عن موقع "المبادرة بريس)
الحركة من أجل الأمة والاتهام بالتشيع: وقفة مع بعض أصحاب التهمة (تابع)
ذكر أشخاص آخرون "مستندات" أخرى كما سبق، ومنها مثلا:
1.ادعاء اعتقال أحد المشهورين بالتشيع بالمغرب، إدريس هاني، مع المعتقلين الستة، وذلك ما جاء في جريدة "العلم"(1) المغربية حين ذكرت ان "السيد حافظ (كذا) السريتي مراسل قناة "المنار" بالمغرب تم اعتقاله أيضا يوم أمس، واعتقال السيد إدريس هاني أحد المفكرين المتخصصين في قضايا الشيعة"
2.إعجاب أعضاء الحركة بالفكر السياسي الشيعي، وليس بالفقه أو العقيدة الشيعيين، كما في قول البعض: "إن المرواني ورفاقه ـ كما هو الحال بالنسبة للمعتصم ـ معروفون بكونهم معجبين بالفكر السياسي الشيعي وليس بالفقه أو العقيدة الشيعيين"(2).
3. استفسار وزير الخارجية الإيراني لنظيره المغربي محمد بنعيسى عن "عدم ترخيص السلطات لرفاق المرواني والمعتصم بتأسيس حزب سياسي، مما عزز شكوكا سابقة في ارتباطات البديل الحضاري والحركة من اجل الأمة بالروائح المذهبية في طهران"(3).
هذه المستندات يمكن تصنيفها إلى:
•مفتريات لا تحتاج إلى رد، وهي:
1.سفر العديد من الطلبة المقربين من الحركة إلى "قم" للدراسة. وهنا أؤكد، وأنا أحد الأعضاء المؤسسين للحركة من أجل الأمة ونائب رئيس الحركة في أول مكتب انتخب، أنه ليس للحركة من أجل الأمة عضو واحد درس أو يدرس في إيران. بل لم يحدث أن زار أحد من قادة الحركة أو قواعدها إيران ولا سفارتها بالمغرب. وغير هذا دس وافتراء !
2.ليس لجمعية الغدير بمكناس، ولا لأية جمعية قيل عنها أنها ذات منحى شيعي (التواصل، البصائر،…وغيرهما مثلا) أية علاقة بالحركة من أجل الأمة. وأي ربط مدعى هو محض بهتان.
3.لم يتم اعتقال المتشيع المغربي إدريس هاني مع المعتقلين الستة، فهو حر طليق يعطي التصريحات كما يشاء، ولا علاقة للحركة بهذا الرجل، لا من قريب ولا من بعيد، وعكس ذلك كذب بين من صحيفة صادرة عن حزب لم يستطع أمينه العام أن يقدم شيئا ذا قيمة لهذا الشعب من وراء ترأسه لحكومة لا نراها إلا في فشل بعد فشل بعد فشل… وإن الربط بين المعتقلين الستة والمتشيع ينم عن خبث نية وسوء طوية لإثبات تهمة التشيع عليهم، وإلا كان يكفي الاتصال بالرجل للتأكد من عدم اعتقاله.
•مستندات يمكن إبطالها كالتالي:
أ-هل اسم "الحركة من أجل الأمة" يحيل ـ في النهاية ـ على ولاية الفقيه عند الشيعة؟
لعل هذا الكلام من أغرب ما قيل في اتهام "الحركة من أجل الأمة" بالتشيع !
وعلى الرغم من أن الحركة حرصت على الانطلاق من المعاني التي ينضح بها مصطلح "الأمة" كما هو في كتاب الله عز وجل، وأشارت إلى بعض من تلك المعاني في وثيقتها المذهبية "رسالة البصيرة" وفي جريدة "النبأ"(4) التي كانت تصدر عنها، إلا أن ما هو غريب قيل !
