|
|
خاص المركز العربي للدراسات والأبحاث
لا أدري إن كان العنوان أعلاه سيحدد حقيقة ما أريد قوله في سياق تحديد العلاقة الجدلية بين مصطلحي (الحرية والالتزام)،مركزا على مفهوم الحرية،باعتبارها حقا طبيعيا للفرد،كالحرية التي تقع في التعبير، والعيش، والاقتناع، والاعتقاد. وحينما يكون الموضوع مرتبطا ارتباطا جوهريا مع قضية الانتماء الوطني، ومفهوم ذلك الانتماء- من خلال ممارسة المواطن لنمط سياسي وفق رؤية دينية، وانطلاق ذلك النشاط السياسي من واقع الحياة السياسية- تصبح هذه القضية أكثر حساسية، حينما تطرق ونحن نعيش مرحلة تحول تاريخي في ظل هذه الثورات الشعبية التي شكلت ظاهرة عربية تلاحمية، بحثا عن أفق ممتد من آفاق الحرية المطلوبة.
ولا أقصد بالحرية –هنا- الحديث عن الجبر والاختيار؛ فذاك موضوع فلسفي لا يحضر ذاكرتي الآن، بل لعل ما دفعني لطرق هذا الموضوع- كما أسلفت- هو تلك الحالة الجدلية القائمة في عالمنا العربي من ثورات قد تقع ضمن دائرة التمرد والانعتاق من الالتزام بربقة الجماعة في نظر بعضهم، وهي في نظر آخرين فكرة التغيير الجمعي لتحقيق مصالح الأمة في ظل واقع لا يرضي ربا، ولا يغضب عدوا.
فواجب التغيير أمر تناط به الأمة، ويلزم به أبناؤها، ويصبح حكمه للفرد حكم الجهاد العيني، أو حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الآية الكريمة:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"( آل عمران – 104).
فإذا كان الأمر كذلك، فهل ثورات الإصلاح وأفكار الانعتاق من ربقة الذل منطق يخضع لحرية الفرد وقراءته للواقع؟أم أنه مفارقة للجماعة وتحلل من التزام صبغت به الأمة؟وتمرد ودعوة لشق الصف وتنازع وردة ؟تصدق فيه الآية" :"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين"(الأنفال/46 ).
ثم هل الثورة ضد الحاكم من أجل الفكاك من عالم الخنوع يعد تمردا وخروجا على ولي الأمر كما تروج بعض الفتاوي الفقهية في مؤسسات النظم الحاكمة ؟
· الغاية من الوجود البشري:
لا شك أن الغاية من الوجود البشري تحدد الماهية التي يجب أن تكون عليها النفس البشرية في علاقاتها المتنوعة مع الكون، وخالق الكون، وأجزاء الكون.
وقد جاءت الشرائع السماوية سندا لهذا الكائن في تحديد هدفه الوجودي، وتحديد المنهاج الكفيل بتحقيق ذلك الهدف، وأعطي الإنسان قدرة عقلية ميزته عن سائر الخلق؛ ليستعين بها في الفصل بين الحق والباطل، والاهتداء إلى المنهج السوي المستقيم" وهديناه النجدين"،واعلمَ أن رحلته القصيرة في هذه الدنيا ليست كل شيء، بل هناك وراء هذه الحياة، حياة هي الحيوان، وفيها الخلود، ولها يجب أن يكد ويعمل.
وفي سياق هذا التكليف الرباني والتمييز عن سائر الخلق؛ كرم الإنسان، وأعطي مكانة لم يعطها غيره، وكان مشروع الحرية في حياته جزءا من التكوين الفكري المناط به للتحرك نحو الهدف، وارتبط ارتباطا مصيريا بخالقه، واستجاب بفطرته لهذا الناموس، فكانت أسئلة الوجود الكبرى تلاحقه ولا تغيب عنه أبدا.
