ما يحدث في ليبيا اليوم هو فقدان الحزم والتصميم في المجلس الأنتقالي والحكومة المؤقتة .والجنوح إلى التراخي وعدم إتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، وعدم سماع ما تطالب به الجماهير وقراءة ما يكتب ويقال في الاعلام . الفلسفة السائدة بين المسئولين الليبيين الجدد إفعل ما تشاء ولا يهمك ما يقال. ويتسائل البعض هل يعرف المجلس الأنتقالي معنى الثورة حتى يتزعم ثورة . الثورة معناها خروج على القانون السائد وإصدار قوانين ثورية . والثورة معناها القصاص والعقاب لعناصر النظام السابق على جرائمهم أوالمشاركة في تسيير النظام الدكتاتوري السابق ، والسحق احيانا لأية ثورة مضادة وتقديم حكام العهد الماضي وأزلامهم إلى محاكم ثورية لا محاكم جنائية مدنية . الثورة معناها هدم الماضي وبداية جديدة . هذه أعمدة الثورة . وهكذا عرفنا الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية . أ ما يسمى مجازا بثورات مثل ثورة 23 يوليو وإنقلاب الواحد من ستمبر وثورة 25 يناير المصرية وثورة 17 يناير التونسية فليست ثورات بمهناها الحقيقي بل هي إنقلابات أو تغييرات حكام طبل لها الأعلام والأقلام المشتراة واطلق عليها إسم الثورات مجازا . الثورة الليبية كانت ثورة حقيقية قضت على القذافي وعائلته وكتائبه وشرطته ونظام حكمه .وكان من المفروض أن يقودها ثوارحقيقيون وليس بقايا من أزملام القذافي . لقد إلتف الشعب الليبي حول الشيخ مصطفى عبد الجليل في ظروف كان لا بد من إيجاد قائد للثورة يلتف حوله الشعب . ولم يعرف الشعب عنه شيئا سوى أنه وقف مرة في مؤتمر الشعب العام ليقول كلمة حق أمام حاكم ظالم . وكان الاعتقاد إنه رجل حازم وقوي ورجل ثورة . ولكن إتضح من الايام الأولى إنه رجل ورع طيب متسامح يجنح إلى السلم وليس ثوريا . ويعتقد إن الثورة مجرد خلاف بين فريقين وعائلتين أو قبلتين يمكن حله بميعاد قبلي بين المشايخ على قصعة بازين بالدجاج ولحم الخروف أو مترودة . كما أنه يعتقد أن أزلام القذافي وزملائه في النظام السابق على مختلف مستوياتهم سيقبلون الواقع ويسيرون كما سار هو مع الثورة ، وأنهم سيتنازلون عن إمتيازاتهم ويصبحوا ثوريين . وبهذه الروح الطيبة والثقة النقية التي يتمتع بها الشيخ عبد الجليل عين جميع من إتصلوا به مؤيدين أعضاء في المجلس الأنتقالي دون أن يعرف هو عن معظمهم شيئا ودون أن يعرفهم الشعب أو يختارهم . وعندما قيل له قبضنا على محمد إبن القذافي قال العفو عند المقدرة إتركوه في بيته وبين عائلته واولاده . وكان هذا ضوءا أخضر لتهريبه مع بقية أفراد عائلة القذافي وأزلامه الذين عبروا الحدود للأقامة في دول الجوارالتي قبلتهم لاسباب إنسانية كما برره الشيخ عبد الجليل . ويشاع أن تهريب عائلة القذافي ثم بموافقة من المجلس الانتقالي وإشراف الناتو حتى لا يتعرضون للقتل . ومن بقى من أزلام القذافي تركوا في بيوتهم وبين أنصارهم يتمتعون بأمتيازاتهم وبثرواتهم وحماية أهاليهم وقبائلهم ويتأهبون للأنقضاض على الثورة عند ما تسنح الفرصة . بل أكثر من هذا شجعت هذه الطيبة الثورية كثيرين من من يدعون بالثوار والغاوون ليؤلفوا ما سموها مجالس ثوار و مجالس محلية . وكان طبيعيا أن يدعي رؤساء هذه المجالس بانهم أصبحوا حقيقة أصحاب حق في القيادة والزعامة وفرض أنفسهم لحكم البلاد . وبعد تمركز أزلام القذافي في مواقعهم كان طبعيا أن يحدث ما يجري الأن في بني وليد والقادم أخطر ، فوضى لا حكومة ولا سلطة مركزية ورئيس مجلس يهوى زيارة دول الجوارللتمخطر على البساط الاحمر ويصافح صفوف المستقبلين ، وحكومة تعقد إتفاقات مع دول أجنبية في أمورمستقبلية ليس من إختصاصها ، وتدفع المرتبات والمصروفات دون رقابة او محاسبة وتمد المجالس على إختلاف إسمائها بما تحتاجه لترسيخها وتقوبتها بدلا من التركيز على الشئون الداخلية والضغط على الثوار للأنضمام إلى قوات الجيش والشرطة وتحرير التراب الليبي من الجماعات المسلحة .