ففي رسالة البصيرة ورد ما يلي:
"لم يكن اختيارنا لشعار "الأمة" عبثيا واعتباطيا، فقد اخترناه لدلالاته المتميزة:
لغويا، مصدر كلمة الأمة هو الأم (بفتح الألف وضم الميم)، وهو القصد، كما جاء في قوله تعالى "ولا آمين البيت الحرام" (المائدة:2)، أي "ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة". بهذا المعنى، تكون الأمة جماعة حضارية تسعى وتتحرك لتحقيق مقاصد وأهداف وتستوعب وتتجاوز مختلف الوشائج الأخرى كالدم والنسب والقبيلة واللغة والقوم وغيرها…"(5).
وتتابع الوثيقة أنه "حينما نتأمل التجربة التاريخية لأمتنا، نجد أن الإسلام عمل على استيعاب وتجاوز البنية القبلية والعصبية التي مثلت أساس النظام في واقع الجزيرة العربية وغيرها في تلك الحقبة"(6).
وفي جريدة "النبأ" نشر موضوع ـ في حلقتين ـ حول "مفهوم الأمة في القرآن"(7) يذكر أن لكلمة "الأمة" في القرآن معان مختلفة منها: الجماعة من الناس أو الطير، والحين والزمان والمدة، والرجل المقتدى به، والطريقة والدين والملة.ثم عرج الموضوع على ذكر بعض صفات الأمة المؤمنة، وبعض صفات الأمم غير المؤمنة في القرآن.
ولعله من الدلالة بمكان أن يذكر المقال، حين الكلام عن "الأمة" بمعنى "الطريقة والدين والملة"، وبعد إيراد مجموعة آيات في ذلك المعنى، أن "ما يصار إليه هنا هو أن الأصل في الأمة الاجتماع على دين هدى أو ضلالة، وبذلك يحدث التآخي بين أفرادها كما في الآية: "قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار، كلما دخلت امة لعنت اختها…" (الأعراف:36). فهي أختها في الدين والملة. قال البغوي رحمه الله "يريد أختها في الدين لا في النسب، فتلعن اليهود اليهود وتلعن النصارى النصارى، وكل فرقة تلعن أختها، ويلعن الأتباع القادة، ولم يقل أخاها، عني الأمة والجماعة".
هذا الاجتماع على الكفر تشير إليه آية أخرى وهي قوله تعالى "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون…" (الزخرف:32).
وقد يعود أفراد الأمة إلى أصلهم فيجعلون من دين الله وشرعه أساس تجمعهم. يقول تعالى "ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام" (الحج:32). فالأمة هنا أمة مؤمنة اجتمعت على ذكر الله سبحانه وشكره على ما رزقها إياه، أي على مذهب من طاعة الله سبحانه كما قال ابن عرفة رحمه الله…"(8). وهذا يتوافق مع ما ذكرته "رسالة البصيرة" من عدم انبناء الأمة في الإسلام على مختلف الروابط العرقية والقبلية وغيرها، وإنما على دين الله أولا وأخيرا.
فأين الإحالة ـ في هذا ـ على "ولاية الفقيه" كما هي عند الشيعة؟
وزيادة في التوضيح، نشير إلى أن "ولاية الفقيه" لدى الشيعة الإثنا عشرية مفهوم حادث؛ إذ لم يسبق للشيعة الإثنا عشرية أن قالوا بتلك الولاية قبل الخميني، سوى ما كان من شيخين من شيوخ الشيعة هما: أحمد النراقي الكاشاني (ت 1245)، وحسين النجفي النائيني (ت 1355). كما ذكر الخميني نفسه في "الحكومة الإسلامية"(9).
وقد كان لزعيم الثورة الإيرانية الدور الكبير في الدعوة إليها، بل ألف فيها كتابا بنفس العنوان، وهو الذي يعرف الآن بكتاب "الحكومة الإسلامية" كما سبق القول.
وخلاصة الكلام في "ولاية الفقيه" أن الشيعة لم يكونوا يرون الجهاد ولا إقامة الجمع والجماعات في غيبة الإمام المهدي، لكن الخميني طرح فكرة أخرى مؤداها أنه خلال تلك الغيبة لا بد من وجود نائب عن المهدي يناط به القيام بأعماله إلى حين ظهوره، وإلا تعطلت أحكام الإسلام كما يراها الشيعة.وينبغي أن تكون لذلك النائب خصائص وشروط مثلما لمن ينوب عنه. وفي ذلك يقول الخميني: "إن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تؤهلهم للنيابة عن الإمام المعصوم"(10).