وإذا كان هذا التفكير( في الوجود) قد انتظم في ذاكرته بفطرة عفوية، أو فعل لا إرادي، من خلال طبيعته المتميزة القائمة على تفعيل دور العقل في البحث والإرشاد،فإن الخطاب الرباني قد سهل عليه مهمة الاهتداء، وقرب إليه أسباب الهداية وحجج الاقتناع، وإذا كان القرآن قد جلل الرسالات كلها بخاتمة شاملة؛ فإن إجابة القران عن سؤال الوجود كانت شافية كافية، بل إنها طرقت الذاكرة البشرية مع أول مصافحة عملية لها، إثر نزول القران على قلب الحبيب- صلى الله عليه وسلم-؛ ففي سورة العلق -وهي سورة تتحدث عن وجود الإنسان وخلقه ومساره ومآل أمره- حددت معالم هذا الوجودـ وأشبعت ذاكرة الإنسان بما تحتاجه من أدلة دامغة على حقيقته؛فأول أية تربط الموجود بالواجد: "اقرأ باسم ربك الذي خلق " وهنا –أيضا- تحديد لغاية الوجود؛ أي من خلال مفهوم الربوبية بإضافة الموجود إلى الرب لا إلى الخالق؛ أي "ربك" بدل "خالقك"، وهذه لطيفة دلالية تستحضر –هنا- في التوجيه الفكري، ثم في الآية الثانية حديث عن اصل الوجود ومما كان" خلق الإنسان من علق" ثم طريق المعرفة" علم بالقلم " " علم الإنسان ما لم يعلم".
ثم انتظمت حياته في تشكُّلات اجتماعية لتسهيل مهمته؛ فكان منتميا انتماء فطريا لجماعة تبدأ بالأسرة وتنتهي بالدولة أو "الأمة"، وقد حرصت الشرائع الدينية مجتمعة على تحرير العباد من العبودية لغير الله وإطلاق إساره في آفاق الكون، وانطلقت عبارة الخالدين مدوية في الآفاق" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"
ثم انتظم الفكر الإنساني في التكليف الرباني في قطبين،أو منهجين:"قطب نصي، وقطب عقلي،أما القطب النصي فهو الذي اعتبر المنتمون إليه أن تعاليم الوحي هي المحدد الوحيد في كل الأزمان للمنهج الخلافي دون أن يكون للعقل أي دور سوى التنزيل المباشر لظواهر النصوص في حياة الناس على وتيرة تكاد لا تختلف باختلاف الظروف إلا بالقدر اليسير"(1)
وقد تمسكت بعض النظم الإسلامية في هذا الزمان بظاهر هذا التصور؛ فضربت جدارا على عقول المفكرين، وجعلت مناط الحكم في أي قضية خاص بالمفتى أو لجنة الإفتاء،سواء أكان الأمر متعلقا بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة؛ فتفشى الجهل، وانحدر مستوى التقدم، وأصبحت الأمة ذيلا لباقي الأمم، وضاق ذرع الشعوب بهذا الواقع؛ فتململ من تملل، فاتهم بالردة والتمرد والخيانة.
مع أن الواقع العملي لمسيرة النظم العربية كان واقعا مزريا ؛ فقد ارتبطت الدول العربية كلها بركب الصهيونية، وتحولت إلى ساحات متقدمة لضرب الإسلام، وتقتيل أهله، ونشر الفساد، وسلب الهوية،وشواهد ما نورده لا حصر لها في أفغانستان وفلسطين والصومال والشيشان، بل في كل بقاعنا الإسلامية.
وجرم المنكرون لها الواقع الانهزامي، فاتهموا بالتطرف والغلو، والانفعالية واللا عقلانية والبعد عن الاعتدال. وأن لا حق لهم بالتمرد( فطاعة ولي الأمر واجبة في كل حال).