الثورة ليست تسامحا وعفوا على الماضي وطي صفحة قديمة وبداية صفحة جديدة . الثورة تحتاح الى زعامة حازمة تضرب بيد من حديد ، غايتها تحقيق أهداف الثورة النبيلة في الحرية والدبمقراطية بأي وسيلة ممكنة حتى ولو أدى الوضع إلى تصفية خصومها ومن يؤيدهم والاستعانة بمن تراه حتى ولو أدى الأمر إلى الاستعانة بالناتو الذي ساهم في تحرير ليبيا من القذافي وعليه تكملة المشوار ، لضرب من يقف في طريق الثورة وتحرير التراب ليبيا كله من الجماعات المسلحة وضمهم الى الجيش وقوات الامن بالقوة لمن يرفض منهم الضم السلمي . والتخلص من أي معارض لسلطة الدولة المتمثلة في المجلس الأنتقالي والحكومة المؤقتة . وذلك لأجراء إنتخابات نزيهة دون تدخل من جماعات مسلحة . . إتخاذ المواقف الحازمة صفة من صفات زعماء إنشاء الدول ونجاح الثورات . ذكرني هذا باستقلال ليبيا سنة 1951 الذي تحقق بفضل حزم رجالها التاريخيين وفرض الحلول بالقوة الممكنة لأقامة دولة ليبيا المستقلة رغم الخلافات العميقة بين الاقاليم الليبية وبين الأحزاب وبين المدن والقبائل في غرب ليبيا وشرقها والتضحية ببعض الزعامات التاريخية المعارضة . كان تمسك زعماء الاستفلال بتحقيق إستقلال ليبيا في الوقت المحدد الذي وافقت عليه الجمعية العامة للامم المتحدة وهو أول سنة 1952 يفوق أية أعتبارات أخرى ديمقراطية أوقانونية أو حتى إنسانية ، لأن الفشل في تحقيق الاستقلال في الوقت المحدد كان معناه إعادة القضية الليبية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قد تعيد النظرفي مشروع بيفن إسفورزا وتقسيم ليبياووضعها تحت وصاية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا . لهذا كان موقف زعماء الأستقلال صارما وتجاوزا القانون ومبادئ تقرير المصير وحقوق الانسان مع المعارضة الشعبية التي عمت مدن ليبيا وقراها للنظام الفدرالي . ورغم تعرض هؤلاء الزعماء للتهم والاعتداء ألا أنهم إتخذوا قرارات حاسمة حققت إستقلال ليبيا بنظام فدرالي مؤقت . وقد قام الملك إدريس ورئيس الوزراء السيد محمود المنتصر رحمهما الله في الفترة التي تلت الأستقلال بتحقيق الوحدة الليبية الكاملة بخطوات تابثة .فقد قام السيد محمود المنتصر في حكومته الأولى بالوقوف ضد سلطات الولايات ، والأعتراض على إصدار أية مراسيم أو أوامر ملكية ولائية دون موافقة مجلس الوزراء الأتحادي وتوقيع رئيس الوزراء الاتحادي عليها ، وقد لجا الى المحكمة العليا ضد هذه المخالفة للدستور وحكمت المحكمة العليا لصالحه ، مما أفرغ النظام الفدرالي من فحواه وأهدافه ووضع الولايات رغم الأحتفاظ بشخصيتها تحت سيطرة الحكومة الاتحادية من الناحية القانونية بدلا من إرتباطها بالملك رأسا ككيانات مستقلة . وقد قام الملك سنة 1963 بالغاء النظام الفدرالي بمبادرة منه دون ضجة وليس تحت صغط شعبي أو برلماني وإعلان ليبيا موحدة بنظام مركزي وتحويل الولايات الثلات الى عشر محاقظات . بل اكثر من ذلك قكر الملك في إعلان النظام الجمهوري وكلف المستر إدريان باعداد مشروع دستور جمهوري شاركت شخصيا في مواكبة إجتماعات لجنة الخبراء الدوليين برئاسة المستر بلت التي أعدت مشروع الدستور الجمهوري ، واحضرت شخصيا النسخة الأصلية لمشروع الدستور من المستر بيلت في جنيف . وقمت بترجمته من اللغة الانجليزية إلى العربية بطرابلس سنة 1965 بخط يدي لعدم معرفتي بالطباعة على الألة الكاتبة أنذاك باشراف السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي . وقد سلمت المشروع وترجمته بخط يدي وحتى مسودة الترجمة ألى السيد محمود المنتصر الذي سلمه للملك إدريس وإنتهت مهمتي عند هذا الحد . ويا حبذا لو أعتبرهذا المشروع الذي وضع من طرف لجنة من كبار رجال القانون الدولي أساسا للدستورالليبي الجمهوري الجديد الذي سيعد قريبا ، إذا كان المشروع لا زال موجودا في وثائق أرشيف بريد الملك إدريس بقصر دار السلام .وقد أسفت كثيرا لعدم الأحتفاظ بنسخة منه لأن السيد محمود المنتصرحرصا على سرية الموضوع أصر على أن أقوم بترجمته في مكتبه بالبيت وعدم الاحتفاظ بأية أوراق منه خاصة أن مكتبه في البيت لم يكن مجهزا بالة ناسخة . ولمعرفة تفاصيل هذا الموضوع وتفصيلاته فيمكن للقارئ الرجوع إلى كتابي مذكرات شاهد على العصر الملكي الليبي الذي نشرته سنة 2008 مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة ومنع من دخول ليبيا .
التعليقات (0)