الحرية: الإرادة والحتمية
"متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!"
الفاروق عمر بن الخطاب
مهاد الموضوع
تعد الحرية قدرة الفرد على الفعل من دون قيد آسِرٍ لهذا الفعل، إن الحريةَ تجاوزٌ للقيود والإكراه، والحرية بما هي مقابل للخضوع والإكراه في الفعل الإنساني، فإنها يمكن أن تنفصل إلى طريقين: حرية بما هي نقيض للإكراه على الفعل أو الحرية الآمرة، والحرية بما هي مقابل للإكراه على عدم الفعل أو الحرية الناهية، سواء كان هذا الفعل فرديا أم جماعيا أم ووطنيا. وبالتالي، تغدو الحرية في أبهى تجليها إرادة الفعل و إرادة عدم الفعل في الوقت نفسه.
1. أنماط الحرية
تتمفصل الحرية، بالنظر إلى التحديد السابق، إلى الحرية الفردية التي ترجع إلى الفعل الذاتي، في علاقته بالأفراد والجماعات؛ ثم الحرية الجماعية المتعلقة بقدرة الجماعة على الفعل، بمعناه الاجتماعي، بعيدًا عن الخضوع والخنوع والإكراه؛ ثم الحرية الوطنية التي ترتبط بقدرة الوطن، من خلال مؤسساته الاجتماعية، على الفعل من دون ضغط خارجي يحد من قدرة الوطن، ويأسر إرادته في الفعل والاختيار.
تتجلى إرادة الفعل في الحرية الفردية على سبيل المثال في: حرية إبداء الرأي، والحرية في التملك، والحرية في الاعتقاد؛ ومثيل إرادة عدم الفعل في الحرية الفردية: الحرية في عدم العبودية والاسترقاق، والحرية في عدم التمييز.
وتجمع الحريةَ الفرديةَ بنوعيها حريةُ إثباتِ الذات عموما في كل مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها، باعتبارها حرية الحريات الفردية.
وتبدو إرادة الفعل بالنظر إلى الحرية الجماعية في تكوين الجمعيات، والأحزاب السياسية، وغير ذلك؛ ومثيل عدم إرادة الفعل في عدم التحجيم والقولبة، وعدم الإخضاع.
وتتضمن الحريةَ الجماعيةَ بنوعيها حريةُ إثبات الذات الجماعية، باعتبارها مجموعة من الحريات الفردية المنصهرة في جميع مجالات الحياة.
بينما تتضح إرادة الفعل في الحرية الوطنية، مثلا، في حرية اختيار الممارسة السياسية الملائمة، والحرية في تدبير الشأن الداخلي؛ بينما تتجلى إرادة عدم الفعل في عدم الخضوع لسياسات خارجية، وعدم التدخل في الشأن الداخلي الوطني.
وتلف الحريةَ الوطنيةَ بنوعيها حريةُ السيادة الوطنية سياسة واقتصادا وتدبيرا وأمنا وغيرها.
ترتبط الحرية الفردية والحرية الجماعية والحرية الوطنية بمبدأ الحتمية، وبمفهومي الواجب والحق. ولعل هذا ما يجعلها مقيدة، إذ تخضع لشروط تجعلها نسبية وليست مطلقة، فحرية الفرد تنتهي عند حرية الغير، وحرية الجماعة تُحَدُّ عند بداية حرية الجماعات الأخرى، وتقف حرية الوطن عند حرية الأوطان الأخرى.
وهكذا يتبين أن مفهوم الحرية ليس مائعا، بل مقيدا بضوابط يلزم الأخذ بها حين الحديث عن المفهوم، وإلا ستؤدي الحرية إلى "السيبة" والفوضى، وسيخرج الإنسان من عالم الآدمية إلى الحيوانية أو أضل من ذلك.
2. الحرية بما هي خاصة إنسانية
انتظم الحديث عن الحرية منذ خلق الإنسان، إذ كان طلب إرادة الفعل أساس نزول آدم من الجنة إلى الأرض، لذلك عُدَّت خاصة إنسانية، مادامت شأنا ثقافيا، لأن الإنسان الكائن الوحيد الذي يعاني من الإكراه والخضوع بموجب الأمانة الإلهية ابتداء. ولهذا بينت مختلف الشرائع السماوية مفهوم الحرية باستفاضة كبيرة، رابطها الأساس ثُنَائِيَتَا الجبر والاختيار.
ولم تكن الفلسفة اليونانية بمعزل عن هذا النقاش، إذ كان طلب الحرية الفردية في التعبير سبيل محاكمة سقراط، كما قرن أفلاطون بين الحرية والفضيلة، وربط أرسطو بين الحرية والعقل.
أما في التداول الإسلامي، فقد ساهم ظهور الرسالة المحمدية في إعادة النظر في كل ما يخدم الكرامة الإنسانية ومنها الحرية، لهذا أُمِر الناس بالمساواة وحرمت العبودية والاسترقاق إلا العبودية الإلهية الحتمية، ثم طفا هذا المفهوم زمن الفتنة وخاض علماء الكلام كثيرا في ثنائيتي الجبر والاختيار، والبحث في: هل الإنسان مخير في ما يفعل، أي حر، ومنه يمكن محاسبته على أفعاله (المعتزلة وغيرهم)، أم أنه مجبر على أفعاله وبالتالي لا يمكن أن يحاسب عليها (الاتجاه الجبري)؟ فقد كان الجبر والاختيار مثار نقاش على مدى سنوات في تاريخ الأمة، أدى في بعض الأحيان إلى تعطيل صفات الله (المعطلة)، والخوض في ما لا يمكن للعقل الإنساني أن يصل إدراكه إليه كالإرادة الإلهية.
ولم يقف نقاش الحرية عند علماء الكلام، بل تعداهم إلى الفلاسفة وغيرهم، كابن رشد والغزالي وابن سينا، ثم ابن خلدون والناصري وغيرهم.
وقد لعب هذا المفهوم دوره في إرادة الحياة لدى الشعوب العربية في العصر الحديث، إذ كان السبيل إلى مواجهة الاستعمار ابتداء، وإلى نبذ القمع والتسلط نهاية (ثورتا الفل والياسمين).
بينما في التداول الغربي، فقد ارتبط مفهوم الحرية بالحداثة الغربية منذ عصر الأنوار الذي نادى بالمساواة والحرية والديموقراطية، حيث كان مفهوم الحرية طريقا نحو تقويض النظام الفيودالي القائم على العبودية، وعلى ذم الكنيسة في اغتيال العقل، إذ منذ أن نادى ديكارت بالحرية في التفكير بعيدا عن التحجيم الكهنوتي، شكل مفهوم الحرية عند كثير من الفلاسفة مثل روسو وفولتير ومونتسكيو، ثم هيجل وكانط وسارتر، كل بحسب نسقه الفلسفي المخصوص، شكل نسقا متكاملا في التفكير وفي النظر إلى العلاقات الإنسانية.
غدت الحرية اليوم، أخيرا، معيارا للحكم على الدول وفق اتفاقيات حقوق الإنسان، منها الحرية في التعبير، والحرية في تقرير مصير الشعوب، والحرية في تدبير الشأن المحلي وغيرها بالنظر إلى الحتميات الفردية والجماعية والوطنية.
التعليقات (0)