسية المفرطة في حالة التعاطي مع الواقع المعاش، وهو واقع متخم بالسلبيات، ومكتنز بظواهر ليس من السهل تجاهلها، ثم ان معالجة هذا الواقع هم جمعي عام، سواء قبل او رفض من فئات بعينها، فئات تعتقد أن ذواتها محصنة من الزلل، بينما قد تكون - هي قبل غيرها - غارقة في كل أنواع الزلل، وما ادعاء الفضيلة بالقول - لا بالعمل - سوي انحراف في الشخصية يقتضي إعادة النظر في أي موقف رافض لعلاج الواقع.. بما يحتاجه من الشفافية والوضوح، تجاوزا لما هو كائن، ووصولا إلي ما يجب أن يكون. وإنكار المثالب لا يؤدي إلي زوالها، لأنه نوع من التكريس لتلك المثالب لتصبح في النهاية ظواهر ثابتة في سلوكيات جميع أفراد المجتمع، فلا يعني التجاهل نفيا تاما لوجودها، بل هو اعتراف ضمني بها
وهذا الاعتراف الضمني يفترض أن يقلب حقيقة الموقف السلبي ليصبح موقفا ايجابيا، هدفه الحد من خطورة تلك الظواهر، والقضاء علي أسبابها وعوامل انتشارها، فلا معني للحساسية تجاه طرح ما يشغل الناس، وما يدور في الخفاء مما هو مسكوت عنه علي المستوي الاجتماعي، فإذا اكتشف استنفرت كل القوي لإخفائه وعدم الاعتراف به خوفا من خدش حياء الأسرة أو المجتمع، وهو موقف سلبي ضرره اكبر من منفعته، هذا إذا كانت له منفعة تذكر. معرفة الأخطاء لا تحتاج إلي جهد لأنها واضحة للعيان، لكن المهم هو الاعتراف بها، ومحاولة علاجها، لتسير الحياة في الاتجاه المقدر لها ان تسلكه بأمان واطمئنان.
التعليقات (0)