· الحرية في التصور والاعتقاد:
الطبيعة البشرية طبيعة إبداعية، قادرة على التطور، والرسالات السماوية رسالات تبليغ لا إكراه، وهي تستميل العقل والقلب من خلال خطاب حكيم، ولا تكره النفس على التزام الشرع دون إقناع،قال تعالى:" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم"( الغاشية- 21-26)
والإكراه في الدين غير جائز فـ : (النص الصريح كما في الآية السابقة،ثم إن الدنيا دار اختبار وابتلاء، ولا بلاء إلا بحرية الاختيار،ثم لتنافي الإكراه مع الطبيعة العقدية نفسها،من حيث كونها عنصرا نفسيا، ومن المحال تكوين أو تأسيس حقيقة نفسية بالإكراه؛ إذ الإسلام لا يشرع من الأحكام ما لا يستقيم مع طبائع الأشياء،ثم لأن الإسلام يعتقد أن معاذير المخالفين قد أبليت؛ لأنه أقام الحجة القاطعة،بل البالغة على الإلوهية والوحدانية؛ لقوله تعالى:" قد تبين الرشد من الغي" بالآيات المنصوبة في مظاهر إبداع الخلق الإلهي في الكون والإنسان."(2)
· الحرية والنشاط السياسي:
من كليات التصور الإسلامي أن النظام السياسي الإسلامي انبثق من دستور الهي،وان المسلمين مطالبون بتطبيق شرع الله في كل شؤون حياتهم, وهم مطالبون بتحكيم ما أمر فيما بينهم، وهم إن لم يفعلوا فقد باؤوا بغضب من الله، وعدوا من المخالفين:" ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون"(المائدة 44)
هذا التكليف الشرعي على المستوى الفردي إعلان رباني لممارسة السياسة،والزام للفرد بأن يكون تحت مظلة الحكم الربانين بل إن الفرد مكلف بتحمل المسؤولية في بناء المجتمع وصيانته من كل فساد آو خلل" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعتيه، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته. "(3)
هذه المسؤولية تشبه إلى حد كبير المستوى الأكثر قربا من المسؤولية السياسة المباشرة، من خلال الشورى"قال تعالى:"والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"(الشورى 38)؛ فالشورى" وظيفة تؤدى" من أجل الغير،فردا كان أو مجتمعا،فكانت حقا وواجبا معا،وباعتبار أن السياسة إنما تعني القيام على الأمر بما يصلحه،أو هي تدبير الأمر في الأمة داخلا وخارجا تدبيرا منوطا بالمصلحة؛ فإن الشورى السياسية في جوهرها ليست إلا مبدأ عاما يوجب على الصفوة المختارة من أبناء الأمة اختيار الصالح المناسب لظروفها، وهو القوي الأمين الذي ينهض بمهام سياسة الدولة تحقيقا لمصلحتها العليا."(4)
وهنا أجدني أدلف إلى عالم التصور السياسي الحديث من خلال الممارسة العملية في تشكيل الأحزاب الممثلة للشعب، واختيار الحاكم المناسب، والبرلمان المناسب.
كل هذه التشكيلات السياسية جزء من مسؤولية الفرد والجماعة، وهي تقع ضمن الواجبات المنوطة بتبليغ هذا الدين وتمكينه، ونصر هذا المنهج، وتحكيم شرع الله.
والممارسة السياسية جزء من الحرية التي طولبنا بها لننقذ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
والقمع السياسي والدكتاتورية الجبرية لا تقع إلا ضمن دائرة السلب والظلم والحرمان،والدعوة إلى التغيير جزء من التصورات العقدية للإصلاح ، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة وإذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم : أنت ظالم فقد تودع منهم "(5)
إن القمع السياسي وكبت الحريات التي تمارسه النظم العربية تحت عباءة الإسلام الأمريكي المضلل قد عطل الحياة الإسلامية، وارخص العقيدة، وجعلنا غثاء كغثاء السيل، تبع لعدو لا يأل فينا إلا ولا ذمة، وقد صدق فينا حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ثوبان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها "، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن "، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : " حب الدنيا، وكراهية الموت ".
وقد كان واقع الأمة السياسي، قبيل الثورات العربية، ينذر بانفجار شامل،وإذا ما وقفنا على أهم ما تنشره مؤسسات دولية حول حقوق الإنسان في العالم العربي نجد أرقاما مهولة وأحداثا مرهبة، تجسد مفهوم الدكتاتورية والفرعونية بشكل مطلق؛ وإذا ما أخذنا بعض تلك النماذج الموثقة التي نشرتها منظمات دولية نتيجة الكبت نجد:أن العراق يعاني من تدهور وضع حقوق الإنسان بسبب العنف مع تزايد عدد العراقيين النازحين إلى زهاء 4.4 مليون شخص، ونصفهم خارج البلاد. أما مصر فقد زادت من الهجمات على المعارضة السياسية في عام 2007.و في مارس/آذار دعّمت الحكومة قانون الطوارئ بإدخال تعديلات على الدستور، وإدخال أساس مستمر للاحتجاز التعسفي ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة. واعتقلت الحكومة الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وحاكمت بعض القيادات من الأعضاء في محاكم عسكرية. كما اتهمت الصحفيين وأصحاب المدونات الذين انتقدوا انتهاكات حقوق الإنسان، وقامت بإغلاق منظمات حقوقية ومنظمات خاصة بحقوق العمال.