وطاعة ذلك النائب كطاعة الإمام، والتي هي كطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . فالحكومة الإسلامية ـ لدى الشيعة ـ يقيمها فقيه له من الصفات ما للمهدي، وفي ذلك إيحاء بعصمته ووجوب طاعته كما سبق.
لكن في رسالة "البصيرة" نقرأ ما يلي:
"يتألف البناء العام لخطنا السياسي من العناصر التالية:
أ. وجوب السياسة من حيث الحكم التكليفي الشرعي.
ب. أن الشرعية شرعيتان: شرعية التنصيب وأساسها الراجح هو الاختيار من الأمة، وشرعية السياسات وأساسها سيادة الشريعة وأداء الأمانات، وأرقى مستويات الشرعية حينما تجتمع شرعية التنصيب وشرعية السياسات"(11).
وقبل ذلك ذكر في نفس الوثيقة أن "الشرعية في الرؤية الإسلامية، كما في التجربة التاريخية للأمة، تزيد وتنقص. فقد تكون الشرعية ناقصة من جهة التنصيب ولكنها قوية من جانب السياسات؛ وقد تكون قوية من جهة التنصيب ولكنها ناقصة من جهة السياسات، وقد تكون ناقصة من جهتهما معا؛ وكلما ازداد النقصان، كلما اقتربنا إلى حالة فقدان الشرعية"(12).أما لدى الشيعة، فالشرعية كلها مفقودة في غيبة الإمام أو من ينوب عنه.
أرني الإحالة على "ولاية الفقيه" هنا؟
إن المنطق الذي تم التعامل به مع هذه القضية، يمكننا أن نلزم صاحبه بكلام تافه من مثل:
- أن عبارة"حزب الاستقلال" بالمغرب، تحيل على مفهوم (استقلال الفقيه الشيعي عن الدولة)، فحزب الاستقلال إذن شيعي !!
- وأن كلمة "الطليعة" في حزب "الطليعة" المغربي تحيل على مفهوم "الطليعة" عند سيد قطب رحمه الله، فهذا الحزب اليساري إذن حزب ذو توجه إسلامي "قطبي" !!
- وأن عبارة "النهج الديمقراطي" (الماركسي اللينيني) تحيل على مفهوم (المنهاج النبوي) لدى عبد السلام ياسين، فهو إذن الجناح السياسي لجماعة العدل والإحسان… !!
وهكذا عبث في عبث !!
ب-ما قيمة دلالة كلمة "البصيرة" في "رسالة البصيرة" على التوجه الشيعي للحركة؟
يرى من ألقى بهذا "المستند" ـ وهو أوهى من بيت العنكبوت ـ أن "البصيرة" "مصطلح عرفاني شيعي صرف"، خاصة وأن "البصائر" عنوان لمنبر فكري ذي توجه شيعي !!
لعل صاحب هذا الكلام نظر إلى استعمال "الشيعة" لكلمة البصيرة وما هو من مشتقاتها في بعض الأحيان، فاعتقد أنه مصطلح خاص بهم !
فمن استعمالاتهم للكلمة ـ وما هو من مشتقاتها ـ مثلا ما يلي:
- من كتبهم المعتمدة كتاب "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار" لشيخ طائفتهم الطوسي، وهو اختصار لكتاب الطوسي نفسه المعتمد لديهم أيضا (تهذيب الأحكام).
- الاستبصار يطلق لدى الشيعة أيضا على "الالتزام بالمذهب الشيعي بعد ترك الملتزم لمذهبه الأصلي".
- ويصف الشيعة أتباعهم بأنهم "أهل البصيرة". وفي "نهج البلاغة" يقول علي ـ رضي الله عنه ـ عنهم أنهم "حملوا بصائرهم على أسيافهم"(13). بل يعتبرون أن من الخصائص الفكرية والعملية لأتباع الحسين رضي الله عنه;في "فاجعة الطف": "البصيرة".
