الحرية.. سهولة اللفظ وصعوبة المفهوم
الحرية هي فعل الأفضل
سقراط
من جمال المصطلح ينطلق أصحاب الشعارات وتبدأ رحلتهم لولادة فكر تحت راية اختيرت ألوانها بدقة حتي تستحوذ علي ألباب النابهين قبل العامة، راية أعلي المقدس الإنساني مقامها حتي تسهل الفداء والتضحية من أجلها، فلا تستريح لحظة من أجل نشر صورة الراية علي كل بقعة عقل.
ينقل أحد الأصدقاء قصة رائعة مفادها: (قام أحد العلماء علي مجموعة قردة في حديقة الحيوان بأن وضع لها صندوق موز وعندما يقترب أحدها من الصندوق تُرَشُّ المجموعة بماء شديد البرودة ــ يبدو أن التجربة كانت في فصل الشتاء ــ فتبدأ بالصراخ.. ومضت أيام علي هذا المثير الشَّرْطِي، وبدأ العالِم يسحب قردا ويضيف قردا جديدا فيقترب الأخير من صندوق الموز، وما يكاد يصل إليه حتي تهجم القرود بالضرب وهو لا يعلم السبب، ثم يسحب العالم قردا آخر ويضيف آخر، ويحصل علي نصيبه من الضرب جراء تهافته علي صندوق الموز، حتي يصل العالِم إلي جيل جديد من القرود يضرب بعضهم بعضا كلما اقترب أحدهم إلي الصندوق، وهم لا يعلمون السبب الحقيقي).
ويبدو أننا نستخدم الإسلوب ذاته لنبدأ الهتاف إثر سماع الشعارات ولا ندري سر قوة علاقتنا بها ولعل أقواها (الحرية) الذي نجده قد استوعب الإنسانية ونادي به جميع أطيافها، فلا نجد تيارا فلسفيا، أو حركة، أو نهجا تغييريا إلا وكان عنوان أفكاره وشعاراته (الحرية).
من كل ذاك الاهتمام الإنساني بهذا المصطلح، لا أظن أننا بلغنا مفهومه علي الرغم من البحث العميق، والدراسات الكثيرة؛ ونجد أن (الحرية) تلقي رواجا وجماهيرية وسط الاستبداد والتسلط أيا كان نوعه. فأينما بُحِثَتْ (الحرية) بُحِثَ (الاستبداد) ضمنا، وتكون (الحرية) انعكاسا من حيث المفهوم كالمرآة لـ (الاستبداد) الواقعي، أي يكون الأول انعكاسا تاما للأخير.
فمفهوم (الحرية السياسية) يُبحثُ عندما يكون هناك الاستبداد السياسي، ومفهوم (الحرية العقدية) يروج وسط الاستبداد العقدي، ومفهوم (الحرية الفكرية) يجد مكانا وسط الاستبداد الفكري، وهكذا؛ فأصبحت (الحرية) حريات، والاستبداد أصبح أنواعا مختلفة.
والغريب في الأمر أن كل مدرسة سواء كانت وضعية، أو دينية تري أنها تمتلك النموذج الأمثل لـ (الحرية) بينما في الواقع نجد هذا الأمر نظريا أكثر منه واقعيا، وهذه الإشكالية تحتاج بحثا مقارنا وليس هنا مجاله، وليكن الحديث علي وجه الإجمال؛ فنجد المذاهب الفلسفية تري أن الحرية بين واجب الإمكان وصعوبة الإمكان بعيدا عن مدرسة ممتنع الإمكان، وحينما يرون مدارس أخري تخالفهم الرأي يشتاطون غضبا ويميلون لممارسات لا تمت بصلة لاحترام (الحرية).
أما الفلاسفة فقد تاهوا بين حريات عقلية قُسِرتْ بالزمان والمكان لا تكاد تخرج للواقع المعاش، نقاشا يرتحل بين إمكانيتها للإنسان في الوجود، وبين عدم الامكان؛ وتنادي بوجوب أن يكون الإنسان حرا ما دام لا يخرج عن الطريق المستقيم لنصهم الفكري حول هذا المصطلح (الحرية).
ونري الروائيين ينادون حتي بحت أصواتهم وتقطعت حبالهم الصوتية بـ(الحرية) التي تريدها أقلامهم لتتمكن من التعاطي مع هذا الفن بحيث يجوز له ما يجوز للغير ــ أيا يكن ــ كما يسمح للشعراء بالخروج علي القواعد النحوية والصرفية وكثيرا من الأحيان علي القواعد الاجتماعية وكذا العرفية؛ وسنسكت عن الحدود الشرعية لأن أغلب الكتاب ينادون بـ(الحرية) وأول ما يقابلون بالحرية الدين وحدوده التي تعيقهم من الانطلاق في الكتابة، هؤلاء الكتاب الروائيون أصبحوا يملكون أفضل الطرق وأسهلها وأقصرها للوصول إلي الشهرة متكئين علي ردود الفعل الاجتماعية غير الواعية في التعاطي مع مثل هذه الأقلام.
مع كل ذلك يبقي مصطلح (الحرية) الذي يقابله في اللغة الإنكليزية (Freedom) مطلب الجميع كل معتمد علي نصوصه الفكرية أو الشرعية لكن نبقي غير متقنين للتعامل مع هذا المصطلح بما يناسبه من علو شأن فلا نتذكر الحرية إلا إذا مستنا (أنا).
يبقي علينا أولا الاتفاق علي مفهوم هذا المصطلح (الحرية) ثم نقوم بإلقاء الخطب وننادي بمصداق لمفهوم نظري.
برير الصلاح
التعليقات (0)