أما الأردن فقدت تراجعت في مجال حماية ممارسة الحقوق الأساسية. وسوف يقيد مشروع قانون للمنظمات غير الحكومية كثيراً من حرية تكوين الجمعيات، أما القوانين الجديدة الخاصة بالصحافة والحق في المعلومات فجاءت أقل من المتوقع. وهدد مشروع قانون جديد للأحزاب السياسية تواجد الأحزاب الصغيرة، بزيادة الحد الأدنى المطلوب من الأعضاء الممولين إلى 500 عضو.
وقد شهد الوضع السيئ لحقوق الإنسان في سوريا مزيداً من التراجع في عام 2007. فالحكومة فرضت أحكاماً قاسية على عدد من النشطاء السياسيين والحقوقيين.
وتستخدم تونس خطر الإرهاب والتطرف الديني ذريعةً لقمع المعارضة السلمية. وثمة تقارير متواترة تتمتع بالمصداقية تتحدث عن استخدام التعذيب وسوء المعاملة لانتزاع الاعترافات من المشتبه فيهم أثناء احتجازهم. كما يتعرض السجناء المحكومون إلى سوء معاملةٍ متعمد. واستمر عدد السجناء السياسيين في التزايد، مع اعتقال السلطات لأعداد من الشباب في مداهمات شملت جميع أرجاء البلاد. وصعبت السلطات من حياة السجناء السياسيين المفرج عنهم، بمراقبتها لهم عن قرب، وحرمانهم من جوازات السفر والوظائف، كما هددت بعضهم باعتقالهم مجدداً إذا تكلموا عن السياسات الحكومية وحقوق الإنسان."(6)
وفي معظم الدول العربية يتعرض السجين السياسي لسلسة من الانتهاكات الجسيمة والمنهجية الخطيرة لحقوق الإنسان، ومصادرة لحقوقه الأساسية والتي أقرتها الشريعة الإسلامية والمواثيق والعهود الدولية ونظام الإجراءات الجزائية الذي أصدرته الدول خلال الاعتقال التعسفي.
هذا هو واقعنا السياسي،يستدعي رجة إعصار حقيقة وثورة تزيل الغشاوة عن العين، والران عن القلب، والجدار الخانق عن العقيدة، والقيد المطبق على الرقاب.
ومن هنا؛فإن الثورة ضد الفساد جزء من مشروعية هذا الدين ورسالة من رسائله، وواجب من واجباته، والحرية أثمن من أن تختزل في رغبة حاكم ظالم يريد لشعبه الاستعباد، وله التمرد والتجبر .
إن الحرية إعلان ولاء مطلق: بان الأمر كله بيد الله.
· الهوامش :
1) خلافة الإنسان بين الوحي والعقل،عبد المجيد النجار،ص30،المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1981. 2) الإسلام ومفهوم الحرية، حورية يونس الخطيب، ص27،دار الملتقى للطباعة والنشر، قبرص/1993. 3) أخرجه البخاري ومسلم. 4) نفسه،78.ص 5) أسد الغابة ـ ص24، المكتبة الشاملة الشاملة : للوصول إلى الحديث عبر البحث:http://sh.rewayat2.com/rgal/Web/3570/001.htm 6) أهم نتائج تقرير حقوق الإنسان في العالم العربي: نماذج من إنتهاكات تقويض الحقوق، شبكة النبأ المعلوماتية : http://www.annabaa.org/nbanews/71/854.htm
· كاتب وباحث فلسطيني.
حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر |
التعليقات (0)