- ويذكر صاحب "أعيان الشيعة" أبا الفضل العباس بن علي بأنه كان "نافذ البصيرة صلب الإيمان"(14). وللشيعة في دعاء زيارة العباس المذكور: "وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتديا بالصالحين".
لكن هل مصطلح "البصيرة"، وما في معناه، خاص بالشيعة، أي "شيعي صرف"؟
من التعسف الجزم بذلك؛ والإشارة إلى بعض استعمالاته عند أهل السنة توضح ذلك:
فقد وردت كلمات "البصيرة" و "البصائر" و"التبصرة" بداية في كتاب الله سبحانه، بمعان متطابقة تقريبا.
ـ فالبصيرة وردت في آيتين بمعنى اليقين والحق والحجة والبرهان، كما في قوله تعالى "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة انا ومن اتبعني" (يوسف:108).
قال القرطبي رحمه الله: "على بصيرة، أي على يقين وحق، ومنه: فلان مستبصر بهذا"(15).
وفي مختصر ابن كثير رحمه الله: "على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي"(16).
ووردت كلمة "بصيرة" أيضا بمعنى الشاهد على النفس، كما في قوله تعالى "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره" (القيامة:14-15).
وأورد القرطبي رحمه الله قول ابن عباس رضي الله عنهما "(بصيرة) أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما، والبصيرة الشاهد…"(17).
ـ ووردت كلمة "التبصرة"، وهي بمعنى التنبيه إلى الشيء أو الدلالة عليه، في آية واحدة فقط هي قوله تعالى: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب" (ق: 6-8).
قال القرطبي رحمه الله: "أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر، يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا"(18).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "… إن النظر في هذه الأشياء "تبصرة" يتبصر بها من عمى الجهل"(19).
ـ أما كلمة "بصائر"، فقد وردت في خمسة مواضع في القرآن الكريم، أربعة منها جاءت فيها بمعنى الآيات والبراهين والدلالة، كما في:
قوله تعالى "قد جاءكم بصائر من ربكم، فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ" (الأنعام: 104).
قال القرطبي رحمه الله:" (قد جاءكم بصائر من ربكم) أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل بها، جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر:
جاؤوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عَتَد وآي
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: "جاءت العافية وقد انصرف المرض" و"أقبل السعود وأدبر النحوس". (فمن ابصر فلنفسه) الإبصار هو الإدراك بحاسة البصر. أي: فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. (ومن عمي فعليها) لم يستدل فصار بمنزلة العمى، فعلى نفسه يعود ضرر عماه" (20).
وفي مختصر ابن كثير رحمه الله: »البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن والسنة«(21).
ـ وقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصائر، وإني لأظنك يا فرعون متبورا" (الإسراء:101-102).
قال القرطبي رحمه الله عن "بصائر" » أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته«(22).
ـ وقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون" (القصص: 43).
قال السعدي رحمه الله: » (بصائر للناس) أي : كتاب الله الذي أنزله على موسى، فيه بصائر للناس، أي: أمور يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرهم، فتقوم الحجة على العاصي، وينتفع بها المؤمن…« (23).
ـ ثم قوله تعالى"هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" (الجاثية: 20).
قال القرطبي رحمه الله: »أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام«(24).
ـ أما الموضع الأخير، ففي قوله تعالى: "وإذا لم تاتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها، قل انما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يومنون" (الأعراف: 203).
ومعنى (اجتبيتها) أي اخترعتها واختلقتها من عندك. قال القرطبي رحمه الله: »(هذا بصائر من ربكم) يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة. أي هذا الذي دللتكم به على أن الله عز وجل واحد، بصائر، أي يستبصر بها. وقال الزجاج: (بصائر) أي طرق. والبصائر طرق الدين«(25).
وقال السعدي رحمه الله: » (هذا) القرآن العظيم والذكر الحكيم (بصائر من ربكم) يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية، وهو الدليل والمدلول، فمن تفكر فيه وتدبره علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة على كل من بلغه…«(26).
فالبصيرة والتبصرة والبصائر في القرآن الكريم هي الدلالة والبرهان والحجة، وهي أيضا القرآن الكريم لدلالته على الله الواحد سبحانه وتعالى، أو على الحق بصفة عامة، وبه تقوم الحجة.
