الاعتراف بالخطأ فضيلة لا يعرفها إلا الكبار من أصحاب الضمائر الحيّة. النقد الذاتي والمراجعة والشعور بالمسؤولية... كلها خصال حميدة وأخلاق وثقافة لا يجرؤ على التحلي بها إلا الأقوياء وهي دليل اخلاص في العمل واحترام لعقول الآخرين. في المقابل، ثقافة اختلاق الأعذار بهدف الإصرار على الخطأ والتمادي فيه والمكابرة في إنكاره وصولا الى الكذب على الذات بتبريره وتسويغه وتحويله الى صواب (أو حتى بطولات!) هي ثقافة ضعفاء النفوس وعديمي المسؤولية والمستكبرين والمستخفّين بعقول الناس. وهذا فن احتيالي خطير، أخطر حِيَله على الإطلاق تلك التي تعتمد "المنطق المغلوط" عبر إيراد حجج واستنتاجات تبدو بظاهرها منطقية بحيث تولّد لدى العاجز عن اكتشاف المنطق المفقود قناعة موهومة بأن الخطأ هو الصواب.
باختصار وتبسيط، عندما يبرّر أحد خطأه قائلا إنه ليس الشخص الأول الذي يرتكبه، أو أن معظم الناس ترتكب مثله، فلن يحظى بإقناع إلا قلة قليلة من السذّج الذين تنطلي عليهم مثل تلك الأعذار الواهية والمكشوفة لأي عاقل... أما عندما يلجأ المُحتال في تبرير خطئه الى إيراد حجج بقالب ظاهره منطقي كأن يدعي أن فعله صواب لأنه كان تفاديا لنتائج افتراضية سيئة أوتخوّفات مستقبلية غيبية، عندئذ يصبح عقل المتلقي أمام امتحان صعب، فإما أن ينبهر بادعاء المحتال تحقيق أو تفادي نتائج مفترضة هي بحد ذاتها وهمية ومستقبلية وغبيبة أو حتى خيالية ومعدومة، فينسى الخطأ وتتحقق عنده القناعة الموهومة بصوابيته، وإما أن ينسف المغالطة بمجرّد إثبات أن الفعل خطأ من أساسه دون الانتشاء بنتائج غير متحقّقة أو متعلّقة بعلم الغيب. وفيما يلي شاهدان من خطابات الرئيس سعد حريري وحسن نصرالله.
ففي إحدى حلقات البرنامج الكوميدي الساخر الذي عُرض بشكل شبه يومي بعد الإفطار خلال شهر رمضان، وقدّمه الحريري وتميّز بحملته الكوميدية العنيفة على الحزب الإرهابي الذي سمح له بالعودة الى لبنان وضمن له أمنه الشخصي... قال الحريري في 16/6/2016 رافضا الاعتراف بخطأ معاودته الحوار مع الحزب ونكثه وعودا سابقة بعدم استئنافه :"إن الحوار مع حزب الله كان سببه الأساسي العمل على تخفيف التوتر ودرء الفتنة بين السنة والشيعة، (...) وأنا أعرف صعوبة قياس هذا العمل الذي سنواصله طالما أن هناك من يعمل على تأجيج الفتنة لأن مقياسه الحقيقي ليس ما أُنجِز ولكن ما تفاداه من مآس وويلات لو سمحنا للفتنة أن تقع". إذن برر الحريري خضوعه للمحتل والعمل لصالحه ونكث الوعود بالحؤول دون تحقق نتائج مستقبلية غيبية سيئة هي أنه لو لم يفعل لكانت وقعت الفتنة والويلات، لكن بمجرّد أن يدرك المتلقي أن الحوار مطلب الحزب لتضييع الوقت والتغطية على تحضير أعمال إرهابية داخلية وخارجية وتنسيق بين محتل وصحوات، وأن الفتنة ليست من مصلحة الحزب حاليا الذي يريد أن يحمي ظهره في حربه ضد الشعب السوري، وأن الحريري لا يملك قاعدة شعبية يمون عليها تستطيع الحؤول دون الفتنة وهو ما أكدّته الانتخابات البلدية، وأن الحوار بحد ذاته ضاعف التوتر الطائفي لأنه مثّل تنازلا مخزيا للحزب، عندئذ يدرك خطأ الحوار ومكابرة الحريري بجعله صوابا.
الحيلة الحريرية نفسها نجدها ظاهرة في خطاب نصرالله الذي ألقاه في يوم المتاجرة بالقضية الفلسطية الذي سماه الخميني "يوم القدس العالمي"، حيث قال في 1/7/2016 مبررا تدخله الإرهابي في سوريا ومستثمرا في المسلسل الإيراني الدموي الطويل وتحديدا حلقة 27/6/2016 التي صوّرت في قرية القاع الحدودية المسيحية التي استهدفت بثمانية إنتحاريين دفعة واحدة ينتمون الى إحدى أهم فرق عمل محور الشر والمسماة "داعش": "لولا هذه الحرب الاستباقية في سوريا والقصير وفي القلمون وفي الزبداني وفي السلسلة الشرقية وفي دمشق... كنتم رأيتم كل يوم ثمانية انتحاريين يدخلون الى بلدات لبنانية(..)، كنتم بدل السيارة التي نفتش عليها كل شهر أو شهرين رأيتم عشرات السيارات تدخل البلدات والمدن والقرى اللبنانية، أليس هذا فرقا وأليست هذه نتيجة؟". بدوره لجأ نصرالله الى ادعاء تحقيق نتائج مستقبلية غيبية بل معدومة تبريرا لخطئه، مفادها أنه لو لم يتدخل في سوريا لكان لبنان يكتوي يوميا بتفجير عشرات السيارات والانتحاريين وبالتالي ما فعله صواب، لكن كل تلك المغالطة تُنسَف من أساسها بمجرّد تنبّه المتلقي الى أن الخطأ بل الجريمة الأساس هي قتل الشعب السوري وتشكيل عصابة إرهابية وضرب القوانين واستباحة الحدود... وعندما يتذكّر أن العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة الآتية من الخارج لم تضرب لبنان إلا بعد تدخل الحزب في سوريا، وأن عملية القاع ذات أهداف مكشوفة وغرضها تبرير الأمن الذاتي والتسليم بصوابية لا منطق الحزب.
استخفاف بالعقول واستغباء، لكن مهما بلغ دهاء المحترفين في صناعة الحِيَل وإيراد المغالطات لتبرير الأخطاء، سيبقى الخطأ خطأ والصواب صوابا والحقيقة حقيقة.
التعليقات (0)