فهل يمكن القول، والحالة هذه أن "البصيرة" "مصطلح عرفاني شيعي صرف"؟
لنترك الجواب إلى حين، ولنتأمل ما يلي:
يتكلم ابن قيم الجوزية رحمه الله عن "البصيرة" في نحو من سبع صفحات، ويقول عنها أنها » نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين«(27). ويقول:" و"البصيرة" على ثلاث درجات، من استكملها فقد استكمل "البصيرة" بصيرة في الأسماء والصفات، وبصيرة في الأمر والنهي، وبصيرة في الوعد والوعيد…"(28).
حاول أحد علماء المغرب، وهو الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، بيان علامات الكبائر على ضوء النصوص القرآنية والحديثية وأقوال علماء الأمة، فصنف كتاب "تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة".
أنشأ بعض الدعاة من أهل السنة والجماعة موقعا إلكترونيا سموه (البصيرة في الدعوة إلى الله)، جعلوا له شعارا آية سورة يوسف (الآية 108 المذكورة سابقا)، وذكروا بعد الشعارعبارة: "الدعوة إلى الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة".
صنف الإمام محمد بن جرير الطبري ـ المفسر والمؤرخ الشهير ـ رحمه الله كتاب » التبصير في معالم الدين«، وهو كتاب » أرسله إلى أهل بلده ومسقط رأسه ومرتع صباه، آمل طبرستان،… أجاب لهم فيه عن مسائل مهمة في الاعتقاد وقيام الحجة على الخلق مما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته الواجبة له، وأصول مسائل الافتراق بين فرق المسلمين«(29)، خاصة المعتزلة.
أما بالنسبة لكلمة "البصائر"، فصحيح أن للشيعة مجلة "البصائر"، وهي فصلية تصدر، كما تذكر على ظهر غلافها، عن "مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في حوزة الإمام القائم". لكن هذا ليس دليلا على أن كلمة "البصيرة" أو "البصائر" ذات منحى شيعي. ويكفي ان نعلم:
- أنه اشتهرت في تاريخ مقاومة الاستعمار الفرنسي، مجلة "البصائر"، لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثلاثينات من القرن الماضي؛ وقد رأس تحريرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، وأعدادها التي تحوي المقالات الصادرة بين 1935 و 1939 جمعت أخيرا في كتاب في أربع مجلدات، صدر عن دار الغرب الإسلامي تحت عنوان "عيون البصائر"(30).
- أن هيئة علماء المسلمين في العراق، ذات التوجه السني، تصدر جريدة "البصائر العراقية".
- أن مجلة كانت تصدر بالأردن تحت اسم "البصائر"، وكانت تعرّف بكتب التراث خاصة كتب الحديث.
- أن الشيخ عبد الله بن سفر عبادة الغامدي، وهو عالم سني كما هو معلوم، يشرف على موقع يدعى "البصائر". "يهتم بنشر العقيدة الصحيحة على منهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة…" كما ذكر عنه فيه.
- أن لابن نجيم الحنفي (زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم) رحمه الله كتابا في الأشباه والنظائر، مشروحا تحت عنوان "غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر".
- أن من أجل الكتب في علوم القرآن، خاصة التفسير، كتاب "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" للفيروزآبادي صاحب (القاموس المحيط) في اللغة. وفي (بصائره) يشرح مفردات القرآن، ويعرف بسوره… بل يجعل لكل تعريف عنوانا هكذا:
- "بصيرة في الحمد" أي الفاتحة.
- "بصيرة في ألم ذلك الكتاب…"
- "بصيرة في ألم الله…" أي آل عمران…
- أن مجلة تدعى "بصائر الرباط" تصدر ـ كما تذكر عن نفسها في غلافها ـ عن "دائرة الرباط العلمية للبحث في الدراسات الإسلامية"، ويرأس تحريرها أستاذنا في علوم الحديث الدكتور فاروق حمادة حفظه الله.
والأمثلة كثيرة !!
وفي كلمة "التبصرة"، معروف أنه لابن الجوزي رحمه الله كتاب في الوعظ والإرشاد يسمى "التبصرة"، وألفية العراقي رحمه الله في مصطلح الحديث هي "التبصرة والتذكرة". ولدينا في الفقه المالكي ـ كتاب اللخمي (أبو الحسن علي بن محمد الربعي) الموسوم: التبصرة. ولأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله، صاحب "المهذب" في الفقه الشافعي، كتاب "التبصرة في أصول الفقه". وللإمام المقريء مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هجرية) كتاب "التبصرة في القراءات السبع"…وهكذا.
وببلدنا، يصدر المجلس العلمي المحلي بالدار البيضاء أسبوعية – تصدر مؤقتا شهريا- تسمى "التبصرة" ويدير تحريرها أحد علماء البلد: السيد رضوان بنشقرون حفظه الله.
فهل يتهم كل من مر ذكرهم بالتشيع لارتباطهم بكلمة "البصائر" بطريقة من الطرق؟
وهل يمكن مثلا أن يزعم أحد أن من يصدر جريدة "المحجة" بفاس شيعة، لوجود منبر إعلامي شيعي بنفس الإسم (مجلة "المحجة") كما ذكر أول من أطلق ذلك الاتهام ، اعتمادا على الكلمات المذكورة أعلاه
إننا لم نطل في ذكر استعمالات كلمة "البصيرة" وما هو من مشتقاتها لدى أهل السنة والجماعة؛ وقد اقتصرنا على ما ذكرناه كي يظهر للقارئ الكريم أن اتهام من استعملها بالتشيع لمجرد ذكرها لدى الشيعة هو اتهام ممن "يهرف بما لا يعرف"، كما يقال، لأبرياء بتهمة الابتداع، وقد تكون ألصق بالذي اتهم (بفتح التاء) خاصة وأن له سابقة النشر في منبر إعلامي شيعي كما سيأتي.
الهوامش:
1- عدد 20973 بتاريخ 20 فبراير 2008.
2و3 مقال "محمد المرواني … من الشبيبة الإسلامية إلى مشروع حزب الأمة" ليونس دافقير، جريدة الأحداث المغربية، عدد 3300/ الأربعاء 20 فبراير 2008.
4- المرجو ألا يربط أحد بين اسم الجريدة المذكورة "النبأ" وبين المنبر الإعلامي الشيعي "النبأ" مثلما فعل البعض في الربط بين كلمة (البصيرة) في "رسالة البصيرة" وبين كلمة "البصائر" المنبر الشيعي، إذ صدور جريدة "النبأ" بدأ في أكتوبر 1997، في حين بدأ صدور المنبر الشيعي بعد ذلك بسنوات.
5- رسالة البصيرة ص 46/47.
6- نفسه ص47.
7- الموضوع منشور بتمامه في موقع سراج، وفي مدونة الالتزام على الرابط الآتي ذكره.
8- مقال "مفهوم الأمة في القرآن" لحسن لمعنقش، منشور على الرابط hassanla.maktoobblog.com
9- كتاب "الحكومة الإسلامية" ص 74.
10-المرجع نفسه ص 113.
11- رسالة البصيرة ص 174/175.
12- نفسه ص 174.
13- نهج البلاغة، الخطبة 148 ص 301 .
14- أعيان الشيعة، 7/430.
15- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ص 9/207.
16- محمد نسيب الرفاعي: تيسر العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير ص 2/503.
17- القرطبي: مصدرسبق ص 19/72.
18- نفسه ص 6/17.
19- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي رحمه الله، ص 804.
20-القرطبي مصدر سبق ص 7/43.
21-محمد نسيب الرفاعي، مصدر سبق ص 2/147.
22 - القرطبي، مصدر سبق ص 10/249.
23- الشيخ السعدي، ص 614.
24- القرطبي، ص 6/120.
25- نفسه ص 7/255.
26- السعدي، ص 310.
27- مدارج السالكين ص 1/105.
28- نفسه ص1/106.
29- التبصير في معالم الدين للطبري ص 10/11.
30-الكتاب مطبوع بتحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت.
التعليقات (0)